الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
ومضة ضوء : دولة التلاوة: حين يتحول برنامج تلفزيوني إلى أداة للإقصاء الديني.
محمد سعد خير الله
محمد سعد خيرالله عضو رابطة القلم السويدية
(Mohaemd Saad Khiralla)
2025 / 12 / 1
مواضيع وابحاث سياسية
في الرابع عشر من نوفمبر الجاري انطلق في مصر برنامج "دولة التلاوة"، وهو مسابقة دينية كبرى لاكتشاف ورعاية المواهب الشابة في ترتيل وتجويد القرآن. جاء إطلاقه بتعاون مباشر بين وزارة الأوقاف والشركة المتحدة للخدمات الإعلامية المملوكة رسميًا لجهاز المخابرات العامة المصري، وبمشاركة واسعة تجاوزت أربعة عشر ألف متسابق. وتبلغ قيمة الجوائز نحو 3.5 مليون جنيه، وتشمل تسجيل المصحف بصوت الفائزين وإمامة صلاة التراويح في مسجد الإمام الحسين. ويُبث البرنامج على قنوات الحياة وCBC والناس ومصر قرآن كريم ومنصة Watch It مساء الجمعة والسبت.
ومنذ لحظة الإعلان عن المسابقة، أثارت جدلًا شعبيًا واسعًا عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بين فريق يرى فيها مبادرة إيجابية تستحق الإشادة، وفريق آخر يعتبرها خطوة كارثية تعمّق المسار الذي يهدد دولة المواطنة التي يحلم المصريون بالوصول إليها يومًا ما. فالمشهد برمّته يوحي بأننا أمام تطور جديد خلاصته مزيد من التشدد الديني وتوسيع حضور الخطاب الأحادي في المجال العام، على حساب التنوع الديني والفكري الذي يفترض أن تقوم عليه الدولة الحديثة.
وفي خضم هذا الخلاف المحموم، تلقيتُ العديد من الأسئلة والاستفسارات حول رأيي فيما يحدث، وقد وصلتني عشرات الرسائل عبر مختلف تطبيقاتي. لذلك رغبتُ أن يكون هذا المقال بمثابة ردّ واضح على كل تلك التساؤلات.
وعليه أقول إن هذا البرنامج بما يحمله عنوانه قبل مضمونه ليس مجرد مسابقة دينية، بل مؤشر على توجه سياسي يعيد تشكيل المجال العام وفق هوية عقائدية واحدة، ويقصي كل ما عداها. كما أن توظيف أدوات الدولة الإعلامية والدينية في مشروع واحد بهذا الحجم يكشف انتقال السلطة من إدارة الشأن الديني إلى هندسة الهوية نفسها، بما يثير مخاوف حقيقية حول مستقبل التعددية، وحدود ما تبقّى من مفهوم "المواطن" في جمهورية العساكر.
هذا الخطاب يحمل بوضوح طابع الإقصاء، إذ يُخرج من المجال العام ملايين المواطنين الذين لا تتطابق هوياتهم مع القالب العقائدي المفروض. وتشمل هذه الفئات(الأقباط بمختلف طوائفهم ((الأرثوذكس، الكاثوليك، البروتستانت، الموارنة)، والبهائيين، والملحدين، واللادينيين، واللاأدريين، إضافة إلى أقليات دينية صغيرة أو شبه منقرضة مثل اليهود الذين كان عددهم يُقدَّر بنحو ثمانين ألفًا وأصبح اليوم أقل من(( عشرة أشخاص فقط)). كما يطال الإقصاء جماعات مثل شهود يهوه، والطرق الروحية والصوفية غير التقليدية.
الرسالة هنا تتجاوز حدود الخطاب الثقافي؛ إنها عملية تفكيك منهجي للنسيج الوطني وإعادة تعريف للمواطنة وفق معيار اعتقادي ضيّق. وبصيغة أوضح: الدولة تُوجّه إنذارًا صريحًا لمن لا مكان لهم في الفضاء العام. هذا الإنذار لا يقتصر على التهميش الرمزي، بل يفتح الباب أمام(( مرحلة كارثية)) من التضييق الاجتماعي بسبب الإيمان أو عدمه. وعليه، لا يعد مسمى ((دولة التلاوة)) مجرد عنوان لبرنامج تلفزيوني، بل إعلانًا سياسيًا وثقافيًا يُمنح فيه النظام حق صياغة الهوية الوطنية بمنطقٍ ذي هوى داعشي. وهنا يكمن الخطر الحقيقي وقتما يصبح(( الاختلاف العقيدي)) سببًا للإقصاء، تتفكك المواطنة وتتلاشى العدالة، ويُلقى بالمجتمع إلى هوّة التهميش الهيكلي التي تبتلعُ ملايين من أبنائه.
ولنا أن نتخيّل، ولو للحظة، شعور ملايين المصريين المختلفين عقائديًا (من الأقباط وباقي الفئات التي أشرتُ إليها) وهم يفتحون أجهزة التلفاز في بيوتهم ليجدوا برنامجًا تموّله الدولة من ضرائبهم ويُسخَّر لتمجيد "كتابٍ آخر" لا يؤمنون به أصلًا. والأشدّ فداحة أن يخرج علماء ينتمون إلى هذا التيار ليفتوا ويحللوا ويشرعنوا استباحة هذه الفئات بلا أدنى تردد، وكأنهم يعيشون في دولة تُعرّف نفسها رسميًا بوصفها دولة إسلامية.
وهنا تبرز المفارقة الصارخة: فالحقيقة المؤكدة التي لا تقبل تشكيكًا هي أن أقباط مصر هم السكان الأصليون لهذا البلد، وهم الذين( حافظوا بكل السبل الممكنة)على جذور الحضارة المصرية القديمة منذ الغزو، أكرر: الغزو الإسلامي لمصر، الذي وقع بين عامَي 19 هجريًا (640 ميلاديًا) و21 هجريًا (642 ميلاديًا)، بقيادة الغازي المحتل عمرو بن العاص.
وهنا أتذكّر مقولة الفيلسوف جون رولز حين قال: "العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية"، وهو تذكير صارخ بأن الدولة التي تُقصي بعض مواطنيها تفقد فضيلتها الأولى. ليت حكّام وطني (( المبعدُ عنه)) يسمعون.
|
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. لبنان يختار مدنيا على رأس الوفد المفاوض في محادثات تطبيق اله
.. برنامج -موجو غزة-: قصص معاناة وصمود أهالي غزة بتصوير شبابها
.. لقاء بين مسؤولين لبنانيين وإسرائيليين ضمن لجنة مراقبة وقف إط
.. نتانياهو لا يستبعد اتفاقا مع سوريا ويتوقع إنشاء دمشق لمنطقة
.. ترقب لإعلان نتائج المحادثات اللبنانية الإسرائيلية في الناقور