الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدب القضاة -20

خالص عزمي

2007 / 2 / 24
دراسات وابحاث قانونية


خيري الهنداوي

أول ما قرأت عن الهنداوي ؛ كان في كتاب ( الادب العصري ) للاديب الصحفي روفائيل بطي ؛ اذ كان هذا الاعلامي الكيير ؛ قد أرخ لطائفة جليلة من شعراء العراق وادبائه خلال القرن العشرين ؛ كالارصافي والازري والشبيبي والبناء والزهاوي والدجيلي والشرقي والكاظمي ... وسواهم وطبع كتابه ذاك في مجلدين... وبطباعة متقنة مصورة قل نظيرها آنذاك . وكان الهنداوي من بين هذه الكوكبة ؛ ولعل قصته ( زينب وخالد ) التي كتبها في اكثر من مأتي بيت من الشعر والتي أشارت اليها الصحافة ومصادر النصوص الادبية ؛ قد استهوتني قرآءتها بالذات لما اتسمت به من رومانسية أرسلت الدمع من عيني مدرارا لا سيما وقد كنت في سن المراهقة حينما اطلعت عليها اول مرة : ــ
أتعلم ما كانت جنـــــــاية خالد
وفيم عليه القوم صاحوا وأجلبوا
لقد كان صبا بالعراق وأهــــله
يثور اذا سيموا الهوان ويشغب
يدافع عن احســــابهم وحقوقهم
ويطعن في صدر العدو ويضرب

ولمااصبحت في سن الشباب ؛ أخذ المرحوم والدي يصحبني معه الى بعض مجالس الادباء والشعراء وغيرهم ؛ وكان بيت الهنداوي من اوائل البيوت الادبية التي دخلتها . كانت الدار واسعة تحيطها حديقة امامية مزهرة مخضلة ؛ تقع على شارع الاعظمية الرئيسي ؛ في مقابل ثانوية الاعظمية للبنين ( كلية العلوم قيما بعد ). كان الهنداوي ( ابو مالك ) طويل القامة ؛ نحيف الجسم ؛ له عينان سوداوان وانف حاد وجبهة عريضة لم يبق للشعر مكان على صدارتها ؛ و كان يتميز بنبرات صوت بدوي فيه تعبير وابهة ووضوح . مع ذلك فلم يكن يتميز عن اقرانه من الشعراء بخاصية في الالقاء الشعري كالرصافي مثلا ؛ فقد كان يلقي برتابة وعلى نغم واحد حيث تتعاقب الابيات دونما تغير يتماشى مع مفهوم أختلاف المعاني والمباني . أما في حديثه العفوي المتنوع المنساب فقد كان بعيدا عن الرتابة تماما ؛ عملا بالحكمة التي تقول ( لكل مقام مقال ) ؛ ولعله من القلة الذين يجيدون رواية الطرفة بتعبير ووضوح ؛ بل وبالقاء خاص يجسد العبرة من ورائها .

في ارض ممرعة صغيرة تقع ما بين مياه كنعان والخالص ؛ وفي مدينة متواضعة ايضا اسمها ( ابو صيدا )
في ديالى ؛ فتح الهنداوي عينيه ؛ وكان اول ما تلقفت اذناه أيات من القرآن الكريم مرتلا في بيت ابيه محمد صالح ؛ وحينما طرق ابواب السادسة استمع الى موالات وزهيريات جده السيد عبد القادر الحسيني ؛ وهو ينشدها بصوته العذب والقائه الجذاب . وبحكم تنقل والده في وظائفه من مدينة الى اخرى ؛ كان الهنداوي يفيد من الثقافة الميدانية والتقاليد والعادات الشعبية ؛ حيث اختزنت كركيزة اساسية في محصلته التربوية ؛ وما كاد يصل مرحلة الصبا ؛ حتى قيض له ان يحل في بغداد ويأخذ دروسه على يدي استاذيه الجليلين الشيخين علي علاء الدين الآلوسي ؛ و مصطفى الواعظ .حيث كانا ــ في وقتهما ــ من أئمة الخطابة والبلاغة والفقه الاسلامي .

بعد هذه المرحلة الدراسية المكثفة ؛ ظهرت عليه سمات النبوغ الشعري وهو لما يتجاوز العشرين من العمر ؛ حيث أخذت ملكته في النظم تتقدم نحو الافضل ؛ بخاصة حينما تمكن من الاتصال بشاعري العراق الزهاوي والرصافي في بدايات القرن العشرين ؛ فقد افاد منهما فائدة غنية في مختلف اوجه الشعر وتنوع مواضيعه واساليبه ولغته . كما كان لسفره المبكر الى اقطار شتى أثره في الاطلاع على كثير من تطور النهضة الادبيه العربية ؛ .... وقد أدى كل ذلك الى صقل مواهبه وقدراته وتوسيع دائرة ثقافته لادبية .


وكما تذكر لنا مصادر التاريخ الادبي المعاصر ؛ ان الهنداوي تنقل في وظائفه البسيطة اثناء العهد التركي وكذلك اثناء الاحتلال البريطاني للعراق من مكان الى آخر مما جعله على تماس مباشر مع الطبقات البسيطة الكادحة التي الهمته كثيرا من صور المعاناة والاجحاف و مما انعكس بالتالي على مواقفه الاجتماعية الانسانية بشكل عام .

في حزيران عام 1920 اندلعت الثورة ضد الاحتلال البريطاني في عموم انحاء العراق وبخاصة في منطقة الفرات الاوسط ؛ فلم يجد الهنداوي نفسه الا مع الصفوة الوطنية من الثوار ؛ فأسندها بكل امكانياته الخطابية والادبية ؛ وكان جزاء هذا الموقف المشرف ان فصل من وظيفته ثم القي القبض عليه ونفي مع بعض احرار العراق الى جزيرة هنجام ( تلك الجزيرة الواقعة في مضيق هرمز مقابل سواحل سلطنة عمان )؛ حيث بقي فيها منفيا مع زملاء الكفاح مدة قاربت على العام
و لقد اتاح له هذا النفي والبعد عن الوطن الغالي فرصة في نظم الكثير من القصائد التي كانت تعبر عما كان يعانيه من لوعة الغربة والبعاد : ــ
قذفونا خلف البــحار بأرض
عندها يأمن الصبوح الغــبوقا
قيعة في جزيرة لا ترى فـيها
أنيسا الا الصدى والنعيـــــــقا
أيها الضفدع الكبير ؛ خلا الجو
فأكثر كما تشــــــــــاء النقيقا
مرحبا بالخطوب ان هي كانت
سببـــا موصلا الينا الحـــقوقا
لا ابالي اذا خدمـــــــت بلادي
أأســــيرا رأيتنـــــــي أم طليقا
واذا كان باغــــــــترابي نجاح
لاعدمــــت التغريب والتشريقا
ويذكرني اغترابه في المنفى باغتراب الشاعر الكبير محمود سامي البارودي في منفاه في سيلان حيث يتذكر وطنه مصر بقوله :
ملاعب لهو طالما سرت بينـنا
على أثر اللذات في عيشة رغـد
اذا ذكرتها النفس سآلت من الاسى
مـع الدمع حتى لاتنهنه بالـــــــرد

في بدايات عام 1921 عاد الى الوطن من هنجام ؛ فأعيد توظيفه كباقي زملائه المفصولين ؛ حيث أشغل مراكز ادارية عدة في الهندية ؛ والشامية ومندلي وديلتاوه وعلي الغربي والمحمودية ... وبمرور الزمن تقدم في مناصبه فعين متصرفا للواء المنتفك ثم الكوت ؛ ولكن الحال لم تستمر في الصعود ؛ فقد انتكست به ؛ حيث خفض منصبه عام 1934 ليعين معاونا لرئيس تسوية حقوق الاراضي ؛ وفي عام 1935 رفع الى منصب رئيس تسوية . وقد بقي في مسلكه القضائي هذا مدة تزيد على الخمسة عشر عاما ؛ حكم خلالها في منازعات قضايا حقوق الاراضي ؛ في كل من الحلة ؛ وكركوك والديوانية ثم أعيد الى الحلة ثانية . وكانت قرارت الهنداوي في كل تلك الفترة الزمنية الطويلة ؛ تتسم بروح العدل والموازنة الدقيقة ما بين ما تحكم به النصوص القانونية وبين ما هو واقع على الارض من تلك المنازعات التي ما كانت تخلو من مداخلات جنائية فردية ؛ او عشائرية . الا ان بعض ملفات وزارة العدل تمنحنا انطباعا ؛ بأن الهنداوي على صلابته و حزمه وتمسكه بالقانون ؛ كان ميالا الى حل القضايا بما يؤمن التسامح في الشكليات القضائية ما دام ذلك يؤدي بالنتيجة الى تحقيق العدالة .

في عام 1949 ؛ احيل الهنداوي على التقاعد لبلوغه السن القانونية فوجد في ذلك متسعا للانصراف الى تقوية اواصر الصداقة مع كثير من زملاءالقانون والادب ؛ وكذلك الى معاودة نشاط مجلسه الادبي؛ الذي كان يعتبر من مجالس الاعظمية الذي شهد حضورا مكثفا لعدد من الادباء ورجال القانون والصحافة .

اذكر ان آخر مرة التقيته ؛ كانت بصحبة الشاعر اللبناني الكبير أمين نخلة اثناء زيارته الى بغداد في نهاية عام 1955 ؛ لقد بدا عليه السرور وهو يلتقي بهذه القامة الشعرية اللبنانية الباسقة في ضيافته حيث دار الحديث في مجال الشعر والادب والذكريات فروى الكثير ا منها ؛ ومن ذلك ما علق بذهني حيث استعاد الهنداوي طرفة عن صديق عمره الرصافي ؛ اذ قال (سألني مرة احد رواد مجلسي وبحضور الرصافي عن لقب الهنداوي الذي عرفت به ؟ فما كان من الاستاذ الرصافي المعروف بسرعة بديهته الا ان اجابه نيابة عني بقولهة : انت تعرف يا اخي ان الاستاذ خيري عانى كثيرا من خيام محاكم التسوية فلما منح اجازة اعتيادية طويلة الامد للاستجمام ؛ ابتهلها فرصة ؛ فلم يسافر الى سوريا او لبنان كما يفعل كبار الموظفين عادة ؛ بل قصد موقعا لا يبعد عن مقر عمله سوى بضعة كيلومترات وهو(ناحية سدة الهندية )؛ ومن هنا جاءه هذا اللقب تيمنا من اصدقائه بهذه الرحلة المباركة !!! وهنا ضج المجلس بالضحك ) لهذه المداعبة الاخوانية الطريفة . كما اذكر ان الشاعر امين نخله سأله عن اسلوبه في نظم اقاصيصه الاجتماعية المؤثرة ؛ فأجاب الهنداوي : ـــ لقد سبقني الى ذلك شعراء عراقيون كبار ( يقصد بذلك ؛ الزهاوي في ليلى وسمير ؛ والرصافي في اليتيم في العيد ؛ والفقر والسقام...الخ )؛ ولكنني سلكت طرقيا كنت ارى فيه اليسر والصواب ؛ألا وهو لجوئي الى كتابة القصة التي اريد نظمها على طريقة ما يكتبه القصاصون الكبار مثل خلف شوقي الداودي ؛ ومحمود احمد السيد اولا ؛ وحينما تتكامل القصة عندي من حيث الجوهر والشكل؛ ابدأ بالنظم حسب تسلسل تلك الاحداث من دون ان احور بسبب اغراض النظم ؛ وهذا اللون يتطلب الصبر والاناة والمكنة اللغوية والاحساس بالانفعالات طبقا للاحداث .)

لقد توقف اغلب النقاد امام عمليه الابداعيين ( زينب وخالد ـ او فتاة بغداد وفتاها ) و( فتاة سلانيك ) ؛ حيث ابرز في الاولى الصيغة التراجيدية في اطار رومانسي ملحمي حزين ؛ اما في الثانية فقد استوحى التاريخ من فقدان هذه الدرة الثمينة ( مدينة سلانيك ) وهي مرفأ يقع على بحر ايجه ومن اكثر المدن التركية تقدما وازدهارا ورفاهية ( حيث انتزعت هذه المدينة الزاهية والحقت باليونان؛ وهي ذاتها التي نفي اليها السلطان عبد الحميد حينما تقرر سجنه في فيلا مشهورة هناك تسمى ( لاتيني ) .
ففي قصصه الشعرية تلك ؛ برزت قابليته في البناء الموضوعي و الشكلي على حد سواء ؛ من حيث مكنته في الحبكة القصصية والنفس الطويل في النظم الذي حاكى به اسلوب الملاحم في تماسك البداية والسرد التفصيلي والنهاية في اطار من وحدة الموضوع .ومقياس تفوقه بهذا اللون الابداعي نسبي تبعا لمقاييس العصر .

نظم الهنداوي ؛ الوانا من الشعر في الوطنية و المدح والهجاء والمداعبات والغزل والاخلاقيات كالمروءة والشهامة والايثار ؛ كما كان ميالا الى الغور في النفس الانسانية ؛ والبحث عن الجوانب المجهولة فيها ؛ اضافة الى ابداعاته في وصف الطبيعة كما هي الحال مع بعض شعراء جيله كالرصافي والشرقي وباقر الشبيبي واحمد الصافي النجفي والازري ...كقوله :

وتركت الفرات ؛ بل كوثر الخلد
لاهلــــــــــــــــيه وارتشفت الثمادا
عفت جسري بغداد والنهر يجري
باطـــــراد والحسن يجري اطرادا

لقد تصدى لاعماله الشعرية الكثر الاديب الشاعر الصديق الدكتور يوسف عزالدين ؛ فاصدر كتابه الجامــــــع
( خيري الهنداوي ـ حياته وشعره ) في سلسلة منشورات جامعة الدول العربية عام 1965؛ وكذلك الى جمع شعره في ديوان فخم اصدره في بغداد عام 1974 ؛ احتوى على الاغلبية الساحقه من قصائده المخطوطة او المنشورة ؛ وذلك بجهد استثنائي يستحق عليه الاكبار والتقدير .

وكم اتمنى ان يكتب الدارسون في المجال القانوني بحوثا في القرارات القضائية التي اصدرها في مجالات النزاعات الحقوقية التي فصل فيها خلال المدة الطويلة التي قضاها في رئاسة التسوية ؛ فانهم واجدون لاشك ثروة قضائية تتسم بالعدالة و تطبيق النص اضافة الى حسن السبك اللغوي القانوني .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس تتهم نتنياهو بالتخلي عن مقترح بايدن والأونروا تتحدث عن


.. اليونيسف: لدينا نحو 100 مليون طفل وشاب في القارة الإفريقية م




.. شهداء وجرحى نتيجة قصف إسرائيلي على محيط خيام النازحين غربي م


.. اعتقال سائحة أميركية اقتحمت مسجدا في يافا.. واعتلت منبره




.. اليونيسف: الأمور ستصبح أسوأ إذا لم يتم وقف إطلاق النار في غز