الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة - بووووه هااااه

مصعب فريد حسن

2007 / 2 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


كان كل منا ينحت تمثال عزلته بأزميل ضجره , ليضعه في البهو الفسيح لذاته المكتظة بضيقها , وعندما كنا نلتقي في تلك الحانة , كلِِ على طاولته الخاصة به , لم نكن نفعل أكثر من استعراض تلك التماثيل أمام بعضنا البعض وباتفاق ضمني على عدم النظر مباشرة وبشكل علني إلى عزلة الآخر , كان ممنوع على العيون أن تلتقي , لأن تلك التماثيل سريعة العطب تحطمها نظرة قصدية واحدة , مهما كانت رقتها , وإذا تكررت تلك النظرة على أحد ما , كان يضطر هذا ( الأحد ما ) على استعراض فولاذ روحه بأقسى أشكاله . و كريستال العزلة الأكثر لمعانا , كان يجسده كثرة شربك للكحول . إنها حانة الزبون الواحد للطاولة الواحدة , لن تجد أبدا شخصين على نفس الطاولة إلا بالصدفة , وإن وجدا فهما لن يتبادلا الحديث وسيتعاملان وكأنهما حقا على طاولتين مختلفتين , وطبعا بلا عدائية . كنا نبتلع ذواتنا بحيث لا يبقى منا إلا أجسادنا تطفو على سطح كل منا , عيوننا كانت الحد الفاصل بين عالمنا الداخلي وعالمنا الخارجي , عيون محكمة الإغلاق لن يتسرب عبرها شيء من وإلى الداخل أو الخارج , فأنت هنا فقط لترطب عزلتك بماء عزلة الآخرين . حتى أن أحدا لم يكن يكترث لصاحب الحانة وهو يحك أو يلعب بخصيتيه , أو عندما يُدخِل يده داخل سرواله لحكة مفاجئة في أعماق إسته, ثم يعود ويتبِّل بنفس اليد اللحمة التي ستصبح لذيذة بعد قليل .
في هذه الحانة , كما في كل مكان في هذا العالم يجب أن يكون لك فلسفة ما أو هلوسة ما أو زاوية نظر ما , تطل من شرفتها على معدن الكون, فقد تكون فلسفتك من نوع بوووه أو من نوع هااااه , فأنت لا تحتاج من اللغة سوى هذه الأحرف التي قد تكفي للتعبير عن الوجود و الحياة , بحيث يردم الكحول فجوات اللغة والتفكير لتستطيع التوازن أكثر فأكثر .
بووووه بصوت خافت و بنفثة واحدة وكأنها حمم تخرج من بركان خامد منذ الآف السنين وهاهو يعود للتنفس من جديد , بووووه من فم جاري على الطاولة المجاورة يقولها بعد رشفة عظيمة من كأس الكحول , و الشياطين وحدها قد تعلم ماذا يمكن أن تعني هذه البووووه , يقولها ويعود للغرق في كأس الكحول مجددا ليقرأ فيه كل تاريخ البشرية , سأعتبر البووووه فلسفة ,أو وجهة نظر , أو زاوية رؤية , ما إن يزفرها حتى كانت تتشظى وتتناثر في أركان معمورة السكْر هذه , لترتطم بالكون الفلسفي لجاري الآخر على الطاولة المجاورة الأخرى , فتحرض فيه مرجل اللغة والأحاسيس , وبمغازلة أو تعاطف أو إيحاء من بوووه الأول , كان جاري الثاني يقول هااااه بنفس نبرة وخفوت صوت الأول , يقولها و يغرق في كأسه هو الآخر , وأنا هنا أمام كأسي أقبع متخفيا بلامبالاة الآخرين بي , أتجسس من بين شقوق الكحول على هذيان المعنى في طزاجة وبراءة تلك التنفسات الفلسفية في بووووه الأول وهااااه الثاني , كانت تيارات من ألم وأنين وربما فرح وغبطة في زحمة العزلات تلك . لم يكن أحد سوانا نحن الثلاثة يمتلك الرغبة أو القدرة على متابعة دفقات البووووه و الهااااه , هكذا كل يوم وعبر كل سكرة كانت تمر بووووه الحزن وهااااه الفرح أو بووووه الضجر وهااااه الألم .
ويوما بعد يوم , عندما يكون كل منا على طاولته المعتادة , كانت تتوطد تلك المؤامرة الشعورية والنفسية بين البووووه والهااااه من جهة و مراقبتي المتعاطفة من جهة أخرى . اليوم وبعد عدة كؤوس وبلا مقدمات وبلا استئذان ودون اعتراض, وبعد أن أطلق الأول بووووه من العيار الثقيل أطلقها بغصة ومرارة وبطريقة موجعة وغريبة , انتبه إليها رجل الهااااه جيدا لدرجة أنه قام عن طاولته وجلس على طاولة البووووه , دون كلام ودون نظر إلى عينيه قال وبنفس نبرة وغصة البووووه , قال هااااه عظيمة , متعاطفة , و بنفس درجة الغرابة , هااااه بجسد وروح وملامح , بأذرع وصدر ووجه وفم , هااااه تجسدت إنسانا جلس إلى جانب البوووه كإنسان آخر , وغرقا كل في كأسه على نفس الطاولة , و دون وعي أو تخطيط وبعد أن بلغ الكون عندي مداه الأقصى , وبدمعة تفر من عيني وقفت واتجهت صوبهما , وضعت كأسي على طاولتهما , و دون أن يلتفتا نحوي , ودون أن أنظر بوجهيهما , جلست معهما وأنا أقول لهما بما يشبه الهمس وبنفس الغصة بااااه حزينة متألمة متعاطفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سوريا ما بعد الأسد... ديمقراطية أم عودة للديكتاتورية؟| المسا


.. إسرائيل تدمر أهم المواقع والمطارات والأسلحة الاستراتيجية وأن




.. آلاف السوريين يتوافدون إلى سجن صيدنايا -قلعة الرعب- بحثا عن


.. هكذا تستغل إسرائيل سقوط نظام الأسد في سوريا




.. حصري لسكاي نيوز عربية.. آثار قصف الطائرات الإسرائيلية لشاحنا