الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الديكتاتورية والبنية الإجتماعية

محمد سيد رصاص

2007 / 2 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


عندما قال الملك الفرنسي لويس الرابع عشر(1638-1715)في أواخر القرن السابع عشر عبارته الشهيرة:"أنا الدولة",فإنه كان يلخص عقوداً طويلة من الزمن استطاعت من خلالها سلطة الدولة الفرنسية,عبر عهدي الوزيرين ريشيليو(1624-42)ومازاران(1642-61),أن تكون في حالة عوم فوق الطبقات الاجتماعية وأن تعيش حالة من الاستقلالية عنها,أثناء لحظة تاريخية لم تعد فيها الأرستقراطية قادرة على الاستمرار في الحالة القديمة ولم تستطع فيها البرجوازية الجديدة أن تتبلور بعد:ربما كان أكبر تلخيص لتلك الفترة هو حركة(الفروند) التي ثارت,عبر مكوناتها الضامة لتركيبة واسعة من النبلاء والبرجوازيين والفلاحين والمثقفين المدينيين,ضد الحكم المطلق في ثورات فاشلة بين عامي1648و1653,فيما أعطى قرار الملك الفرنسي في عام1685بإلغاء (مرسوم نانت)|1598-المنظِم للتعايش بين الكاثوليك والبروتستانت الفرنسيين,وماأدى إليه ذلك من طرد غالبية البروتستانت الفرنسيين(الهوغنوت)إلى سويسرا وانكلترا- صورة عن مدى قدرة السلطة على إعادة صياغة التركيبة الاجتماعية,بعد ترحيل فئات كانت تشكل عماد البرجوازية الفرنسية الصاعدة,والتي ساهمت بعد ذلك في ازدهار صناعة النسيج في مانشستر وفي ازدهار البنوك في جنيف.
كان ذلك متزامناً مع اضطراب انكليزي عام بدأه البرلمان بثورته ضد الملك في عام1642 حتى انتهى إلى تنظيم شكل الحكم الملكي دستورياً في عام1689:سبق ذلك شكل من الحكم المطلق وضع أسسه الملك هنري الثامن عبر تأميم ممتلكات الأديرة والكنيسة المتحالفة مع الأرستقراطية في عام1534,وعبر أخذه لمنحى تأسيس استقلالية دينية ومؤسسية عن كنيسة روما ترافقت مع بروز نزعة قومية وطموح للسيطرة على البحار والقارة الأميركية الجديدة,أخذ شكله ومداه بعد هزيمة الانكليز للإسبان في معركة الأرمادا في عام1588.هنا,كان تبلور البرجوازية الانكليزية في المدن(والذي ساهم فيه كثيراً سيطرة لندن على التجارة الدولية) وفي الريف من خلال نموذج المزارع الغني,عاملاً أساسياً في نشوء صراع البرلمان ضد القصر الملكي حتى اعدام الملك عام1649,فيما أدى التوازن القلق الذي أعقب ذلك إلى تسليم البرلمان لصلاحياته إلى فرد أصبح عبر ذلك ديكتاتوراً في عام1653,هو أوليفر كرومويل.
قام الحكم المطلق في الحالتين الانكليزية والفرنسية(=هنري الثامن- لويس الرابع عشر)على تحجيم نفوذ الأرستقراطية,وقد أتت قوة الملك من قدرته على سد فراغ القوة الناتج عن ديناميات عملية انحسار قوة طبقة وعن عدم بزوغ طبقة كانت مازالت في الحالة الجنينية,فيماكانت ديكتاتورية كرومويل ناتجة عن حالة توازن قوة حاولت الطبقة المستولية على السلطة حسمه عبر تسليم مقدراتها إلى ديكتاتور فرد,وهو ماحصلت حالة شبيهة له مع نابليون بونابرت عبر انقلابه في(9تشرين الثاني1799) الذي نصَب نفسه من خلاله ديكتاتوراً(قنصل أول),لما وصلت صراعات البرجوازية والأرستقراطية إلى حالة توازن انسدادي بعد عشر سنوات من ثورة1789,ماتزامن منذ صيف1799 مع حالة لم يعد فيها الفرنسيون"يمارسون السياسة,وأصبحت الشؤون العامة وقفاً على النخبة"(فرانسوا فوريه-ديني ريشيه:"الثورة الفرنسية"-ج2-,طبعة د مشق1993,ص316),ومع حالة اجتماعية ,ظهرت منذ انهيار حكم اليعاقبة صيف1794,من تفجر الإنحلال الجنسي عند العامة والخاصة,بينما وجد الديكتاتورالجديد تأييداً واسعاً وسط الفلاحين المشكلين لغالبية تعداد الأمة الفرنسية آنذاك,الشيء الذي تكرر,بعد نصف قرن مع ابن أخيه,أي لوي بونابرت,عبر انقلاب 2كانون الأول1851 الذي حلَ فيه بوصفه رئيساً للجمهورية الجمعية الوطنية ونصَب نفسه بعده امبراطوراً,وذلك في لحظة سياسية أتت فيها (البونابرتية),إذا أخذنا المصطلح الماركسي,كحصيلة لتوازن صفري بين الطبقات الاجتماعية لاتستطيع فيه احداها أوبعضها حسم الصراع ولاالركون للبرلمان كحالة توازنية للصراعات والتوافقات الاحتماعية,لتميل معظمها إلى تسليم المقدرات لفرد واحد ليبدو الصراع وقد "انتهى بحيث أن جميع الطبقات,وقد تساوت عجزاً وسكوناً,جثت على ركبها أمام عقب البندقية"وفقاً لتعبير كارل ماركس في كتابه"الثامن عشر من برومير".
بالمقابل, لم تأت ديكتاتورية ستالين بالقرن العشرين من ذلك,بل من ضيق القاعدة الاجتماعية للبلاشفة,والتي ظهر مدى ضعفها خلال انتخابات الجمعية التأ سيسية بعد أسابيع من ثورة أوكتوبر,عبر حصولهم فقط على168مقعداً من مجموع المقاعد البالغ696,مادفعهم لحلها وهو ماكان بداية للحرب الأهلية التي انتصروا فيها عام1920,ليجدوا أنفسهم في قمة خراب عام,دمرت فيه الصناعة والطبقة العاملة التي حملتهم للسلطة,وهاجرت فيه الأرستقراطية والبرجوازية والفئات الوسطى المدينية,فيما شكَل الفلاحون القوة الاقتصادية الكبرى في المجتمع,حيث لم تنشأ ديكتاتورية ستالين(الذي كانت صراعاته مع تروتسكي وبوخارين بالعشرينيات متمركزة حول طريقة التعامل مع الفلاحين)إلاعبر الصراع وحسمه مع الفلاحين من خلال فرض المزارع الجماعية عليهم وتهجير عشرات الملايين منهم للمدن كجيش للصناعة الناشئة بين عامي1929و1932.
كانت حالة عبد الناصر أقرب إلى الحالة البونابرتية حيث كان "التقليد التاريخي المتوارثقدولَد عند الفلاحين الفرنسيين الاعتقاد الصوفي بأن رجلاً يدعى نابليون سيعيد لهم جميع الخيرات المفقودة"وفقاً لتعبير كتاب ماركس المذكور,فيماكان وضع البعثيين العراقيين وصدام حسين أقرب لحالة البلاشفة وستالين,والذي روى السياسي الكردي محمود عثمان,أثناء مقابلة تلفزيونية,مدى اعجاب صدام به ومدى شغفه بقراءة الكتب عنه : في تموز 1968 كان البعث العراقي أضعف من القوة المنفردة لجناحي الشيوعيين المنقسمان,أي(القيادة المركزية)بزعامة عزيز الحاج,و(اللجنة المركزية)بقيادة عزيز محمد,ولم يكن يملك امتداداً اجتماعياً مؤثراً أوقوياً,ولكنه استطاع ,في ظرف انقسام خصومه وأثناء حالة عجز لسلطة متآكلة وضعيفة عند عبد الرحمن عارف,الوصول إلى الحكم عبر ضباطه ,وبمعاونة قوى مفصلية في السلطة سرعان ماتخلص منها بعد أسبوعين من انقلاب 17تموز1968.
في كل الحالات المذكورة,كانت الطبقة الوسطى(=البرجوازية)إما في حالة عدم تبلور,أوفي وضع من عدم القدرة على حسم الصراع,أوأنها كانت في حالة هزيمة وتراجع.أيضاً,أتت الديكتاتورية(أوالحكم المطلق الذي أخذ بالقرن العشرين أشكالاً شمولية )مع الحاجة لدولة حديثة تواجه الخصوم الخارجيين(لويس الرابع عشر),ومع الميل لانشاء دولة قومية ذات مطامح خارجية(هنري الثامن),ومع ميول نحو التحديث(ستالين-عبدالناصر- صدام حسين) ولوعبر وسائل قسرية تعيد من خلالها آلة السلطة صياغة البنى الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية,فيماجمع نابليون بونابرت بين تحديث فرنسة وبين النزوع نحو انشاء امبراطورية عالمية تنافس وتحاول تقويض تلك البريطانية التي لم تأخذ مكانة الدولة الأعظم إلابعد هزيمة الفرنسيين في حرب السنوات السبع(1756-1763).
كان نضوج البرجوازية الانكليزية مؤدياً إلى أن لاتكون ديكتاتورية كرومويل متجاوزة لحدود الخمس سنوات وإلى الوصول إلى تسوية1689,فيماكان الطريق الفرنسي أكثر ايلاماً ليستغرق طوال القرن التاسع عشر حتى استقرت وترسخت الديموقراطية الفرنسية في العقد الأخير من القرن المذكور مع السيطرة الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية للبرجوازية,بينما نجد أن القاعدة الاجتماعية لعملية التغيير في ديكتاتوريات الكتلة السوفياتية(والتي جاءت مع ظرف توازن دولي مختل لصالح المعسكر الغربي)قد استندت إلى بنية اجتماعية(أنشأها واستحدثها التحديث الستاليني)وجدت غالبية فئاتها مصلحة في تجاوز البنية الاقتصادية القائمة(=رأسمالية الدولة)والبنية السلطوية(=الحزب الواحد)إلى (اقتصاد السوق)و(الديموقراطية).
كيف سيكون الطريق إلى ذلك في العالم العربي؟.......... )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كير ستارمر -الرجل الممل- الذي سيقود بريطانيا


.. تحليق صيادي الأعاصير داخل عين إعصار بيريل الخطير




.. ما أهمية الانتخابات الرئاسية في إيران لخلافة رئيسي؟


.. قصف إسرائيلي يستهدف مواقع لحزب الله جنوبي لبنان | #رادار




.. سلاح -التبرعات- يهدد مسيرة بايدن في السباق الرئاسي! #منصات