الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عناصر منفصمة...13

محمد الإحسايني

2007 / 2 / 14
الادب والفن


رواية
تقاييد مخطوطية بحثاً
عن صفاء الأرومة
رن جرس التلفون:
- آلو؟..
- نعم.
- هل هو موجود؟
- لا يا سيدي، من أنت؟
- اسمع جيداً، أنا كاتب المحامي الأستاذ فضول، قل له: إن قضيته قد انتهت لصالحه.
وضع جعيبة آلة الهاتف: "الأستاذ فضول؟ أي قضية؟ ثم أدار رقم هااتف منزل عبد الحميد، فسمع صوتاً نسائيا:
- آلو...؟
- عبد الحميد من فضلك؛ هذا جعيبة معك.
قالت غيثة:
- ألم يصل إلى المكتب ؟
- كلا...
- هل هناك أمر مهم؟
وتمتم جعيبة:
- المحامي فضول، أخبرني كاتبه، أن قضية السي حميد سويت لصالحه.
- أي قضية؟ آلو ؟
رد جعيبة في سذاجة:
- علمي علمك، سيدتي.
أقفلت غيثة السكة. في الضابطة السرية، عرضوا عليه الاعتراف...
كان حميد الذي طُرد من الدرب، لم يره إلا في المكتب السياسي للضابطة السرية، بزنقة بيجو. بصق كبور على وجهه، حاول أن يفتك به. لكن رجال الشرطة لووا يديه وراءاً، ثم راح آخرون يسددون لكماتهم إلى وجهه. لم يسترد وعيه إلا داخل الزنزانة. على أن حميداً، بعد رجوعه من الجنوب، نهائياً، لقيه في شارع 11 يناير، يبدي أسفه، وأنه تاب. وما لبث أن صار من أكبر زبائنه، يلتهم الجرائد الدولية، والوطنية، والعربية، بنهم شديد، خاصة المخطوطات المصورة التي تتحدث عن تاريخ قبائل المغرب و الأندلس.
منذ أيام، عرض عليه كمية من الصور، لنساء، ورجال، في أوضاع مخجلة، أبدى له كبور اعتذاره: "أبحث عن زبون آخر. لم أعد رجلاً. أنت تعلم كل شيء !"
وليس ثمة ما يجعل كبوراً يطمئن إليه، لأن " صاحبنا- كما يقول- نفعنا الله ببركاته، لعب لعبته مع الحكام الفرنسيين".
في الأول، حاول الدرب أن يخفف من ألم الصدمة، امتزجت رائحة الخيانة بالدم؛ لم يعد الدرب، فضاء واسعاً؛ استحال إلى قلوب شتى، فصلت من جسد واحد، تدوسها أقدام المنحرفين.
حقاً جمد حميد كل الابتسامات في الوجوه. ولم تكن الحياة مملة في الدرب وحسب؛ بل صدمت أهله بشرورها المتوالية، يوم انكشفت الأوراق !
وعرفت بقالة بلاق زمناً أحاديث عن انحرافه، وتفكه بها الندامى، بينما كانت الخيمة التي ضربها ميلود القهوجي مليئة بفتية يتناولون فيها الشاي والقهوة والفطائر، والأكلات الخفيفة، أحيانا بدون تأدية واجب، يبدي لهم ترحيباً مفرطاً: "كلوا من فضل الله، أيها الصعاليك الصغار ! " ثم يصيح في انتشاء:"حرامية" "فيردد الفتية بدورهم: "حرامية ! " كانوا أكباشاً تسمن للعيد.
ميلود أسمر، حاد البصر، يسأل رواد المقهى عن الفدائيين وأنشطتهم. كان الرواد يتكلمون ساردين أخبار الفداء في حماس، كل حسب روايته. وكان كبور أبرز الرواة. ويوم مقتل أمين سوق الدرب، انكشفت خيوط من الحقيقة؛ قبل أن يأخذوا كبوراً وجعيبة إلى السجن: ذهب ميلود، يتسقط الخبر، ولما تأكد لديه بما لا يدع مجالاً للشك تصفية حياة أمين السوق، قفل راجعاً بدراجته، فما أن اقترب من المقهى، حتى سمع رواده، صوت مفرقع، نزل على التو استحالت بشرته السمراء إلى بياض، فوجد نفسه يردد بلا وعي، وبصوت عال مثير، وهو يسير القهقري: " لست مخبراً؛ دعوا رجلاً تقياً، سامحكم الله !" وجرى إليه جلساء المقهى، يشدون من عزيمته: " ميلود، سبحان الله ! عجلة الدراجة هي التي انفجرت" هدأ روعه، التفت ذات اليمين وذات الشمال، حوقل وبسمل: " نحن في آخر الزمان؛ اختلفت الأمور؛ اللهم قو إيمانهم، وشد من عزيمتنا بدورنا، يا إخوان، قوموا، والزموا بيوتكم !"كانت آخر كلمات يودع بها ميلود خيمته وفتية الدرب.
في الصباح التالي، لم يزر مقهاه أحد؛ ظل أياماً بلا جليس، ولا أنيس، ثم ارتحل عن الدرب، بعد أن افتضح أمره.
لم ينتبه جعيبة أن في الصالة شخصاً ينتظر، عندما حادث غيثة. سلم عليه جعيبة، ثم سأله:
- هل من حاجة؟
- إذا سمحت؛ هل يمكن لي أن أنتظر الأستاذ عبد الحميد؟
- من أنت؟
- عبد الواحد السملالي.
أشار إليه جعيبة بالجلوس في برود، خامر عبد الواحد السملالي موجة من مقارنة حال بحال، وعصر بعصر، وبيئة ببيئة، فقال في نفسه: "إن الغريب، غريب حيث ما حل" وفعلاً، غاب شهوراً يبحث في الأصول والفصول، والسلالات. لكن أحداً لا يهتم ولا يأبه به " لي حال، ولهم حال" يقول عبد الواحد السملالي، بالرغم من أن جعيبة، بدا له ساذجاً، وبرغم بروده؛ فهو مضطرب.
وإذ أوجس جعيبة شكاً من عبد الواحد، سأله:
- منين ملخوت؟
- أخوك في الله.
حرك جعيبة رأسه، دلالة عدم فهمه مقصد الرجل. "لي حال، ولهم حال. "هؤلاء الناس الذين يعيشون في غرب المملكة ! أينما كانوا، سيرجعون إلى الحقيقة، الدم لا يتنكر للدم..."
بعد حوالي نصف ساعة، جاء عبد الحميد، استبقى جعيبة، أخذ منه هذا الأخير المعطف، فوضعه على المشجب، ثم دخل وإياه المكتب. أما عبد الواحد، فقد ظل في مكانه لم يتحرك، وطال به الأمد، حتى داخله الشك في وجوده: "هل وقع بصره علي، أم رآني متسربلاً أسمالاً بالية، منتعلاً خفين من الجنوب، فاختلط عليه الأمر؟"
وأخيراً جاء جعيبة يأمره بالدخول، سمع صوت عبد الحميد، يؤكد لجعيبة ألا ينسى المرور على كبور في كشك الجرائد...
لما دخل مكتب عبد الحميد، بدا له، أقوى مما كان في الباشوية بالجنوب. وكان قد تعرف على عنوانه، بواسطة سائقه الخاص، الذي حكى له عن فعلته الشنيعة، غير أن عبد الواحد، حذره من أن يثق بالنساء، فهن، مثار الشبهات دائماً.
أمره بالجلوس، ثم قال:
- ما حاجتك؟
اندهش عبد الواحد: (أجواء السلطة لم تفارق عبد الحميد، فهو هو !) ثم استدرك:
- سبحان الله ! هل نسيت؟
أطرق عبد الحميد ملياً، ثم شرع يستطرد كمن يتذكر:
- آه ! عبد الواحد السملالي؟ إذا لم يكذب ظني. أين غبت كل هذه المدة؟
- في المهمة التي كلفتني بها
خرجت الكلمات من فمه باردة، ثم اشار إليه عبد الحميد، وهي لا يكاد يصدق ما رأى وما سمع:
- لا تخرف !
وهنا، لم يسع عبد الواحد سوى أن يمد إليه التقرير، ومصورات وثائقيةضاربة في عمق القدم، استلمها منه ثم شرع في القراءة:
" هذه الأخبار مدونة في الأصل بخط مغربي أندلسي رفيع، بعث لي بها في سفر، أستاذ سابق من أهل الفلسفة و المنطق، وذلك من غرناطة.
رجاني ألا أذيع اسمه في الناس، فاتفق معي أن أرمز إلى اسمه بحرف (ب). وقد علمت من تقرير الأستاذ (ب) أن جد أسرة الأستاذ عبد الحميد بن سحنون، من فصيلة آل الواشم (مزمم) بزمام مخطوطة حديثة العهد، ترجع إلى العهود الأولى لاحتلال فرنسا لسوس. أما آل الواشم؛ فقد انحدروا أوائل ظهورهم، بالسوس الأقصى؛وهم من الطائفة التملية المشمسية، من أهل جزولة أصلاً. ووالد محبنا من سملالة مولداً، ومن أهل درعة محتداً. وكان صدراً من الصدور الجلة، وعلماً من أعلام تلك الملة. وكان جدهم الأكبر آخر من غادر غرناطة. وقد وردت عليه أسئلة في القياس، كما في المنقول، من فقهاء البربر، بمطارحات عديدة، ومراسلات سديدة، في مسألة تسليم أبي عبدالله غرناطة إلى الطاغية فرناند ومصحوباً بإزابيلا، في يوم مشهود، وهو على خذلانه غير محسود. بل كانت ترثي له قلوب العدا. وهل يليق برئيس الدولة أن يكون أول المستسلمين الهاربين أو كان أولى به أن يلبس الحديد ويقاتل حتى الشهادة أو النصر... ثم عن طفولة أبي عبد الله وصباه وهلم جراً...
وأخيراً هل يجوز للعلماء وأعيان غرناطة أن ينصحوا الخليفة بالاستسلام أو أولى بهم أن يدعوا إلى الجهاد ، وتنظيم الدولة من جديد؟
وقد رأى أبو علي الواشم أن الاستسلام مصادم في الحقيقة، للشريعة، ومخالف للسنة والكتاب، ومستوجب في الدنيا والآخرة للعقاب، بما في ذلك من جبن، وضعف، وخيانة. وكان مما برأ به أبو علي الواشم ذمته من التبعات، ما نص عليه في فتواه، من وجوب على الفقيه المتكلم، أن يميط اللثام عن الغوامض، وأن لا يخاف في الله لومة لائم. وبذلك أرضى حوافز البرابرة الصناديد، فألحوا عليه أن يلتحق بأنسابهم، ففعل.
وهذا التقرير مستقى أغلبه من كتاب مشهور في السوس الأقصى بـ بدء الدنيا بقلب الهمزة المتطرفة واواً حسب نطق أهل السوس. وكان قائد الجيوش الفرنسية الغازية، في معركة الدخول إلى وادي أملن، قد استولى على نسخة منه محفوظة فوق قمة حبل الكست، وذلك بواسطة مخبريه من العملاء. وبقيت النسخة الثانية في ملكية عائلة الأستاذ (ب) من غرناطة؛ سابقاً وهو أيضاً من أهل السوس الأقصى.

ملاحظة:
هذا التقرير لا يتعلق بمتن الكتاب المذكور، وإنما بتذييلات، وتعليقات، وحواشي وإفادات السادة العلماء الذين كانوا يتوارثونه. وقد حذرني الأستاذ (ب) من بعض الأغلاط الإملائية، والنحوية، مما قد يقع سهواً. وحيث إن أهل السوس الأقصى يتكلمون الإمالة، مثلهم، مثل أهل غرناطة، ودمشق، فإنني قد راعيت هذه النقطة من سياق الكلام. ولكنني لم أجد أي غلطة إملائية أو نحوية، عدا بعض أشكال كتابة الهمزة. وعلى أي حال؛ فالتعليق أكثر سلامة من كتابات أهل زماننا هذا. فنحن قد شاعت في ألسنتنا اللحنة، واللكنة. ولهذا، كاتبت الأستاذ (ب) أن يعفيني من المهمة، خاصة وقد ظفرت ببغيتي عن آل الواشم، من رقع سوسية، وتقاييد تدون أخبارهم. وما جرى لجدهم الأكبر، من جدالات مع علماء سوس. أريد بذلك، أن أتجنب الوقوع في زلة لسان. ولكن (ب) كان ملحاحاً.
ولما كان أهل الأندلس، يتألفون من أندلسيين أصلا، وبرابرة، وعرب و زنوج، و أفرنج- وهناك من يشكك الناس في فتح طارق للأندلس، بمراوغات ألد جاحدة- فإن تبعة الانتكاس قمينة أن يتحملها الجميع، لا طائفة دون أخرى، فالصراع كان قائماً على أشده، بين الطائفة النصرانية المستعربة والنصارى الأفرنج، حول اللغة التي تلقن بها (الطقوس بعد انحسار المد العربي عن شبه الجزيرة الإيبيرية...).

"حاشية على الحاشية:
يعكف الأستاذ (ب) بدوره، على البحث عن أرومته في مكتبة الأسكوريال. صادف؛ وهو يبحث عن سقوط طليطلة، وثيقة جاء فيها: "اشترى الإجبرشت (يظهر أنه رئيس الكهنة باللاتنية) الأجل (لـ منه تفلاوش) أدام الله عزه، جميع النصف من المسجد الذي بحومته (سنته مرية) بحضرة طليطلة- حرسها الله- حد هذا النصف، المذكور في الشرق، النصف الثاني الذي هو لأختها (شول)، وفي الغرب، الدار التي كانت (لابرسيوه). وفي الجوف، الطريق، وإليه شرع الباب بثمن مبلغه ثمانية عشر مثقالاً من الذهب الطيب الوازن.
في العشر الآخر، من شهر مايو خمسة ومائتين وألف.
والشهود: عبد الرحمان بن عبد الملك، ودمنقة بطرس الباسي، وعبد الله بن عمر بن بوانش بن سليمان، وعامر بن يحي بن بلاي".
(توضيحات مغربية أندلسية: الحومة: الحارة. الجوف: من أسماء الجهات الأربع بالأندلس. زمام: رزنامة: تقييد والجمع تقايد: سجل. فتحاً: نطق ميم محمد بالفتح. وما عدا ذلك، أسماء قبائل وأماكن، وأعلام.)
وانتقل إلى المخطوطة التي ترجع إلى القرن الثامن الهجري، فأحس بالحبور يجتاح صدره، ثم تصفح بقية الصكوك السوسية، فوجدها متطابقة لجوهر التقرير الذي كتبه عبد الواحد السملالي. مد يده، ففتح الخزانة الحديدية، أخذ منها ملفاً ناوله لعبد الواحد، طالباً منه أن يفحصه، فيما إذا لم تنقصه وثيقة إدارية.
قلب عبد الواحد الملف، فحص الأوراق واحدة واحدة. الوثائق هي هي، لم تزد ولم تنقص. بدا عليه شعور بالغبن، سأله:
- هل انتهت قضية الأرض؟
- قضية الأرض؟ (كأنه ينكر سؤال محدثه، ثم أضاف):
- تلك قضية لم تنته ولن تنتهي.
قبل أن يتكلم عبد الواحد ليبدى احتجاحه. قال عبد الحميد:
- لكن، بالنسبة إليك، فقد اتفقت مع المسؤولين أن يضيفوا لك بعض الهكتارات بعقد عرفي.
ثم مد إليه نسخة العقد.
وكانه يعاتبه:
- تغيبت يا أخي أكثر من اللازم. صورتك نشرتها الجرائد( وكأنه يبرر موقفه):
- أين تريدني أبحث عنك، لكنني على أي حال، أدين لك مدى الحياة.
ولما هم بالانصراف، تمسك به فاستبقاه لحظة، ثم مد إليه رزمة من الأوراق المالية، أبى أن يأخذها، وضع عبد الحميد يده على فمه محذراً إياه:
- إياك والقسم، خذها لك مني هدية !
وانصرف ممنوناً، لكنه أخذ طريقه إلى دورة المياه، مما جعل جعيبة ينبهه، ويصاحبه إلى الباب.
جمع عبد الحميد الأوراق، ثم وضعها في الخزانة الحديدية. وقام، فضغط على زر الجرس، فبدت له طلعة جعيبة واقفا وعلى استعداد، بعد أن وضع الجرائد أمامه.
- ألم يسأل عني الأستاذ فضول المحامي
ناوله الصحف ثم قال:
- بلى سيدي، لقد أخبرت حالاً للاغيثة.
- ماذا قلت لها يا وجه الويل؟ (واشتاط عبد الحميد غضباً)
- القضية سويت لصالحك
- أي قضية يا وجه النحس؟
- لا أدري.
أدار رقم هاتف الأستاذ فضول. الجرس كان يرن. غير أن الخط لا يجيب. نظر إلى ساعته، فرأى الواحدة إلا ربعاً. وتنبه أن له موعداً مع سعاد وولد بريك في مطعم الجعة.
وبسرعة، كان يعبر شارع 2 مارس، دون أن ينهمك في إعداد نفسه في التواليت. فاسمه، قد دخل التاريخ، من بابه الواسع، أحب من أحب، وكره من كره. فالأخطاء المشكوك في ارتكابها، متزامنة، ومتأصلة في الخط التاريخي. فليذهب صاحب لامية العجم يشوي الفول السوداني !
الطريق مقفر سوى من باعة الجرائد على الرصيف.
أقبل على مطعم الجعة، ودلف إلى الرواق في عصبية بالغة. هناك ولد بريك يقبع وحده بدون سعاد، تلقاه هذا الأخير بالترحاب. سأله عبد الحميد عنها فطمانه أنها في طريقها إلى المطعم. ثم اقتعد كرسيا فشرع يتحدث عن الخطأ التاريخي، ومتى ينبغي اعتباره تاريخياً، ومتى يمكن اعتباره مجرد نزوة، ثم عن القدر المقدور في الكون، وأن الحياة أشبه بمسرحية يعلم مؤلفها كيف ومتى تنتهي، وأن علينا، نحن، أن نتقن أدوارنا، ونجردها من الفطرة، بل إن علينا أن نمارسها اصطناعياً، وبخدع فنية غاية في الإتقان والمهارة، علينا أن نتقن أدوارنا وحسب ما ارتكبناه، وكان مقدراً؛ فلا جدوى من الحيطة.
كان ولد بريك، يتابع عبد الحميد دون أن يشاركه آراءه. فالحديث ذو شجون: تذكر عندما جمعهم المسؤول الحزبي أن بعض الإخوان المناضلين لم يحضروا الاجتماع التحضيري للتداول حول المشاركة أو عدم المشاركة في الانتخابات العامة.
ثم أقبل عليهم، يتفحصهم، واحداً واحداً، وببرودة، راسماً بيده دائرة حصر وانحباس:
- هل هؤلاء الإخوان؟...
قال زميله المساعد:
- هم ملحقون جدد بالحزب، أما بقية المناضلين القدامى فإنهم مازالوا يقبعون في السجن.
جاء الخادم متثاقل الخطى. انحنى نصف انحناءة، ثم مد إلى عبد الحميد لائحة المشروبات الروحية الفاخرة:
سكوتش، فيوصولاي، فالبيير، يورتو، فات 69... كابيرنه... آه. "حتى خمر الطبخ يجعلونه من المشروبات الفاخرة !"
سأل عبد الحميد ولد بريك؛ فيما إذا كان يحب النبيذ المعتق، أجاب هذا الأخير، بتحريك رأسه بالموافقة، ثم التفت إلى الخادم:
- واحد فيوصولاي من فضلك.
مضى زمن كان لا ينتصب فيه أمام عينيه غير عناقيد عنب، تعتصرها جوار حسان بسيقانهن، ثم توضع في قوارير وبراميل، بعد أن يختم عليها بأوراق الورد.
وها هو اهتمامه يتجه نحو سعاد، ومن ثم كان يسأل ولد بريك مراراً فيما إذا لم يقع لها عارض يثنيها عن الحضور. فما كان من ولد بريك إلا أن استسمحه قصد الاتصال بمنزلها.
وضع الخادم زجاجة الفيوصولاي، وكاتالوج الطبيخ."سأختار الروزبيف مع الأرز الفائر"
- طبق رزبيف، بأرز فائر مع سالطة بالأفوكا: ثلاثة أشخاص.
سجل النادل الطلبية ومضى.
تهلل وجه عبد الحميد: "لا شك أن الأستاذ فضول قد ربح القضية، وقد يرمي القاضي زوجة السائق بمحاولة الفساد معترضاَ على التعويض المادي والمعنوي الذي تقدم به محامي الخصم. إذن، غداً يرجع إلى منصب الباشوية. لا بأس ! فلتذهب الوظيفة إلى الجحيم !
هرول ولد بريك فاقع اللون، مضطرباً، يجلس بسرعة قبالة عبد الحميد، الذي أبدى تشاؤماً بدوره:
- هل حدث شيء غير عادي؟
تهرب ولد بريك من السؤال:
- لا شيء، سعاد لن تحضر.
وإذ بقي التساؤل ظاهراً على قسمات عبد الحميد، أضاف ولد بريك:
- هناك خلاف عائلي، لا تأبه.
دون سرد بقية التفاصيل. صب عبد الحميد الخمرة، قرقعا الكوبين، فهتف حميد:
- على صحة سعاد الغائبة !
ثم نادى على الخادم. ولما حضر، أمره أن يحمل إليه طبق الروزبيف، لكن لشخصين فقط. فغاب النادل عن الأنظار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا