الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التطوّر الأحدث في عقيدة بوش: ديمقراطية أجهزة المخابرات

صبحي حديدي

2007 / 2 / 24
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يقول الخبر الأوّل، الذي يعود إلى مطالع الشهر الجاري، أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، طالبت بإطلاق سراح الناشط المصري أيمن نور (قيد الاعتقال منذ أكثر من عام)، وأنّ المطالبة تمّت علانية وخلال جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي، وقبيل اجتماع مقرّر مع نظيرها المصري أحمد أبو الغيط. الخبر الثاني، وهو نتاج أواخر الشهر ذاته، يقول إنّ رايس عقدت اجتماعاً مع أربعة مسؤولين أمنيين عرب، هم رئيس مجلس الأمن الوطني السعودي الأمير بندر بن سلطان، ومدير المخابرات العامة المصرية اللواء عمر سليمان، ومدير المخابرات في دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ هزاع بن زايد، ومدير المخابرات الأردنية محمد الذهبي.
وللوهلة الأولى قد يلوح أنّ التناقض جليّ واضح، بل صارخ فاضح ربما، بين مطالبة بإطلاق سراح ناشط معارض، ثمّ الاجتماع مع سجّانيه قبل انصرام عشرة أيام على المطالبة؛ أو بين المهمّة السياسية ـ الدبلوماسية التي تتولاها وزيرة الخارجية، والمهامّ الأمنية الاستخباراتية التي يتولاها السادة بن سلطان وسليمان وبن زايد والذهبي. غير أنّ الوهلة التالية المباشرة، التي تتخذ شكل تتمة منطقية صارت شائعة مكرورة، هي أنّ صانع التناقض وجامعه في آن معاً هو الرئيس الأمريكي جورج بوش، وتحديداً عقيدته الشهيرة التي تسعى إلى محاربة الإرهاب عن طريق تصدير الديمقراطية بيد، والتعاون الوثيق مع أنظمة الإستبداد باليد الأخرى.
المطالبة بإطلاق سراح أيمن نور تخدم الشقّ الأوّل من العقيدة، والذي يقول إنّ تفضيل الإدارات الأمريكية السابقة مبدأ استقرار االأنظمة الدكتاتورية على مبدأ فرض إصلاحات ديمقراطية يمكن أن تفضي إلى مجهول نقيض لمصالح الولايات المتحدة، قد استولد أسامة بن لادن و"القاعدة" و15 سعودياً من أصل 19 انتحارياً صنعوا هزّات 11/9؛ كما أنتج الأفغان العرب الذين أحيلوا، على يد صانعيهم، إلى تقاعد قسري مستحيل، فانقلب سحرهم على الساحر. ولقد ساهم نفر من أقطاب المحافظين الجدد في ترويج المبدأ الذي يقول إنّ الدبابة الأمريكية قادرة على حمل فيروس الديمقراطية، جنباً إلى جنب مع القذيفة.
وأمّا الإجتماع مع رؤساء الاستخبارات في أربع دول أساسية حليفة، برئاسة (كما ينبغي القول!) وزيرة الخارجية وليس مدير وكالة الاستخبارات المركزية الجنرال مايكل هايدن مثلاً، فإنه يخدم الشقّ الثاني في العقيدة ذاتها، والذي يسعى إلى بناء أوسع تحالف ممكن يساعد ـ على نحو فاعل ومباشر وعملياتي ـ جيوش الولايات المتحدة التي تحتلّ العراق، أو ترابط هنا وهناك على أرض الخليج العربي. وفي هذا الشقّ ثمة ضرورات كبرى خاصة، تندرج في ضيق التكتيك أكثر من انبثاقها عن حيوية الستراتيجية، تبيح المحظورات المحلية، بحيث لا يعبأ البيت الأبيض بما سيلهج به ضمير الشارع العربي إزاء السادة بن سلطان وسليمان وبن زايد والذهبي جرّاء اجتماع مخزٍ مخجل في المستوى الأخلاقي، ومؤذٍ منذر بكلّ سوء بالمعنى السياسي.
ذلك لأنّ هدف هذا الإجتماع ليس نجاح السادة فرسان الإستخبارات العربية في إقناع السيدة رايس بالحاجة إلى تعديل الموقف الأمريكي، إيجابياً، من سلسلة القضايا الراهنة التي تشغل بال الشارع العربي (اتفاق مكة وحكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، العراق وحمّامات الدم اليومية والتفكك الوطني والانقسامات الطائفية، لبنان وأشباح الحرب الأهلية، مخاطر عدوان أمريكي على إيران وميل التغلغل الإيراني في العراق إلى اتخاذ صبغة مذهبية شيعية...)، بل العكس تماماً: أن تجنّد رايس الأنظمة العربية الممثلة في الإجتماع من أجل خدمة ما تراه واشنطن مطلوباً من حلفائها في هذا الطور: تعطيل الوحدة الوطنية الفلسطينية، واستمرار حصار الشعب الفلسطيني حتى إخراج "حماس" من المعادلة السياسية؛ إبقاء لبنان في خيارات الدرجة صفر والمراوحة في المكان، رغم ما تنطوي عليه هذه الحال من مخاطر قصوى؛ والمضيّ أبعد، وأشدّ تعنتاً، في الخطط الأمنية والعسكرية على الساحة العراقية، بصرف النظر عن مؤشرات الفشل الذريع في ما يُسمّى "خطة بغداد"؛ وبالطبع: تمهيد الأرض، بالمعنى اللوجستي ـ العسكري وليس السياسي فقط، لاحتمالات شنّ عدوان على إيران.
والحال أنّ المرء قد لا ينحو باللائمة الشديدة على أنظمة مستبدّة مستكينة منخرطة في خدمة السياسات الأمريكية، أو الأحرى القول إنها كذلك لأنّ التبعية سبيلها الأهمّ إلى ضمان سلامة النظام ونجاة أهل الحكم، إذا كانت رايس قد أفلحت في إذلال اللجنة الرباعية الدولية في برلين، بعيد اجتماع عمّان الإستخباراتي، وفرضت الموقف الأمريكي المصرّ على محاصرة الأراضي الفلسطينية ما دامت "حماس"، أو الحكومة الوطنية القادمة أياً كانت تركيبتها، لا تلبّي ما صار يُعرف باسم "الشروط الدولية". وقد يقدّر المرء ذاته، ضمن سياقات المنطق ذاته تقريباً، استسلام وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير، وإذعان الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الإتحاد الاوروبي خافيير سولانا، وتأتاة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون...
ولكن، كيف نفسّر انضواء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي كان قد أعلن على نحو جازم أنّ بلاده تؤيد إنهاء مقاطعة الحكومة الفلسطينية، وكان رئيسه فلاديمير بوتين ـ قبل أيّام معدودات فقط، غير بعيد عن برلين إياها ـ قد القى خطبة عصماء لاهبة في هجاء نظام أحادية القطب الذي تقوده الولايات المتحدة؟ وإذا تدبّرنا الأعذار لانضواء لافروف في الموقف الذي تشبثت به رايس، فكيف نتدبّر موافقته على نصّ في البيان الرسمي لاجتماع الرباعية، يبدي الترحيب بما أسماه “جهود” رايس خلال جولتها الأخيرة في الشرق الأوسط، ويعبّر عن الأمل في استمرار الحوار بين القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية من أجل "أفق سياسي وبدء مفاوضات ذات مغزى"؟ ما معنى "أفق سياسي" هنا؟ وماذا يُفهم من تعبير "مفاوضات ذات مغزى"؟ مَن الذي يمكن أن يفتح الأفق، أو الآفاق؟ ومن أين يأتي المغزى، وكيف؟
وهذا يعيدنا، على نحو استطرادي صرف، إلى بضاعة الديمقراطية التي سعت واشنطن إلى تصديرها عن طريق الدبابة والقاذفة والغزو العسكري المباشر، ثمّ تسحبها اليوم من التداول الميداني (بدلالة اجتماع عمّان الإستخباراتي) دون طيّها تماماً على الصعيد اللفظي والبلاغي (بدلالة المطالبة بإطلاق سراح أيمن نور). ومن نافل القول، كما قلنا ونقول، إنّ رياح الإنتخابات التي شهدتها إيران ومصر وفلسطين والعراق خلال الفترة الماضية ـ والتي جرت في حدّ أدنى أو في حدّ أدنى من الممارسة الديمقراطية ـ لم تجرِ كما اشتهت أو كانت تشتهي السفن الأمريكية (وفي عدادها، أو على رأسها، حاملات الطائرات!) التي ركبت المحيط الأطلسي إلى الأبيض المتوسط ومضائق هرمز ومياه الخليج العربي، حاملة بضاعة الإصلاح وحقوق الإنسان والحرّيات العامة والتعددية والديمقراطية.
لماذا، إذاً، لم تجرِ الرياح بما تشتهي سفن السادة والسيدات جورج بوش، كوندوليزا رايس، ديك شيني، إرفنغ كريستول، ريشارد بيرل، بول ولفوفيتز، دوغلاس فيث، ودافيد ورمستر؟ ولماذا تبدو وزيرة الخارجية الأمريكية، اليوم كما صبيحة تلك الانتخابات وعشيتها وفي كلّ منعطف سياسي أو عسكري حاسم، وكأنها تجوب المنطقة لا لكي تحثّ الشعوب على مزيد من الإقبال على الديمقراطية، بل لكي تحارب أو تحاصر أو تطوّق أو حتى تكتب نعي كلّ تطوّر إنتخابي ديمقراطي شهدته المنطقة في الأشهر الأخيرة؟
هذا سؤال يستدعي إجابات عديدة، بينها تلك الإجابة المدرسية المبسطة للغاية، الواضحة أشدّ الوضوح، والصائبة تماماً: ليس لائقاً بالديمقراطية التي بشّرت أو تبشّر بها عقيدة بوش وشركائه أن تحمل إلى سدّة السلطة ـ حتى ضمن انتخابات نزيهة وعبر صندوق الإقتراع بوصفه أيقونة الديمقراطية المعاصرة ـ أمثال محمود أحمدي نجاد في إيران واسماعيل هنية في فلسطين من جهة أولى؛ أو أن تسفر عن فوز مفاجىء لجماعة "لإخوان المسلمين" في مصر، وأغلبية غير مفاجئة للشيعة في العراق، من جهة ثانية! وفي المقابل، هل يزعج العقيدة ذاتها أن يفبرك النظام السوري انتخابات رئاسية كرنفالية زائفة، تمنح بشار الأسد ولاية رئاسية ثانية حتى العام 2014، بنسبة قد تزيد كثيراً عن الـ 97,29% التي حصل عليها صيف 2000؟ مَن يكترث! ومَن يعبأ، حقاً، بربيع ديمقراطي في سورية، إذا كان ربيع "ثورة الأرز" عند الجارة لبنان قد صار نسياً منسياً، ليس في تنظيرات رهط المحافظين الجدد الفلاسفة وحدهم، بل كذلك في خطاب بوش ورايس ومعظم رجالات البيت الأبيض.
الحال إياها تعيدنا إلى احتمالات مغامرة عسكرية أمريكية ضدّ إيران، سواء عن طريق ضربة جوية شاملة تستهدف المنشآت النووية وبعض المرافق الحيوية والصناعة العسكرية، أو ربما تعزيز هذه الضربة بعملية برّية نوعية في داخل إيران. ولكي لا يراهن المرء على المجهول، حتى حين تكون معطيات المعلوم فيه وافرة طاغية، فإنّ هذه الاحتمالات لا تُقارَن على قياس أفضل من مثال الغزو الأمريكي للعراق: في أغراض ماضيه، وفي عناصر حاضره، وفي آفاق مستقبله. لماذا يتوجب أن تنجح، في إيران، السياسات ذاتها التي اعتمدتها واشنطن في العراق قبيل الغزو وأثنائه وبعده، والتي تجعل الإحتلال الأمريكي يعيش هزيمة يومية وفشلاً متفاقماً وتخبّطاً مميتاً؟ ثمّ كيف يصحّ أن يبني البيت الأبيض سياسات ضربة عسكرية ضدّ إيران، دون ربط تلك السياسات بكتلة أخرى من العوامل التي لا تقترن بالفشل الأمريكي في العراق فحسب، بل تزيد احتمالات الفشل في إيران بسبب من النفوذ الإيراني الواسع في الداخل العراقي تحديداً، وبسبب نجاح طهران في الإنقلاب إلى لاعب أوّل داخل المعادلة الإقليمية عموماً، وفي ما صار في الوسع تسميتها "مسألة عراقية" أو "لعبة أمم" على أرض بلاد الرافدين؟
ويبقى أنّ الحال ذاتها تعيدنا، أخيراً، إلى مصطلح "محور الشرّ" الشهير، الذي اجترحه الرئيس الأمريكي في أعقاب 11/9: العراق محتلّ عسكرياً، وكوريا الشمالية على أعتاب تسوية/ ترضية، وأمّا إيران فإنها اليوم المرشحة في الميدان! ليس في ميدان العسكرة وتخصيب اليورانيوم والتغلغل في العراق ومسح إسرائيل من الخريطة (بطريقة واحدة وحيدة حتى الآن: ممحاة الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد!)، بل كذلك في الميدان العقائدي الإيديولوجي سواء بسواء. ذلك لأنّ الحرب على الإرهاب هي، في ناظر الرئيس الأمريكي، "أكثر من نزاع عسكري. إنها الصراع الإيديولوجي الذي سيحدّد وجهة القرن الواحد والعشرين". وما يعتبره بوش "مجموعات إرهابية متباينة" إنما تشكّل في رأيه "خطوط حركة واحدة هي عبارة عن شبكة عالمية من المتشددين الذين يستخدمون الإرهاب لقتل مَن يعترض إيديولوجيتهم الشمولية الإستبدادية".
ثمة، إذاً، ترحيل نحو الإيديولوجيا ـ الفارقة الفاصلة بين الخير والشرّ والأسود والأبيض والبربرية والمجتمع الدولي والذي ضدّنا لأنه ليس معنا وسوى ذلك من ثنائيات ـ يستهدف التغطية على الكوارث الناجمة عن سياسات هذه الإدارة تحديداً، في العراق الذي يقف كلّ يوم على شفير التفكك الوطني والحرب الأهلية المذهبية، وفي أفغانستان حيث يعود الطالبان والخشخاش وأمراء الحرب، لكي لا نتحدّث عمّا يجري في فلسطين المحتلة، وفي لبنان... وفي هذا قد يكون السادة الإستخباريون، بن سلطان وسليمان وبن زايد والذهبي، أجزى فائدة من السادة الدبلوماسيين... حتى من عيار سعود الفيصل!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة منذ 7 عقود، فيتنام تدعو فرنسا للمشاركة في إحياء ذكر


.. غزيون عالقون في الضفة الغربية • فرانس 24 / FRANCE 24




.. اتحاد القبائل العربية في مصر: شعاره على علم الجمهورية في ساب


.. فرنسا تستعيد أخيرا الرقم القياسي العالمي لأطول خبز باغيت




.. الساحل السوداني.. والأطماع الإيرانية | #التاسعة