الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في إعلامنا الأصفر

محمود الباتع

2007 / 2 / 25
الصحافة والاعلام


تطلق تسمية الصحافة الصفراء على ذلك النوع من الصحف والمطبوعات التي تعنى وتتعاطى مع أخبار الفضائح والإثارة أو على الممارسات اللامسؤولة والغير أخلاقية لبعض المؤسسات الصحفية أو بعض الصحفيين . وتعود هذه التسمية إلى ما بين عامي 1895 و 1898 من القرن التاسع عشر عندما اندلعت حرب إعلامية بين كل من جوزيف بوليتزر من صحيفة “نيويورك ورلد” و ويليام راندولف هيرست من صحيفة “نيويورك جورنال” حيث لجأت الصحيفتان إلى اعتماد لغة ذات إيحاءات جنسية مثيرة عند طرح مواضيع جدية وهامة وذلك بهدف اجتذاب المزيد من القراء وتحقيق أرقام أعلى من المبيعات. فما كان من صحيفة “نيويورك برس” إلا أن انتقدت هذا التوجه في عام 1897 عندما وصفت كلتا الصحيفتين بأنهما صحف صفراء دون أن تحدد ما الذي كانت تعنيه بذلك، إلا أن هذا الوصف ما لبث أن أصبحَ تعبيراً تحقيرياً لوصف تلك الصحافة التي تعتمد الأسلوب الفضائحي والإثارة والفرقعة بمختلف أشكالها وسيلة لنشر الأخبار بهدف زيادة الإقبال الجماهيري وبالتالي زيادة حجم المبيعات وهوامش الأرباح. وعموما فإن سطوة الإعلام الصحفي المقروء والمسموع والمرئي أصبحت لا تخفى هذه الأيام ، فمنذ أن اعتمد وزير الدعاية في دولة ألمانيا النازية أسلوب الكذب الممنهج على الجماهير بهدف إقناعهم بتصديق ما ليس حقيقياً في الواقع، فإن الكذب عبر وسائل الإعلام أصبح مدرسةً معتمدة من مدارس الإعلام لها مريدوها وأتباعها حول العالم أجمع، وأصبحوا لا يخجلون من الإعلان عن ذلك بل وربما المباهاة به !

مع تطور المسيرة الإنسانية وتنامي دور الإعلام الصحفي في الحياة ليومية لم تعد الصحافة مقصورة على الجرائد والمجلات وما شابهها من المطبوعات وإنما امتدت لتشمل جميع المجالات الإعلامية وصارت كلمة ميديا تعبيراً دارجاً عن كل ما يتعلق بالعمل الإعلامي، كما أن اللون الأصفر قد انتقل هو الآخر في ما يشبه العدوى من بعض المطبوعات ليشمل مجالات العمل الإعلامي جميعها، وبعدما أتحفتنا العولمة التكنولوجية بالفضاءات المفتوحة وسيول لا نهاية لها من القنوات التلفزيونية وبعد أن بدأنا نتنفس الصعداء لما صاحب هذا الانفتاح الإعلامي من بعض الهوامش المبهرة لحرية التعبير وإبداء الرأي طالما افتقدناهما وأصبحنا في مسيس الحاجة إليهما أخذت تصدمنا حقيقة أن اليرقان التلفزيوني كان أدهى وأشد مرارة من صفار الصحافة المطبوعة، فأصبحت قنوات الإسفاف تملأ الأجواء بمحتواها الغث وانتشرت كالنارِ في الهشيم قنوات الخلاعة والعري والرقص الماجن وكذلك بذاءات التافهين على الأشرطة المتحركة أسفل الشاشات تشيع بين أوساط الفئات الشابة ثقافة من نوعٍ جديد هي ثقافة الإسفاف الذي صار صفة ملازمة لتصرفات كثيرين من آباء وأمهات الغد، وبعد استدراج فئة الشباب بهذه الهجمة التفاهية، التفت أباطرة الانفتاح الإعلامي إلى الكبار منا فأصبحنا نرى ما نراه من قنوات الدجل والشعوذة الآخذة في الانتشار كالوباء في فضاءاتنا في عملية مفضوحة وفاضحة لاستغلال السذج والجهلة منا وما أكثرهم بهدف الاستيلاء على ما في جيوبهم لتنتفخ بها جيوب أولئكَ النصابين الذين ينتحلون المشيخة جهاراً نهاراً وهم من يتمتعون بهيئات مهربي المخدرات حتى بلغت الصفاقةُ بأحدهم أن يقول على الهواء لأحد السائلين أنه وهو من يسمي نفسهُ بالشيخ فلان لا يعرف معنى تلك الآية التي يطلب من السائل تلاوتها على الماء العطر بماء الورد وما إلى ذلك من خزعبلات واللهم لا اعتراض، فبينما الناس في تهافت على كل هذه الموجات من المرض الإعلامي نجد أننا نحن المنادين ليل نهار بحرية الرأي والتعبير قد أصبحنا في ورطة وضعتنا في موقف العاجزين أدبياً على الأقل عن المطالبة بمنع أو إيقاف هذا الذي يجري، لكن وبما أن رزق الهبل على المجانين فليس بيدنا إلا أن نتوجه برجاء إلى جموع هؤلاء المجانين الذين يرفدون تلك القنوات بأموالهم المقتطعة من فواتير هواتفهم التي ربما لا يملكون تسديدها في كثير من الأحيان لنقول لهم من فضلكم توقفوا عن بعض جنونكم رحمة بأنفسكم وبأموالكم التي ستسألون عنها يوم السؤال، خصوصاً وأن الأمر ليس معجزة فالمسافة بين الابتذال والرصانة لا تبعد أكثر من كبسة زر لا أكثر. ليست هذه دعوةً إلى النكد ولا نهياً عن الترفيه، فهناك الكثير من الترفيه الراقي والممتع والمجاني أيضاً، وليست الرصانة مقصورة على قنوات الأخبار أو المحطات الثقافية أو الدينية بل إن لدينا الكثير من المحطات المفيدة والممتعة في آن والتي لا تتوه عن المشاهد إذا أراد البحث عنها.

إذا كانت رسالة الإعلام هي التنوير ووسيلته وغايته هي الحقيقة، فإن الحقيقة الوحيدة في كل ما يجري في إعلامنا هي كم أننا مهووسون بالفضائح ومسكونون للأسف بالبحث عن كل ما ينطوي على قلة الأدب. وهاهي الإعلامية اللامعة التي تزين اسمها بحرف الدال والتي بنت أمجادها على انتهاك كل ما هو محتشم بدعوى كسر القيود وتحطيم التابوهات الاجتماعية والدينية والأخلاقية، تحظى بفضل ذلك بجماهيرية كبيرة يدركها القائمون على المحطات الفضائية ويتخاطفونها محطة من أخرى للحصول على خدماتها بل ويدفعون لها مبالغ خيالية في مقابل الاستيلاء على جمهور هذه الإعلامية الفاقعة الصفار وضمه إلى قوائم مشاهدي محطاتهم، أقول هاهي الدكتورة هالة سرحان تتعرض للاتهام والطعن في مصداقيتها المهنية عندما اتهمت بتلفيق اعترافات من قدمتهن على أنهن من فتيات الليل لتقدمهن قناة أخرى منافسة ويفترض أنها رصينة بصفتهن فتيات شريفات ولا علاقة لهم بالليل وانحرافاته، وأنهم ما أقدموا على شهادتهم المزورة تلك في حضرة هالة سرحان وجمهورها إلا تحت إغراء رشوةٍ من أربعمائة جنيه مصري وقرص من البيتزا لكل منهن، الأمر الذي تحول إلى فضيحة صفراء لا يزال التحقيق فيها جارياً، وأياً كانت نتيجة هذا التحقيق فإن الفضيحة الحقيقية قد طالت إعلامنا بالفعل ولا تزال التهمة تتأرجح بين الدكتورة هالة والمحطة المنافسة، ولن تكون براءة أحد الطرفين إلا لحساب إدانة الطرف الآخر، فإذا كان الإسفاف الصادق جريمة فإن الإسفاف والابتذال المفبركين طامة كبرى والكذب على الجمهور جريمة لا بد أن تطالها الأمانة ويثأر لها الشرف، وعندما تصبحُ الوقاحةُ جرأة وقلةَ الأدبِ انفتاحاً فيجب أن نعيد النظر في قيمنا ومفاهيمنا أما عندما يخدعنا أحدهم ويسفهنا ويبصق في وجوهنا بأكاذيبه ثم نصفق له ونهلل فعندها يتوجب علينا الاستقالةَ من آدميتنا وبدون تردد.

ليس دفاعاً عن الفضيلة المهدورة فإن للبيت ربٌ يحميه، وليس تحاملاً على هالة شو فالإناء قد نضح بكثير مما فيه ولكن ونحن في هذا الزمن وتحت هذه الظروف فإن آخر ما نحتاجه هو أن يهبط علينا إعلامي من المريخ مهما كان شأنه لينبهنا بأننا لا نعيشُ في جمهورية أفلاطون وليكتشف بتفرد فائق وجود عوراتٍ لدينا هو وحده من يدركها، وليتناول وظائف فسيولوجية بشرية ذات صبغة مخجلة نوعاً ما على قاعدة الحقيقة والمكاشفة باعتبارها اكتشاف البوزيترون فهذه هي الأزمة الحقيقية التي نعايش، وفي الحقيقة أن ظاهرة هالة سرحان وفضائيات الخلاعة والتعري وقنوات الدجل والشعوذة ليست إلا بعض من إفرازاتنا، ويشهدُ على ذلك ما يتمتعُ به هذا الهراء من شعبية وإقبال كاسحين يدل عليهما هذا الانتشار الوبائي لمثل هذه الظواهر التي أصبحت إلى جانبها صحافة جوزيف بوليتزر وويليام راندولف هيرست بمثابة مزامير داود أو الوصايا العشر التي لا يستمعُ إليها أحد.

أين هذا الإعلام من ذاك الذي أطاح في ما مضى بنيكسون وفضحَ كلينتون وزلزل عرش أولمرت وقضى على حاييم رامون وعرى أكذوبة الحرية الأميركية في أبوغريب وأماط اللثام عن جريمة قتل محمد الدرة وشهر بمغتصبي صابرين الجنابي في العراق، وأين هالة سرحان من أوبرا وينيفري التي جاءت بساقطات ومدمنات وضحايا اغتصاب أتين بأرجلهن ليتحدثن عن تجاربهن وزلاتهن وسقطاتهن في برنامجها بوجهٍ مكشوف وصوتٍ جلي دون أن يجدن من يتهمهن أو يتهم أوبرا بالإساءة إلى سمعةِ أميركا ودون أن تدعي أوبرا بطولةً جراء ذلك؟ صدقوني أن المشكلة كامنةٌ فينا وفي ازدواجيتنا وعشقنا لكل ما يخدعنا وكل من يغرر بنا، وفي قابليتنا للانقياد وراء غرائزنا ومكامن إثارتنا، لنعود بعدها نصب لعناتنا على المؤامرة والمتآمرين. ولكم مودتي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Ynewsarab19E


.. وسط توتر بين موسكو وواشنطن.. قوات روسية وأميركية في قاعدة وا




.. أنفاق الحوثي تتوسع .. وتهديدات الجماعة تصل إلى البحر المتوسط


.. نشرة إيجاز - جماعة أنصار الله تعلن بدء مرحلة رابعة من التصعي




.. وقفة طلابية بجامعة صفاقس في تونس تندد بجرائم الاحتلال على غز