الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فصول الخوف

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 3 / 5
مواضيع وابحاث سياسية


لقد تصورت البشرية بمضي قرن الموت بالملايين - أي - القرن العشرون , والذي شهد عشرات الحروب الدامية في مختلف أرجاء العالم , والتي أدت بدورها إلى فناء الملايين من الضحايا الأبرياء , وتحول العديد من مدن البلدان المتقدمة والمتحضرة إلى اثر بعد عين , بان هذا العالم سيقبل على قرن جديد , هو قرن ملئ بالآمال والاستقراروالسلام , ولكن - وللأسف - فقد خاب ضن الكثيرين إلى الآن , وها هو القرن الحادي والعشرون يطالعنا في سنواته الأولى بما نتصور انه صورة الألم القادم إلى الأرض , بحيث ستشهد السنوات القادمة من عمر هذا القرن , وعلى أساس هذه الصورة السوداء القاتمة , ما لم تتصوره البشرية من حروب وقتل ودماء وإرهاب , وللأسف - فان هذه الصورة التشاؤمية لقرن نأمل أن نعيشه بسلام واستقرار , هي رؤية لواقع مرير نعاني منه منذ بداية هذا القرن الدامي , بحيث أن جاهلية هذا القرن وكما نتصوره من خلال استقراء الأحداث والوقائع والصور, ستكون بعودة الطائفية والنعرات القومية والأفكار الإيديولوجية المشبوهة إلى الواجهة الدولية وفي مختلف أنحاء العالم , مما قد يتسبب بعشرات الحروب , بل ربما بحروب كونية عالمية جديدة تشعل نارها الطائفية والقومية في بقعة معينة من الأرض ,لتنتشر تلك النار في هشيم هذا العالم , لتملئه خوف ورعب وإرهاب.
فكما هو معروف بان اخطر الحروب التي نشبت في العالم قديما ولا زالت إلى يومنا هذا , هي الحروب القائمة على صراع الأفكار والمعتقدات والأيديولوجيات ,وتكمن خطورة هذه الحروب في كونها صراعات يصعب القضاء عليها بسهولة ,كما أن خطورتها الأخرى تكمن في سهولة إشعالها ونشرها بين العامة والجهلة والمرتزقة والغوغاء و مدمني الموت والقتل والحروب والإرهاب , حيث أن فتيل هذه الصراعات لا يمكن أن يقتلع بقطع الشجرة من جذورها التي نبتت من خلالها , او بتكسير أغصانها السامة , او بقطع أوراقها التي تظلل تلك الأفكار الموبوءة , حيث انه من المؤكد أن تلك الشجرة قد أنتجت بذور كثيرة في أماكن متفرقة من الأرض القائمة عليها , وقد تكفلت رياح الفتنة والطائفية والفكر المريض بنثرها في كل الأماكن التي تساعد على نمو وترعرع تلك البذور السامة,وروتها أمطار الغل والكراهية والحقد لسبب او لآخر , وهكذا تبقى تلك الصراعات فتيل نار كبيرة في وجه عاصفة هوجاء , قد تخفت في بعض الأحيان بفعل رياح التغيير, وقد تزيدها تلك الرياح هيجانا وقوة , ولكن في نهاية الأمر تبقى حقيقة واحدة مؤكدة وهي صعوبة إطفاء تلك النار بسهولة إشعالها , حيث أن ما يغذي لهبها اكبر بكثير من المعطيات الخارجية التي ستساعد على إطفاءها 0
وقد شهدت المنطقة العربية قبل الإسلام الكثير من هذه الحروب والصراعات القائمة على الفكر الطائفي والنزعات العرقية والجاهلية والعصبيات القبلية , كما كان للجوع وحروب الموارد الدور الآخر في إثارة هذه النعرات والصراعات التي أكلت الأخضر واليابس , ورعت فلذات الأكباد وخيار الشباب في تلك الفترة من تاريخ العرب الجاهلي , ومن أشهر واهم تلك الحروب الجاهلية العربية التي جسدت مثال حي لمثل هذا النوع من الصراعات الطائفية الجاهلية , حرب البسوس التي استمرت لأربعين سنة , وحرب داحس والغبراء بين عبس وذبيان , وحرب الفجار بين كنانة وقيس.
فجاء الإسلام بعد تلك الفترة القاتمة من حياة البشرية , ليضع الحد لتلك الأفكار المريضة والجاهلية , فقضى عليها من الجذور بتحريمها , بل حارب بذور الشر الكامنة فيها في كل مكان انتثرت فيه , فحرم الطائفية والعصبية والقبلية بكل أشكالها الداخلية والخارجية , بحيث لم يكتفي الإسلام بتحريم الصراع الطائفي بين أبناءه , بل امتدت جذور التسامح والحب إلى الخارج , فوطد علاقته مع مختلف دول الجوار وبمختلف طوائفها وأديانها , أكانت تلك الدول او الإمبراطوريات مسيحية او يهودية , وهذا سيرت 0 و 0 ارنولد في كتابه - الدعوة إلى الإسلام - مترجم ص 48 يقول :- ( ويمكننا أن نحكم بين الصلات الودية التي قامت بين المسلمين من العرب بان القوة لم تكن عاملا حاسما في تحويل الناس إلى الإسلام , فمحمد نفسه قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية , واخذ على عاتقه حمايتهم ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية , كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم القديم في امن وطمأنينة ) , وكذلك فعل مع شرائح كثيرة من اليهود وغيرهم , ليدل على أن للقيمة الروحية والنفسية للبشر في هذا الدين مكانة أقوى من الجسد , وان التسامح والعفو عند المقدرة والأخلاق الحميدة هي الدين نفسه الذي لابد أن تتمسك به مختلف شرائح و طوائف المجتمع العربي المسلم.
ولكن وكما هو معروف فان سنوات الاستقرار والرخاء والسلام لم تطل كثيرا بعد وفاة محمد ـ صلى الله عليه وسلم , فقد شهدت السنوات التالية لوفاته الكثير من تلك الصراعات الطائفية التي غذتها بعض النفوس المريضة , وبذرت بين عامتها بذور الفتنة والخروج عن رأي الأغلبية , واستمرت تلك الصراعات في الحواضر والممالك والإمبراطوريات الإسلامية المتوالية في مختلف الأرجاء , لتتسبب في سقوط وانهيار ما يزيد عن ثلاثون دولة إسلامية بداية من الأندلس في أوروبا والدولة الأموية والعباسية والسلجوقية والحمدانية والفاطمية .. الخ , وغيرها الكثير من الدول الإسلامية التي كان السبب الرئيسي لسقوطها كما اثبت التاريخ هي فترات الانحلال الأخلاقي والنزاعات الطائفية والمصالح الشخصية والأطماع في الحكم والسلطة , والتي ساهم في نثر بذورها الغرب الصليبي , والدهماء والرعاع وأصحاب النفوس المريضة من المتسالمين في تلك الدول الإسلامية.
وللعلم فان دولنا الإسلامية تلك ليست الوحيدة التي نهشت فيها بذور الطائفية والفتنة والنعرات القومية والأفكار المادية , فقد كان لأوروبا نصيب لا يقل عنها أبدا لا من الناحية الكيفية الانتقائية ولا من الناحية الكمية في عدد تلك الصراعات القومية والمادية والإيديولوجية , ومن أبرزها على الإطلاق الليبرالية والشيوعية والفاشية والنازية والوجودية وغيرها الكثير من تلك الأفكار والأيديولوجيات المادية , والتي تسببت لأوروبا بالعديد من الحروب العالمية الطاحنة التي قضت على العديد من أبناءها , بل وحطمت إمبراطوريات قوية كان لها دور كبير في صناعة التاريخ , ومن منطلق تلك الأفكار التي اهتمت بجانب واحد من جوانب الحياة البشرية , دون الأخذ بالاعتبار لبقية الجوانب فيها , مما تسبب في خلل في توازن الحياة وفطرة الإنسان , وعليه انهارت تلك القيم والمفاهيم الوضعية أمام موجات الفكر المختلف , وحتمية التغيير الذي يثبته الواقع على مدى التاريخ , وليثبت للعالم كافة أن البقاء فقط للقيم والتعاليم القادمة من السماء , فالله عزوجل هو القادر على فهم المتطلبات البشرية ومراعاة مختلف جوانبها ومتطلباتها , لأنه الخالق لتلك الأجساد والأنفس والعقول , وبالتالي فان الصلاح والفلاح في هذه الدنيا والآخرة لا يمكن أن يكون سوى بالتمسك بتعاليمه الربانية فقط.
ان اشد ما يمكن أن يهدد أوطاننا المستقرة والآمنة , هو فتنة داخلية تقوم على هذا النوع من الصراعات الإيديولوجية الفكرية الطائفية , مما يشعل فتيل نار هي اشد من ذلك , تقوم على تدخل الاستعمار والاحتلال بدافع توطيد الأمن الكاذب والسلام المزعوم , لتمتد تلك الصراعات إلى عالمنا بأسره , فتنذر بعودة جديدة لصراع الحضارات والأمم لا على تقدم علمي او منافسة شريفة في جانب من جوانب العلم والمعرفة والأدب , وإنما على حرب فكرية وصراع قائم على نبذ الآخر , وعدم احترام تعدد الأفكار والآراء و الطوائف , لتتطور تلك الصراعات إلى أبعاد هي اشد خطورة على البشرية من موجات تسونامي , او انفجار القنابل الهيدروجينية , فهذه الأخيرة ربما تقتل الآلاف وربما الملايين , ولكن انفجار النفوس والأفكار على أساس طائفي وأيديولوجي تقتلع أمم قائمة من جذورها , وتحطم البشرية وتعلن ساعات انقراضها ونهايتها الحتمية 0
وبالفعل فان هذه الصورة القاتمة نراها تعود من جديد إلى عالمنا هذا , ففي أوروبا على سبيل المثال عادت إلى الواجهة صورة تلك الأفكار والإيديولوجية التحريضية والقومية , لتدق أوروبا من جديد نواقيس الخطر , ولتعلن أن الانفجار القادم إليها , والخطر المحدق بها لن يأتي من الشرق , وإنما سينبع من الداخل , حيث أن الصراعات التي ستنهش الجسد الأوروبي في السنوات القادمة هي الصراعات الداخلية القائمة على حرب القوميات وعودتها من جديد إلى الساحة الأوروبية , وذلك كردة فعل على الاندماج الشامل الذي تحاول دول الاتحاد الأوروبي العمل عليه , في وقت يحنو فيه الكثيرون من سكان تلك الدول إلى عودة جذورهم التاريخية والقومية كردة فعل على الاختلاط والدمج القائم على اتحاد الدول الأوروبية تلك , وبالفعل ففي أوروبا هناك ظهور مخيف لتلك القوميات والشوفينيات التي تهدد العالم والإنسانية بمخاطرة كثيرة كما يشير إلى ذلك الأستاذ والكاتب الألماني الكبير ماغنوس انسنسبرغر , حيث يقول :"...وأعتقد أن بروز مثل هذه الظواهر من جديد يمثل خطرا كبيرا على الحرية وعلى القيم الإنسانية وعلى السلام العالمي بطبيعة الحال".
وكذلك الحال في الولايات المتحدة الاميركية والتي بدأ يظهر فيها ذلك المرض العضال , من خلال التناقض الفكري بين ما يتصوره الشعب الاميركي من أن حضارتهم قائمة على الانفتاح والتعددية وتقبل الآخر كفكر قومي , وغيرها من الصور الحضارية , في وقت نجد الصورة التالية لذلك التناقض تكمن في (( وجه شديد السلبية مليء بالمخاوف وبمشاعر القلق تجاه الآخر, والناتجة عن الخبرة التاريخية السلبية لبعض الجماعات الكبرى المكونة للشعب الأميركي ,... وهي المواطنين الأميركيين البيض من الأصول الأنجلو- ساكسونية ، وسكان الجنوب الأميركي البيض ، والجماعات البروتستانتينية الأصولية ، وخبرة بعض الأقليات والجماعات الإثنية وعلى رأسها اللوبي الموالي لإسرائيل ) , وكذلك انتشار تلك القوميات في دول أخرى كأميركا الجنوبية وغيرها العديد من دول العالم.
وختاما لنشير كذلك - وللأسف - إلى عودة هذه النعرات القومية والأفكار الإيديولوجية العقيمة إلى عالمنا العربي من جديد , لتعيد إلى الأذهان رعب الصراعات الطائفية في فترات مظلمة من تاريخ هذه المنطقة العربية التي ذاقت الويلات من جراء هذا النوع من الصراعات العقيمة , وكل الخوف هو في أن تتسبب تلك الصراعات في اتساع هوة الانقسامات بين أبناء الوطن الواحد , مما يهدد هذه الدول بحروب أهلية لن تنتهي سوى بفناء الأرواح ودمار الممتلكات والثروات , ونهاية لن تحمد عواقبها على الجميع , ففتيل هذه الصراعات لا يمكن أن ينطفئ بسهولة وخصوصا في ظل وجود العديد من المرتزقة والغوغاء والمنتفعين من بقاء الفتنة في كل أرجاء وطننا العربي ,لذلك لزم علينا أن ننتبه في كل مكان في هذه المنطقة الغالية , في العراق وفلسطين ولبنان وسوريا والسودان والصومال ومختلف دول الخليج العربي ووطنا العربي بشكل عام , إلى خطورة هذا النوع من الصراعات التي حرمها الإسلام وحاربها كما سبق واشرنا , وبالتالي لابد من نبذ حروب الطوائف تلك بين أفراد الوطن , ومحاربة الفتن ما ظهر منها وما بطن , واجتثاث التفرقة والطائفية والنعرات الدينية والعرقية والعصبية من كل أجزاء بلداننا العربية , لتنعم هذه المنطقة بالاستقرار والرخاء والسلام.
محمد بن سعيد الفطيسي*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فصائل المقاومة تكثف عملياتها في قطاع غزة.. ما الدلالات العسك


.. غارة إسرائيلية تستهدف مدرسة تؤوي نازحين بمخيم النصيرات وسط ق




.. انتهاء تثبيت الرصيف العائم على شاطئ غزة


.. في موقف طريف.. بوتين يتحدث طويلاً وينسى أنّ المترجم الصينيّ




.. قتلى وجرحى في غارات إسرائيلية على مخيم جباليا