الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهادة روائية مبكرة عن ظاهرة الاختفاء السياسي

حمزة الحسن

2003 / 7 / 30
مواضيع وابحاث سياسية



 

*شهادة عن رواية المختفي.

تولدت فكرة كتابة رواية( المختفي) على إثر مكالمة هاتفية قبل خمس سنوات تقريبا مع أحد أشقائي حين سألته عن السيد عادل العبيدي وهو ضابط مجند مسرح وصهر العائلة ( زوج كبرى بنات الأخت) الذي كان يعاني من مرض  خطير بسبب  مادة اليورانيوم المنضب وكنت قد أخذت على عاتقي بفرح تحمل مسؤولية علاجه، لأن الرجل كان مقعدا وصاحب عائلة كبيرة تتكون من أربعة أطفال ينام معهم في زريبة من الصفيح بعد أن باع المنزل القديم.

كان اخي مترددا في الهاتف وحاول أن يلتف على الأمور كي يخبرني بالمصير الغامض الذي انتهى إليه عادل، قال مضطربا:

ـ عادل ذهب لاستلام رسالة منك من بريد العزيزية لكنه لم يعد حتى اليوم!

وكان طبيعيا أن أسأله:
ـ متى ذهب إلى البريد؟

واضعا في ذهني أنه ذهب قبل ساعات أو دقائق، لكن الرد الآتي هو الذي فجر عندي فكرة هذه الرواية. قال:

ـ ذهب إلى البريد قبل نصف سنة!
جفلت وسألته:
ـ نصف سنة ولم يعد؟!
ـ نعم.

قالها جافة مرتبكة عميقة ومن صوت محبوس .كررت عليه لرفع أي لبس أو شك أو غموض:
ـ ذهب إلى البريد قبل نصف سنة ولم يعد؟!
وبذات الصوت التالف أجاب:
ـ نعم، لم يعد منذ نصف سنة.

إذن خرج عادل العبيدي ولم يعد. ذهب مع الريح كما كنا نقول همسا عن ظاهرة الاختفاء السياسي وهي من أفظع الظواهر السياسية الإجرامية في العراق خلال المرحلة الفاشية.

تأتي عادة سيارة سوداء بعد منتصف الليل. يطرق شخص ما الباب. يخرج أحد ما مذهولا وخائفا. حوار قصير عن الحاجة لحوار مع السيد فلان لمدة( خمس دقائق!) مع كلمة شرف من رجال المخابرات بانه سيعود في أقرب وقت.

وبعد مرور ربع قرن تسأل العائلة عن المختفي فيأتي الرد مختلفا:
ـ لم يصل إلينا حتى اليوم وربما تعطل في الطريق!
ـ هرب من السجن وعاد إليكم!
ـ مات!
ـ لا نعرفه!
ـ لم نسمع بهذا الاسم!
ـ أعدم!

 لكن الرد المألوف عادة هو عدم السؤال عن المختفي لأنه حين يختفي فيجب أن يكون ذلك من السجن والمجتمع والصور والأحاديث والذاكرة.

إنه لم يكن موجودا يوما على سطح الأرض، ولن يكون موجودا  بعد اليوم فوقها، أو حتى تحتها. كان شيئا طارئا أو دخيلا أو نزوة عابرة في هذه الحياة وتلاشت.

يجب نسيانه فورا.

بهذه الصورة يتم تهديد الذاكرة. إنه نوع من سلطة الاجتياح والسطو والغزو ولا معنى لأي كلام عن حقوق الإنسان، لأن المختفي لم يكن في أي يوم انسانا ابدا. كان خطأ بشريا أزيل على نحو ما ولو بصورة متأخرة.

تلك المكالمة وما حدث في ذلك المساء وخزين الذاكرة، كل ذلك أستفز الجسد والخيال والرغبة. مصادفة أخرى أحرقت بقيا الدغل اليابس والمنتظر حين عرض التلفاز المغربي في المساء نفسه (1998) مقابلة مع شرائح مختلفة من حقوقيين وسياسيين ومثقفين عن ظاهرة الاختفاء السياسي في المغرب ومسألة تعويضهم وهو قانون صدر في ذلك الوقت، سواء كانوا أحياءً أم أمواتا.

   كان من الصعب جدا في تلك الحالة النفسية والعقلية التي عشتها تجاوز فكرة الكتابة عن ظاهرة الاختفاء السياسي في العراق وهي واسعة وكبيرة وضخمة ومفجعة.

ومنذ ذلك الوقت شرعت في جمع المادة وهي غزيرة: هناك الذاكرة والعوائل الكثيرة التي اختفت، الأصدقاء، الأخبار عن القضية، وثائق المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، منظمة العفو الدولية، منظمات الأمم المتحدة...الخ... الخيال الروائي، والتقنيات الروائية، الوقت، الصبر، الجلوس الطويل أمام الآلة الكاتبة، الدقة، جمع الأسماء الحقيقية لكي تكون شهادة الواقع دقيقة وأمينة ومشوقة.

فوجئت بالكم الهائل من المعلومات عن  المختفين وأنواعهم وأعمارهم والطرق التي كانوا يخطفون بها، وكخلفية لتصوير السجون، أي وصف مسرح الأحداث الرئيس، أو المكان، اعتمدت على الذاكرة الشخصية الزاخرة بعدة سجون عراقية شاءت الظروف السيئة أن أزورها بصفات وسنوات مختلفة ومنها:
ـ مديرية أمن الكوت / سنة 1970، بتهمة سياسية.
ـ مديرية الأمن العامة/ سنة 79، بتهمة سياسية.
ـ سجن الحارثية الرهيب/ 1986، هروب من الجيش.
ـ سجن الدريهمية في البصرة التابع للفرقة الآلية الخامسة، فقدان بندقية خلال معارك شرقي البصرة الأولى/ تاريخ السجن 1983.
ـ سجن جومان العسكري في قضاء جومان سنة 77/ مشاجرة مع ضابط( كتب في المجلس التحقيقي العسكري ما يلي: رفض الاستيقاظ للتدريب الصباحي بحجة سقوط الثلج، وإهانة ضابط، وهذا استهتار!).

   كان العمود الفقري، أو التيمة الروائية، تدور حول حدث محوري، سيكون الحدث المركزي الذي تبنى عليه كثير من الأحداث والوقائع والشهادات هو إحضار المخابرات ذات فجر صيفي جنازة جبر الكاطع إلى منزله بعد  عقد من الزمان.

تصدم زوجته فاطمة بالجثة التي انتظرتها سنوات طويلة حتى أن زهور الصبية  التي لم تر أباها الذي اختفى وهي في بطن أمها، دهشت أمام الجنازة المسمرة هي التي تعرفت على الأب من خلال صور سرية كانت تحتفظ بها الأم وتراها في طقوس  خاصة من الحيطة والحذر  كي لا تُكتشف بتهمة حب الزوج الخائن، أو تأمل صورة زوج صار خائنا للحزب والدولة والقانون والوطن والشرف والتاريخ والحقيقة( التهمة العراقية الشهيرة التي تتكرر في كل مرحلة وبلون آخر وطبعة جديدة!)

في تلك اللحظة يتغير عالم زهور الصبية، ويتغير عالم الزوجة فاطمة التي سيشيعون عنها لقوة شخصيتها ورفضها التعامل معهم بأن زوجها القتيل  كان ( مخبرا) لهم، وهو أسلوب درجوا عليه في معاقبة كل من يرفض العمل معهم لغرض تشويه صورته في نظر الناس، أو في نظر الغوغاء في الأقل.

لذلك تنتحر فاطمة علنا أمام الناس بحرق نفسها حين توقفت سيارة حزبية في شارع غاص بالناس لينزل منها مسؤول البلدة الحزبي ويقول لها بتهذيب ماكر ومفتعل أمام المارة:

ـ هذه باقة ورد على قبر المرحوم لأننا لم نكن " نعرف أنه من جماعتنا!".

وكانت تلك وسيلة قتل أكثر خسة وجهنمية لجبر الكاطع ولتشويه تاريخه وموقفه ولتحطيم صورة زوجته في نظر الناس، لكن فاطمة ترد عليهم وهي تحترق:
ـ جبر ما خان ! جبر ما خان !  

وهذه الوسيلة الدنيئة سيتبناها أحفاد هؤلاء القتلة في خارج الوطن الذين حوّلت مصادفات قاتلة جديدة بعضهم إلى رؤساء تحرير صحف أو مواقع اعلامية وظيفتها اعادة  انتاج القذارة وتحطيم كل ما هو جميل ونبيل وأصيل وبرئ والانتقام من كل ما هو شريف وخلط الأوراق كي يضيع الأبتر بين البتران، وتخريب ما تبقى من حياة.

 ولا يبدو أننا تعلمنا شيئا من ظاهرة دعم الفاشية التي بدأت مثل كل الجرائم صغيرة وبسيطة وعادية. هكذا عادة تبدأ الجرائم الكبرى: غفلة هنا، تساهل ازاء سلوك سياسي قذر هناك، سهو هنا، مجاملة ومداهنة لهذا الشخص أو ذاك، ثم نجد أنفسنا، مرة أخرى، محاطين بشبكة من المجرمين وقد صاروا مؤسسات ومافيات ومراكز قوى. بهذه الطريقة نعيد إنتاج القمع في كل دورة تاريخية دون أن نتعلم درسا أبدا.

يختفي كثيرون من دور السينما أو من المنازل أو من الشوارع أو المحلات بعد مجيء اشخاص عادة والطلب اليهم التفضل معهم لمدة( خمس دقائق!) مع كلمة شرف!

حتى صارت عبارة( خمس دقائق) في العراق كناية عن غيبة نهائية أو موت محقق في دهليز رطب أو في مختبر تجارب يتحول بعدها المختفي إلى وحش بشري قبل أن يُقتل.

ذكرت في الرواية أسماء عدد من المختفين والمختفيات وتواريخ الاختفاء ومنهم مثلا:
ـ  زاهرة ذياب شرهان، بغداد، تاريخ الاختفاء 27 تموز80.
ـ فريال عباس، بغداد، تاريخ الاختفاء 18 ايلول 80.
ـ بعد ثلاثة اشهر اختفت شقيقتها نجاة عباس.
ـ ليلي عبد الباقي، طالبة في كلية الهندسة السنة الثالثة، الاختفاء في 14 ايلول 81.
ـ بدرية دخيل علاوي/ العمر 54، بغداد، الاختفاء 14 آب80.
ـ ودية هادي داود، بغداد، الاختفاء حزيران 80. أم لثلاثة اطفال.
ـ  صبيحة نوري مهدي، البصرة، الاختفاء حزيران 80، مع زوجها عبد الرزاق أحمد، وثلاثة أطفال.
ـ  رجاء عبد الله، الاختفاء في 15 تموز 80، أم لطفلين، خريجة جامعة بغداد عام 74. ديالى.
ـ رجاء محمد رشيد( نفس الفترة) بغداد، أم لطفلين.
ـ رمزية جودة الشيباني، الاختفاء في 17 كانون الثاني 81، أم لطفلين، بغداد، حي عدن، خريجة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
ـ سميرة جواد كاظم الموسوي، محاسبة، تاريخ الاختفاء منتصف أيار 80، بغداد، خريجة ادارة واقتصاد، جامعة بغداد.

ـ السيدة آمنة الصدر( بنت الهدى) تاريخ الاختفاء منتصف نيسان 80، النجف.

ـ نجية الشيخ حسين، الاختفاء أيار 79، البصرة، مدرسة.
ـ سامية الاخشالي، الاختفاء( مع زوجها عبد الستار زبير) 5 حزيران،80، بغداد.
ـ سهيلة هويز ( مع زوجها ملا بكر فتح الله) الاختفاء في 15شباط 81، سليمانية.
ـ كوثر عبد الله مجيد محمد، الاختفاء15 تموز 80، مواليد 55، ديالى.
ـ ليلي يوسف، 55سنة، الاختفاء 15 حزيران 80، البصرة.
ـ عائدة مطر ياسين، 53 سنة، الاختفاء 15 تموز 80، البصرة.


حين صارت الرواية جاهزة للنشر وجدت صعوبة في ذلك الوقت في إيجاد دار نشر لطبعها لأن معظم دور النشر العربية كانت تتعامل مع النظام العراقي ولا تريد أن تعاقب بمنع منشوراتها، رغم أني أطبع أعمالي على نفقتي الخاصة.

رفضت اجراء أي مسح أو حذف أو تبديل أو اضافة على الرواية ولو كانت ستطبع على نفقة الدار وهو عرض حصلت عليه من دار نشر شهيرة لأن صاحب الدار يعرف جيدا أن هذه هي المرة الأولى في العالم العربي التي يطرح روائي فكرة الاختفاء السياسي في عمل روائي موثق.

كان لا بد من دفع الثمن وكنت جاهزا . فما قيمة أي ثمن مقابل أولئك الناس المختفين رجالا ونساءً في السجون التحت أرضية بدون شمس أو هواء نقي أو أمل أو حب أو فرح؟

ولم تكد دار( ألواح، اسبانيا) الشجاعة والرائدة في نشر الأعمال المرفوضة، تنتهي من  طبع محدود لهذه الرواية عام 2000 التي أعتز بها لأنها شهادة وموقف في ظروف صعبة كان كثيرون يخفون رؤوسهم في الخارج ويخافون من الادلاء بشهادتهم، التي صاروا يعزفونها هذه الايام بعد سقوط النظام وقد فقدت كل قيمة وثائقية أو أخلاقية أو حتى أدبية( وكانوا يطلقون النار علينا بالتهريج والوشايات الكثيرة والضباب والدخان لكي لا نعمل، ونحن داخل دائرة الضوء، وهم من عتمتهم، وكنا في مواجهة مفتوحة علنية مع أشرس سلطة. اليوم صاروا أبطالا في سيرهم الذاتية!)، أقول ما أن صارت هذه الرواية تحت متناول عدد من الكتاب حتى صدر بيان من مخبر محترف يقيم في" أوسلو" منتحلا صفة "شاعر" ويكتب حتى اليوم في بعض المواقع يقول أن رواية" المختفي طبعت على نفقة النظام العراقي!". والغريب أن هذا الشخص كان يصدر بيانات جاهزة ومعدة سلفا بعد صدور كل رواية تنشر لي تتعرض للحقبة الوحشية في العراق، ويقوم بإخراج حكايات تمتزج بها الأسطورة بالخيال بالوهم بالسفالة، وفي هوس أو "ولع" مرضي بالكذب غير المسيطر عليه والعلني.

وبعد سقوط النظام كان الأسرع" كالعادة" في تغيير الجلد وصار يكتب قصائده عن( المقابر!) الجماعية التي حفرها هو وأمثاله في الوطن وخارجه، وهم طلقاء اليوم في انتظار يوم العقاب العادل الذي سوف يأتي مهما طال الزمن، لأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم وهي موثقة، وعلى الذين خلقوا عذابات للناس أن يتعذبوا مثلهم يوما لكي يعرفوا معنى الألم وجرح الإحساس، كما يقول شكسبير في " كوميديا الأخطاء".

هذا نوع  نادر من الغباء والشطارة والجهل، فالنظام العراقي وجد، أخيرا، رواية تفضحه وتعريه بالوثائق، ليطبعها على نفقته،  فمن حسن الحظ أن السلطة الفاشية غبية  لفم تجد حتى مخبرين لها يتمتعون بذكاء مقبول.

وبدا هذا البيان المبتذل فصلا آخر من فصول الرواية التي تحدثت كثيرا عن أساليب المخابرات وهو احتجاج مكشوف على رواية جريئة كانت صرخة غضب على السجون السرية وعلى تلك الطوامير المظلمة التي ربما لم يخرج منها أبطال رواية( المختفي) حتى اليوم.

 يوم 9 نسيان الماضي وبعد سقوط الصنم في ساحة الفردوسي، كنت مشغولا، رغم ارتفاع الحمى بسبب "فايروس الطيور!" الذي أصابني فجأة، والتعب، والإرهاق، أفكر بشيء واحد كان يستولي على كل ما تبقى من عواطف حية: هو كيف يمكن لأحد ما، قوة ما، أن تنقذ أبطال روايتي( المختفي) قبل  الاختناق حتى الموت في السراديب؟!


كيف يمكن الوصول بأسرع وقت إلى  زاهرة وصبيحة وفريال ورجاء وآمنة وكوثر وسهيلة  وعائدة...الخ..الخ... قبل فوات الأوان؟

وبعد مرور وقت صار حزني شجرا طويلا مهملا و أوراقه صفراء ذابلة لأني لم اسمع خبرا عن هؤلاء المختفين والمختفيات ما عدا السيد عادل العبيدي الذي خرج من سجن الرضوانية بعد مرور ثلاث سنوات على ذهابه إلى البريد لاستلام رسالة وسجل أطول رقم قياسي لرحلة مواطن  على هذا الكوكب ذهب لاستلام رسالة من البريد ولم يعد إلا بعد ثلاث سنوات!


وسأكون سعيدا وفرحا لو أن أحدا منكم عرف واحدة من هذه الأسماء وأخبرني بها لكي نواصل الحكاية مرة أو الجزء الثاني على مخلوق آخر هو الدكتاتور "المختفي"!

أما جبر كاطع الذي دفن في مقبرة نائية كبرى فكانت نهايته رغم الموت مأساة أخرى، حين دخل سكيران إلى المقبرة وراحا يتسليان بإعادة كتابة أسماء الموتى.

خط أحدهم بالصبغ الأحمر على الشاهدة الرخامية لقبر جبر هذه الكلمات لكي يضع خاتمة عبثية على تراجيديا حزينة:
ـ جبر من كـــ  .... أمه ..إلى باب القبر !









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جمال نزال: وجود السلطة في غزة رهن بحل شامل يتضمن انسحاب إسرا


.. نهضة بركان يستقبل الزمالك في مهمة رد الاعتبار | #هجمة_مرتدة




.. جامعة سيول تضم صوتها للحراك الطلابي العالمي المتضامن مع فلسط


.. استشهاد رضيع وأمه جراء قصف إسرائيلي على منزل بمدينة غزة




.. مراسل الجزيرة: مستوطنون إسرائيليون يحرقون منزلا لعائلة الدوا