الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يكره الشعراء البكاء

صدام فهد الاسدي

2007 / 2 / 17
الادب والفن


قد استأثرت ظاهرة الضحك من قديم الزمان اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس وعني بها أفلاطون وأرسطو وديكارت وفولتير ومكدوجال ، وقد عدّ الضحك من الظواهر النفسية التي تصدر عن تلك الطبيعة البرية المتناقضة التي سرعان ما تملّ حياة الجد والصرامة فتلتمس في اللهو ترويحا عن نفسها ، والابتسامة وسيلة يعبر بها الفرد عن رغبته في إقامة بعض الروابط مع الأفراد حينما يشعر بالخجل أو الحياء وليس لديه الابتسامة وسيلة تعبر عن الرضا والارتياح وهي مشروع الضحكة قادمة ، لقد قال نيتشه على لسان نبيه زرادشت (لقد أتيت لكم بشرعة الضحك فيا أيها الإنسان الأعلى تعلم كيف تضحك) وللشعراء موقف من الضحك ومنهم الشاعر النجفي احمد الصافي النجفي الذي ينطبق عليه قول بيرون (ما ضحكت لمشهد بشري زائل إلا وكان ضحكي بديلا استعين به اجتناب البكاء) بل ينطبق قول (جيمس لانج) على الصافي في وصفه الضحك حين قال (لا نضحك لأننا مسرورون بل نحن مسرورون لأننا نضحك) ونفهم من ذلك أن المظاهر العضوية لانفعال السرور في العلة للضحك ، ولعلنا نكشف في شخصية الصافي دليلا ملموسا يشف عن ظاهرة التشفي من الآخرين ليس بصورة الاحتقار أو الانتقام بل كرد فعل تمردي لما يلقاه الشاعر من ملمات بالناس وما تعكسه عليهم الحياة من محن وهم لا يبالون بها ، ولعل ضحكه في مثل هذه الأحوال يكون وليد شعوره الدفين بأن المحن والمصائب جزاء حق لهم ، لذا جاءت الدعابة البريئة قائمة على صور المفارقات مثال ذلك قول الصافي في تلك العجوز:
يا عجوزا هي للآفاق جيفة
ولعزرائيل في الأرض خليفة
هي لولا القبح ما كانت عفيفة
فهي رغم الأنف عذراء شريفة
إن حكت فلسفة لا تعجبوا
قبحها صيّر منها فيلسوفة
ومرة يستخف الصافي بالمنطق فيتخذ صورة تشير الضحك دون أن يشير إليها بدلالة مباشرة ومن أمثلة ذلك أرسل الشاعر ديوانه لبيعه بكميات كبيرة في العراق عن طريق البر وقد هطلت الأمطار الغزيرة فأغرقتها فكتب الصافي ساخرا قصيدة (غرق في الصحراء) قال فيها:
أيغرق ديوان له البر مسلك
فكيف إذن لو كنت أسلكته البحرا
فقالوا أتى سيل فغطاه غمرة
وبين رمال البر شق له قبرا
فقلت انظروا أيها الناس وأعجبوا
كتاب لسوء الحظ يغرق في الصحرا
وربما يتهم احدنا الصافي بمرض نفساني فالذين يتمتعون بحسّ فكاهي يجيء ترتيبهم في العادة متأخرا نسبيا في سلّم الأشخاص المعرضين للأمراض النفسية وهنا أجد النجفي ضاحكا بالبكاء دون أن يفتح شدقيه لا سيما وان الجد من سماته وهو يكره الهزل وضياع الوقت سدى بالرغم من زهده المعروف ، انظر قوله :
فما هي إلا الوهم يحكي حقيقة
وما هي إلا الهزل تحسبه جدا
وتجد الشاعر متسائلا عن ذلك الموقف الناتج عن السفهاء:
هل لحتف يوقفنا العلماء
أترى كيف يضيع السفهاء
ولا أقول أن الكآبة قد لفت النجفي بستارها بل كان ظريفا مداعبا يشبه أبو نؤاس قائلا:
فلي روح بظرف أبي نؤاس
ولكن في وقاري كالمعريّ
والنجفي يكره التصنّع والدجل والخديعة تراه واصف الابتسامة المتصنعة انقل من الجبال انظر قوله :
وما كنت أعيا بالجبال وحملها
وأعيا متى رمت ابتسام تصنع
إن الملابسات التي تحيط النجفي هي التي تدعونا للضحك علما بأن الشاعر لم يضحك بل يتألم فحين يصف إنسانا سليط اللسان يقول:
رفس البغال برجلها لك هيّن
في جنب بغل رافس بلسانه
لذلك اختار الصافي أنينه وحزنه مرحه الخاص به فهو القائل:
وأمرح هانئا بأنين صدري
فلست لصدري الشاكي حزينا
فكيف يجد الخلاص من الذين يضحكون دون سبب سوى (المسهل) قائلا:
سأشرب يا مزعجي مسهلا
لو انك تخرج بالمسهل
وقد أصبح اليأس طريقه المستقل في قوله:
ما أجمل اليأس يعطي لنفسه استقلالا
وحين يصف النجفي الابتسامة المصطنعة يصفها ساخرة ليس إلا أنظر قوله:
تقلد حتى في ابتسامتك التي
توهمت جهلا أنها بسمة الصخر
ويرى النجفي أن الضحك لا يحرك إلا جانبا فقط من النفس وأما البدن فإنه مستوعب بأكمله في عملية الضحك ويتفق مع ديكارت القائل ( الضحك انفعال جسمي بحت وإن كان في وسع العقل ان يتحكم به ) ويقف في صف (مكدوجال) القائل ( إذا كنا نسرّ حينما نضحك فإننا نسر لأننا نضحك) وربما يكشف الضحك عند النجفي عن آثار سيكولوجية يرتفع ضغط الدم بها فيرسل الدم إلى المخ فيحمرّ الوجه ويضحك من أعماق قلبه الفارغ من السعادة، وهكذا تراه ساخرا من البرغوث ولا يعني البرغوث الحشرة بل الآدمي الذي يقرص أخاه قائلا:
كم قلتُ للبرغوث مستفهما
تقرصني ويحك ما ذنبي
يا أمة البرغوث لو أنكم
جمعتم جنبا إلى جنب
سأترك اليوم لكم غرفتي
وأسكن السطح بلا ثوب
فانفردوا بعدي في غرفتي
واتخذوها ساحة اللعب
وقد وجد الصافي في البكاء بديلا عن الضحك المصطنع وهو القائل :
بكى صاحبي من ليل سجنا وسرني
بداجي ظلام السجن لمع الجواهر
وقال :
ويوم كنت مسرورا بسجني
أرى السجان فيه أخا وخلا
أتاني مشفقا فبكى لما بي
فأبكاني فرحتُ أقول مهلا
بربك لا تذكرني جروحي
فذكر الداء ينكسر من أبلا
وهكذا خشي النجفي البكاء خوفا من الانتكاسة والهزيمة وكره الضحك دلالة على ضعف صاحبها والانتقاص من شخصيته وعدم التمعن في المحن والمصاعب، فإن الحمقى والسفهاء فقط من تسحقهم الخرافات ويضحك على لحاهم ابن آوى وبعد هذا أليس من حقه أن يعتزل من الضحك والبكاء معا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه


.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان




.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو


.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف




.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول