الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوتين في هجاء أمريكا: النافخ في قربة مثقوبة

صبحي حديدي

2007 / 2 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


نقلت وكالة أنباء "رويترز" أنّ استطلاعاً للرأي، أجرته مؤخراً مؤسسة ألمانية مختصة، أفاد بأنّ ثلثي الألمان يساندون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ملاحظاته الناقدة ضدّ سياسات الولايات المتحدة الخارجية، والتي تضمنها خطابه في ميونيخ أمام مؤتمر الأمن الدولي. وأشار الاستطلاع إلى أنّ غالبية ساحقة تناهض الغزو العسكري الأمريكي للعراق، وترى أنّ الرئيس الأمريكي جورج بوش شخصية مثيرة للريبة رغم جهود المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل لتسويقه داخلياً، كما أنّ نسبة 62% لا تكترث أبداً بما تردّده وزارة الدفاع الأمريكية عن تزايد القوّة العسكرية الروسية.
الأرجح أنّ الآراء ذاتها، بمعدّلات أعلى بكثير غالباً، هي لسان حال تسعة أعشار شعوب العالم، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وفي داخل الولايات المتحدة ذاتها. وهذه، في المقارنة التاريخية، هي أشدّ تصريحات بوتين عنفاً ضدّ الولايات المتحدة منذ انتخابه رئيساً للاتحاد الروسي أواخر العام 1999. وما يضفي درجة إجماع واسعة على تصريحات بوتين أنها، ببساطة، لا تضيف جديداً على ما عرفته وتعرفه الإنسانية من شقاء ومآزق ومشكلات جراء سياسات الولايات المتحدة، حتى حين يلوح أنّ بوتين يزيد في الطنبور (الروسي، في الأقلّ) نغماً صاخباً حين يتهم البيت الأبيض بإلسعي إلى ترسيخ نظام القطب الواحد، قبل أن يشرع في هجاء هذا النظام... اللاديمقراطي!
ومن ألمانيا (حيث ألقى خطبة النقد العصماء ضدّ الولايات المتحدة)، إلى الأردن (حيث التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس وأعرب عن أمله في التزام الجانب الفلسطيني ـ وليس الدولة العبرية! ـ بالاتفاقات السابقة)، مروراً بالمملكة العربية السعودية (حيث بشّر بأنّ موسكو ستساعد الرياض، ومجلس التعاون الخليجي، في إنجاز تكنولوجيا نووية سلمية)، بدا بوتين أشبه بنافخ في قربة مثقوبة. فما فائدة هجاء نظام القطب الواحد، إذا كانت روسيا لا تخطو خطوة واحدة يتيمة باتجاه نقضه وكسر أعرافه التي أخذت تستقرّ شيئاً فشيئاً في العلاقات الدولية عموماً، وعلاقات الكبار بين بعضهم البعض خصوصاً؟ وفي المثال الأبسط، والأبلغ، الذي يرد إلى الذهن على الفور: ما الذي منع موسكو من استخدام حقّ النقض (الـ "فيتو") في مجلس الأمن الدولي، لتجريد واشنطن من غطاء الشرعية الدولية في غزو أفغانستان والعراق، وهذا أضعف الإيمان على درب اختراق نظام القطب الواحد؟
الإجابة جلية ماثلة للعيان، وهي تعيد رسم صورة الرئيس الروسي وهو ينفخ في القربة ذاتها، وتلك هي حاله كما تبدّت مراراً في مناسبات سابقة، وكما صارت معيارية معادة مكرورة: أنه، وكلما تعاظمت العربدة الأمريكية في الشؤون الدولية والفضايا ذات الأبعاد الجيو ـ سياسية الكبرى والنزاعات الخطيرة، يكتفي بالتذكير بأنّ روسيا ما تزال على قيد الحياة؛ ولكنه لا يذكّر إلا لكي تنفع الذكرى فقط (بمعنى النفع المادّي تحديداً)، لا لكي تزاحم موسكو غريمتها القديمة واشنطن في الهيمنة الكونية، أو لكي تحاصصها في نفوذ هنا أو تأثير هناك، ورحم الله قوّة عظمى سالفة عرفت حدّها فوقفت عنده!
وقبل ثلاث سنوات، حين كانت أنظار العالم منشدّة إلى أمريكا على أكثر من صعيد (مجازر جيش الاحتلال الأمريكي في مدينة الفلوجة العراقية، وذبح مئات الأبرياء من أبنائها بذريعة محاربة الإرهاب، واستقالة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في غمرة مؤشرات تقول إنّ الجنرال المتقاعد سيكون آخر "الحمائم" في إدارة بوش الابن، وتوطيد صفوف "الصقور" في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية...)، مَن الذي دخل على الخطّ بغتة، ودونما دعوة؟ الرئيس الروسي، بالطبع، حين عقد اجتماعاً دراماتيكياً مع أركان القيادة العسكرية الروسية، وباغت العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه القوى النووية الأخرى في العالم أجمع. وفي تصريحات ساحنة نُقلتها أقنية التلفزة الرئيسية، قال بوتين إنّ بلاده لن تكتفي بالأبحاث النووية والاختبارات الناجحة للأنظمة الجديدة، بل هي ستتسلّح بها فعلياً خلال السنوات القليلة القادمة: "أنا واثق أنّ هذه التطوّرات والأنظمة غير متوفرة لدى الدول النووية الأخرى، ولن تكون متوفرة في المستقبل القريب".
الوقائع تقول إنّ هذه الصواريخ لم تُنشر بعد، ولكن قبل أيم معدودات سبقت رياضة التصريحات الملتهبة هذه كان رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، يقوم بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (بوصفه الدائن الأكبر) اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً عن ارتفاع أسعار برميل النفط. آنذاك توجّب على موسكو أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي، وكان واضحاً أنّ بوتين يتخاطب مع راتو بصدد تأجيل تلك الديون، عن طريق التلويح بأنّ الصبر على المدين أفضل كثيراً من حشره خلف منصّة صاروخ نووي! المدهش، رغم هذا، أنّ إدارة بوش لم تأخذ تلك التصريحات على محمل الجدّ، وأعلن الناطق باسم البيت الأبيض آنذاك، سكوت ماكليلان، أنّ أخبار موسكو ليست جديدة على الإدارة: "نحن على اطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية. ولكننا اليوم حلفاء في المعركة العالمية ضدّ الإرهاب".
وفي الردّ على انتقادات بوتين الأخيرة، قال وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس إنّ حرباً باردة واحدة تكفي، في إشارة إلى أنّ واشنطن لا تنوي استئناف أيّ من تلك المعارك الافتراضية العتيقة مع موسكو. ولعله كان قاب قوسين أو أدنى من تذكير بوتين بنهاية اخرى للحرب الباردة، غير تلك التي لاحت تباشيرها مع انهيار جدار برلين وسقوط المعسكر الاشتراكي وانحلال حلف وارسو. وقبل زمن ليس بالبعيد تفاخر جورج روبرتسون، الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، بأنّ الـ "ناتو" بات يضمّ دولاً تمتدّ مساحتها من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستوك شرق روسيا. من جانبه اعتبر جورج بوش الابن أنّ الحرب الباردة انتهت الآن فقط، مع صدور "إعلان روما" الذي تضمّن تشكيل المنتدى الأمني الجديد، بعضوية دول حلف شمال الأطلسي التسع عشرة، بالإضافة إلى روسيا. في عبارة أخرى، لم تنتهِ الحرب الباردة على يد جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، بل على يد جورج بوش الابن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين!
لكنّ سلسلة مآزق روسيا لا يختزلها أيّ طراز من التباهي حول علوّ كعب روسيا نووياً، حين يكون كعبها الجيو ـ سياسي والاقتصادي خفيضاً متواضعاً. وفي روسيا، وليس في طاجكستان أو تركستان أو جورجيا أو أوكرانيا، يلجأ الملايين من عمّال المناجم إلى سلاح الإضراب المفتوح، لا من أجل زيادة الأجور أو تحسين شروط العمل أو تحقيق مطالب مهنية، بل ببساطة من أجل استلام الأجور ذاتها، ليس أكثر! وفي روسيا انحدار متواصل لمستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. وهاهي روسيا بدايات القرن الواحد والعشرين ترتدّ إلى روسيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكأنّ مشاهد البلاد اليومية قفزت مباشرة من أفلام سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين: رعب وعنف وتمرّد، جثث مجهولة لا تحتضنها سوى الثلوج اللامتناهية، قلق غامض يكتنف قوى أكثر غموضاً، وأكوام من الروبلات (وليس الكوبيكات) لا تكاد تبتاع رغيف خبز أسود أو زجاجة فودكا من الصنف الرديء، واغتيالات لأهل الصحافة وأرباب المال ومتقاعدي الاستخبارات. الدولار هو العملة الوطنية في الأسواق والمصارف والشوارع، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي هما السيف المسلط على عنق السيادة الوطنية، تماماً كما هي الحال في أكثر أنظمة العالم الثالث عجزاً وضعفاً واستسلاماً.
وإذ ترتدّ هذه الأيام إلى ما يشبه المربّع الأول في حسابات القوّة الدولية، فذلك لأنها تعود من بوابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)، لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء. وهو مخلوق عاجز عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة). وهذه، في تمثيل آخر، هي روسيا كما أرادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر: قوّة عظمى تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلى مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. اقتصاد نهض على التصنيع الثقيل، ولكنّ أساسه الوطني يعتمد اليوم على تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، ويرتهن أكثر فأكثر للرأسمال الأجنبي والاستثمارات المتعددة الجنسيات. تباين صارخ في التوزيع الإجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادّة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلى كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القومية.
شارعها جائع، وبالتالي لا يمكن أن يظلّ شارعاً واضح المعالم متجانس التكوين مستقيماً دائماً مثل شارع نيفسكي، حسب تعبير فلاديمير إيليتش لينين. وهكذا فإن الإضرابات تدور حول لقمة العيش بادىء ذي بدء، ولكنها في الآن ذاته تستبطن سلسلة أهداف أكثر تعقيداً، خصوصاً وأنّ القوى التي تقف خلف حركات شعبية كهذه تظلّ مجموعات متضاربة متنافرة، لا يجمعها جامع سوى التوق النوستالجي الجريح إلى روسيا أخرى، مختلفة وجديدة: روسيا السلافية الإمبراطورية، الأرثوذوكسية القيصرية، الصافية الأعراق، المتحررة من بروتوكولات حكماء صهيون، التي لا تتحكم فيها بروتوكولات جديدة لحكماء شطيرة الـ "ماكدونالد"!
وفي الإجمال، هذه هي روسيا الأفضل شروطاً ــ أي: الأسوأ حالاً، داخلياً! ــ من أجل الإنضمام إلى المنتدى الأطلسي الجديد، دون إفراط في الحنين إلى ماضٍ تليد ينبغي أن تُطوى صفحته نهائياً، ودون الكثير من الإعجاب بالذات أو استئناس بأس في النفس يغري بإفساد ما تطبخ واشنطن وحلفاؤها هنا وهناك في العالم المعاصر. ومَن تابع في الماضي مفردات الرئيس الروسي حين سعى إلى مجاراة أمثال جورج بوش وتوني بلير وخوسيه ماريا أزنار في هجاء عدوّ الإنسانية المكتشَف حديثاً، الإرهاب الدولي، لا يخامره أيّ ريب في أنّ القيصر الجديد هذا أتقن سريعاً اللعبة الدونكيشوتية التي انخرط فيها حلفاؤه زعماء دول الحلف الأطلسي. وهكذا، وخلال زمن قياسي مدهش، طفحت بلاغة بوتين بالثنائيات الغربية التي تضخمّت وانتفخت وانتعشت بعد وقائع 11/9، وصار يرطن حول الفارق بين المدنية والبربرية، التقدّم والتخلّف، الخير والشر، و"نحن" في موازاة "هم".
وكان غينادي زوغانوف، زعيم الحزب الشيوعي الروسي، قد توجس خيفة من صعود بوتين إلى موقع رئيس الوزراء أيام بوريس يلتسين. كان زوغانوف على علم بأنّ بوتين استحقّ، خلال عقود عمله في المخابرات السوفييتية، لقب "الكاردينال الرمادي": هذا يعني أوّلاً أنّه كاردينال أقلّ مرتبة من القياصرة البطاركة، ويعني ثانياً أنّه رمادي اللون حائر بين الأبيض والأسود!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ


.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار




.. هاليفي: سنستبدل القوات ونسمح لجنود الاحتياط بالاستراحة ليعود


.. قراءة عسكرية.. عمليات نوعية تستهدف تمركزات ومواقع إسرائيلية




.. خارج الصندوق | اتفاق أمني مرتقب بين الرياض وواشنطن.. وهل تقب