الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الواقعي والتاريخي في النص : رواية / المقهى والجدل / انموذجا

جاسم عاصي

2007 / 2 / 26
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


علاقة الرواية بالتاريخ ووقائعه تنطلق من حقيقة المعاني التي يفرزها واقع المرحلة في كل صراعاته وإشكالاته . لكن ما يشير إلى الاختلاف هو الكيفية التي يتعامل بها النص مع تلك الوقائع التاريخية ، ذلك عبر استقدام التفاصيل من جهة , أو استخدام العلامات الدالة من جهة أخرى . إذ من الممكن ملاحظة الفرق بين الرواية التاريخية الصرفة والرواية التي تتكيء على التأريخ بفنية عالية من خلال آليات الكتابة وحيثياتها . إن كلا النمطين من الكتابة يواجه ما يلي : ( حدث + تاريخ شخصيات + تاريخ مكان + زمان ) ويلعب في هذا المخيال السردي دورا باعتباره رافد يعطي للسارد حرية التصور والخلق وتحقيق الرؤى وانفتاحها على آفاق واسعة وعكس الأحداث عبر النص الروائي . لكنه في الرواية التاريخية ملزم بالحرفية التي عليها التأريخ والشخصيات بمواقفها وأفعالها , وبما يسمى بالأمانة التاريخية , ولا يقف إزاء هذا سوى الأيديولوجية التي عليها السارد , بمعنى حالة الانحياز والوقوف موقفا ً نقديا اتجاه ما جرى داخل الرواية . وفي هذا يكون للأنا الساردة حرية التعليق والخطاب المباشر عبر النقد المباشر والخروج بالسرد نحو مداخلات لا تخدم النص بقدر ما تخدم الحقيقة التاريخية . أي تخدم السارد ـ ( المؤرخ ـ المدون ) في عكس الأحداث والتعامل معها . فيما نجد في الرواية ذات المساس بالتأريخ من باب الوقائع ، وهي سمة جدلية للنص في علاقته بالواقع ، إذ يكون تعاملها حذرا ً وعلاقتها بالتأريخ علاقـة الإشارة والتوظيف أو ( التناص ) فالأحداث هي اللحمة للحدث الروائي وسداه البنى الفنية . فالرواية تعتمد أساسا على المخيلة السردية وشعرية السرد . فهي هنا معنية بحرفية الواقع من باب الانتقاء والتحريك للحدث الروائي ، يضاف إليها مجموع التصورات المستندة إلى الإيديولوجية من جانب الجمال والفكر . هذه الخصائص والسمات التي ذكرناها مجتزأة الآن , ذلك لأن دراسة هذين النمطين من الكتابة لهما خصائص أكاديمية وفنية متعددة ، وما يهمنا هنا هو تقديم لما نحن بصدد قراءته في هذا المجال .
في هذا الضرب من الكتابة كانت لنا قراءات لروايات ذات نمط تاريخي صرف مثل رواية ( بهاء الدين نوري ) عن إضراب كاورباغي ـ كركوك , ورباعية ( شمران الياسري ) . أما الروايات ذات النكهة التاريخية الناقدة ، وهي كثيرة . غير أن أبرزها روايات ( غائب طعمة فرمان ) ورواية ( زهير الجزائري ـ المغارة والسهل ) ورواية ( ما يتركه الأحفاد للأجداد ـ غازي العبادي ) وروايات ( ياسين حسين ) . هذه الروايات وسواها تعاملت مع التأريخ من باب التوظيف , لذا فهي تمتاز في رؤيتها وآلياتها ورؤاها .
ورواية ( مقهى الجدل ) للشاعر العراقي المغترب ( سهر العامري ) نص من النوع الذي ينحاز إلى التاريخ في بنيته أكثر ، لكنه لا يغفل أسس كتابة الرواية وبنيتها العامة . وقراءتها تتم على عقد موازنة تامة من أجل الوقوف أساسا على ما حققه المنشيء من موازنة بهذا الشأن ، وإعطاء لكل جانب فيها قيمته داخل الرواية من باب إسهامه في تطور ونمو الأحداث أو أمانة الأرخنة فيها .
في العام نرى أن الرواية تعاملت مع الشخصيات والمكان باعتبارهما عنصران يمثلان بطل الرواية ، فالسارد تداخلت في بنيته السردية المهام والوظيفة ، بما توفر على سياقات أراها نوعا من التخصيب لأحداث النص ، سيما طبيعة النظرة الراكزة في تأثير كل من الشخصية والأماكن في بعضهما من حيث صياغة خصياتهما . وهي كمكان تتمثل بيئة الأهوار زائد مراكز الشرطة ودوائر الأمن ، ثم المدن والريف . فالرواية بشكل عام لا تفرط بكلا الجانبين التاريخي والمتخيـّل ، وأمانتها تتجسد بالحفاظ على تأريخ العراق السياسي المتمثل في تاريخ الأشخاص والبيئة ، وبطلها كان قد خاض تجارب في هذا الضرب من الفعاليات الاجتماعية والسياسية في بقعة ريفية متاخمة لأهوار الجبايش جنوب العراق . لذا فقد تمثلت الرواية طبيعة هذه البيئة المتمثلة في العلاقات الاجتماعية وطقوسها والمتأثرة بخيبات ما يجري جراء العنف السياسي وتشكل البنية الاقتصادية فيها ، بيئة تعتمد على ما تنتجه زراعة وحيوات ماء .ومن ثم ما تنتجه جراء ذلك اجتماعيا ً وسياسياً. سيما الأحداث التي ارتبطت بحقبة زمنية ما بعد ثورة 14 تموز 1958، لذا فإن علاقتها بالتاريخ السياسي مبني على علاقة مباشرة ، حيث تمثلت شخوصها جميعا على أنهم بطل واحد في أصرة اجتماعية ـ بيئية محددة ، حيث ارتبطوا مع بعض بغض النظر عن هوياتهم السياسية والطبقية والوظيفية . لكن السارد تعامل معهم على وفق وعيهم الطبقي والمكتسب ومن باب انحيازهم إلى القضية الوطنية الخاصة . غير أن من الملاحظ أن هذا التعامل الواقعي مع الأحداث قد أزاح بعض الثوابت ليؤسس مناحي أخرى في الرواية ، اعتمادا على المخيلة السردية ، باعتبارها رافد مهم وأساسي يعكس رؤيا واقعة ، ويحقق توازن هذه الرؤيا مع الذات المتشوفة للحدث وللآخر المتفق والمختلف . لذا فلا تخلو الرواية من تدخلات صوت من خارج السارد بخطابات مباشرة أو تقريرية . هذا من جهة ، ومن جهه أخرى أضفى السارد نكهة السخرية والتهكم الهادف إلى تجسيد الموقف ، حيث وصل هذا الضرب من التعامل إلى تمثل بنية الحكاية والمثل باعتبارهما تشكلان مفردات العقل الجمعي الريفي من حيث دلالتها . فالسارد على الرغم من مستواه الثقافي ( طالب وسياسي منتم ) ، إلا ّأنه كان بسرده وكشوفاته وإشاراته قد تماشى مع وعي الآخر البسيط ، ذلك لأنه متأثر كثيرا بـ ( نجيب محفوظ ) في معالجته للنماذج المسحوقة في حارات مصر القديمة كخان الخليلي وزقاق المدق . بينما نجدها في نص ( المقهى والجدل ) تتمثل في ( أبو صوفة ، وأم ركبة ، وحسين الزرار ، وابن حنف ) وأضرابهم . هؤلاء أضفوا نكهة شعبية على بنية الرواية ، سيما حين يشتد الصراع حد الاختناق ، حيث تكون هذه الشخصيات من يفك عقدة الزمن فيها .
لقد عالج السارد الكيفية التي عليها مجريات ثورة تموز 1958 ، وما حصل من صراعات دموية وانحرافات بطريقة تسجيلية أحيانا . فالرواية على قصرها وحدود إمكانياتها في إستيعاب مثل هذه الاحداث ، إلا ّ أنه ـ أي السارد ـ قد جسد ما كان يمثل هذا الجانب من بيئة الريف ـ الأهوار ـ في طرح حكاياتهم مع السياسة ، ومع التغيير أساسا ، ثم علاقتهم مع العمل المنظم وطبيعتهم الطبقية .
إن ما يميز الرواية هذه هو حرصها على ربط الخاص بالعام ، منطلقة من خاصية الشخصيات وموقعها مع الجماعة . ومن خاصية المجتمع العراقي بأحداثه وعلاقة تلك الأحداث بعموم ما كان يجري في الساحة العربية والعالمية . وأخيرا في المكان وتأثيره على بناء الشخصيات . لذا فأحداث الرواية لم تخرج عن منطق الواقع على كل الأصعدة ، وإنما جسدته بشكل ذكي بسبب من وعي السارد ( ضمير المتكلم ) في نقل تجاربه وتجارب الآخرين ، سواءً في بيئته أو بيئة المدينة ، أو مع ماعلق في ذاكرته من مشاهد في بيئات عربية بحكم عمله كمدرس . لكن لم يوفق السارد في مواقع كثيرة في السيطرة على نبرته الخطابية التي كان دافعها الإيديولوجيا التي تمثلت الأحداث تلك . فقد حفلت الرواية بالكثير من هذا الضرب من الإنثيالات مضاف إليها التقريرية التي تبنت عكس الأحداث ونقل وجهة النظر السياسية . بينما نجده في مواقع أخرى يستخدم الحكاية كرافد دال على ما يريد أن يحققه في النص ، حيث تجسدت في الصفحات ( 96/ 97/ 126/ 177/ ) , وهي حكايات ترمي إلى الإشارة إلى مضمون الحدث أو الواقعة أو الفعل الروائي . وأعتقد أن هذا يعني بلاغة السرد في نص تسجيلي كهذا حمل كل ضروب التوظيفات والاقتباسات ، سيما ورود الأمثال والأقوال المأثورة التي تختصر الطريق في التعبير ببلاغة شعبية كما ذكرنا . فبطل الرواية ( سالم ) يكاد يسيطر على الأحداث من خلا ل عكسها ، غير أنه استطاع أن يوازن بين طروحات الآخرين من أقرانه ، أو ممن يكبره عمرا ، لكنه لم يتخلص من هفوات الانتقال غير المبرر فنيا من زمن روائي إلى آخر ، ومن مكان إلى غيره عبر التداعي الحر . فقد كان التداعي مرهون برغبة السارد في تجميع النوع وليس بدافع طبيعة تحرك الذاكرة أو اللاوعي .
إن رواية ( المقهى والجدل ) سجل أمين لمرحلة عاشها السارد ومن معه ، واقع بحاجة إلى كتابات إبداعية عديدة ، وهو تأريخ لبلد عانى من المتغيرات والصراعات التي أفرزت ظواهر كثيرة . فالشاعر ( سهر العامري ) كان مهوسا ببيئته ، بيئة الأهوار ، وقد عرفناه بقدرته النابعة من طبيعة شخصيته في صوغ الحكاية من خلال حوارات الشفاهية . يضاف إلى ذلك انتمائه إلى حزب عريق في نضاله ، وحسبي أن هذه الرواية ستكون فاتحة لأعمال قادمة تتحكم فيها إمكانيات جديدة بعد ما استنفذ ما يمكن استنفاذه في هذه الرواية .
إشارة : رواية / المقهى الجدل / سهر العامري / إصدار دار ميشون السويد 2003 ط1








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات بحث وسط الضباب.. إليكم ما نعرفه حتى الآن عن تحطم مروح


.. استنفار في إيران بحثا عن رئيسي.. حياة الرئيس ووزير الخارجية




.. جهود أميركية لاتمام تطبيع السعودية وإسرائيل في إطار اتفاق اس


.. التلفزيون الإيراني: سقوط طائرة الرئيس الإيراني ناجم عن سوء ا




.. الباحث في مركز الإمارات للسياسات محمد زغول: إيران تواجه أزمة