الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإمام المسلح

حمزة الحسن

2003 / 8 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


 

 

 هاربا من الحرب،
 قادما إلى السجن،
 ذاهبا إلى المنفى الثلجي،
كنت أتلمس، طريقي، في أعماق الليل.

في السجون الإيرانية التي يقال لها بيوت الضيوف وهي مأوى للفارين من الحرب، كنت أقيم في المكتبة التي وجدتها في السجن الاهوازي في سرداب يعود إلى مسؤول هارب من النظام السابق قد يكون من رجال السافاك أي البوليس السري، ولا يخلو الأمر من مفارقة حين أكون أنا الروائي الهارب من الحرب( حرب الخليج الأولى) مقيما في منزل لرجل تعذيب هارب هو الآخر  نحو منافي بعيدة.

 الأمر يشبه واحدة من حكايات الكاتب بورخيس، حيث الزمن يدور، والمشاهد تتكرر، والوجوه تمحي، ثم تظهر، ويكتشف الميت قبل موته بلحظات أن الشخص الذي يقرأ على وجهه الفاتحة يشبه وجهه هو، فيصاب بالذهول ولا يعرف من هو المشرف على الموت، وفي غمرة الذهول ينقطع الخيط، ويغرق أحدهم في العتمة.

وفي هذا السرداب، المكتبة، عثرت على الوجه الآخر للتاريخ المخفي، والملغي، والمحذوف، والمنسي، والذي يراد طمسه بالقوة والسجن والموت والنفي والحرق والتشويه.

إن السجن في مكتبة بالنسبة لروائي هو نوع من الولادة الجبرية للمخيلة، خاصة إذا كان هذا الروائي قادما من ساحة حرب لا مجال فيها لحظة واحدة للتفكير أو التأمل.

وأتذكر اليوم الأول في هذا السجن حيث تعرفت لأول مرة على الهواء الصافي والزرقة العميقة والشفافة للسماء، والهدوء المثير لأزهار حديقة هذا السجن الأجمل من حرية الأمس في ساحة موت، وفي السجن بدأت أتعرف على عناصر الطبيعة لأول مرة ايضا وأشاهد تفتح الأزهار قرب الحيطان أمامي ، ولا يقطع الهدوء فيه غير صخب العصافير المشاكسة، الأمر الذي نسيناه كل تلك السنوات القاسية، سنوات الجمر.

لكن أكثر ما أثارني، إثارة عميقة، هو تاريخ التمرد الشيعي، والسجن، والنقاء الصوفي، بمعنى صفاء القلب، ونزعة الموت من أجل قضية عادلة، وترقب القتل على أنه جزء من طقوس حفل تتويج الإمام.

كنت أبحث في المكتبة ليل نهار كما كان بورخيس يبحث في مكتبة بوينس آيريس، عن تاريخ الحضارات، وعن مجلدات الف ليلة وليلة، ومنطق الطير لفريد الدين العطار الذي سيستخدمه في حكاياته الخالدة.

لم تظل تلك المكتبة الفريدة، وكل كتاب فيها عبارة عن متاهة جديدة، على صورتها الأصلية، بل أخذت تتغير كل يوم، في الأقل بالنسبة لي: فكل كتاب اسحبه من المكتبة هو حشد من الشهداء والمشنوقين، والمنفيين، والمقتولين بالسم أو العنب أو العسل، وحكاية" جنود العسل" ستتكرر في كل زمان وحتى زماننا هذا زمن الثاليوم!

وكنت بحاجة إلى من ينظم لي هذا القتل العلني، وهذا الجرح المفتوح، النازف، فكانت كتب المفكر المرحوم مطهري الذي قتل علنا في الشارع بعد الثورة حين ناداه شخص من بعيد باسمه، وحين استدار  انهالت عليه ذخيرة الموت، تحت القمر، مثل الشاعر الاسباني لوركا، ليتحول من بعد، مثل كل هذه الأشياء في هذه المكتبة العجيبة، إلى كاتب وقتيل وجثة في رف من هذه الرفوف في سرداب التاريخ.

وهذه ليست المرة الأولى أجد كتبا في سرداب، بل بعد الخروج من هذا السجن، حين صرت طليقا في طهران، وجدت نفسي يوما في سرداب آخر، هو طابق سكني لمجموعة من الأصدقاء، ومن الفارين، في عمارة في شارع " ولي عصر" الكبير، أكبر شارع في إيران، والمضاء بملايين الأضواء، ولا تنقصه غير الموسيقى الممنوعة، وفي هذا السرداب رأيت لأول مرة السيد عز الدين سليم أبو ياسين( عضو مجلس الحكم الانتقالي اليوم!) زعيم حركة الدعوة الإسلامية.

 ذاك السرداب عاش في مخيلتي سنوات طويلة حتى كتبت عنه في روايتي( الأعزل) فصلا مختصرا، لأن الظروف غير مهيأة وقتها للحديث عنه بصورة أوسع خاصة وأن رجال السرداب كانوا من أصحاب المهمات الخطرة، وتقتضي الأمانة، حتى وأنا على حافة القطب الشمالي، تجنب وصف المكان، أو الأسماء الحقيقية، أو طبيعة العمل في الداخل، أو نوع الحياة، أو الأشواق الإنسانية الحارة من رغبات ومشاعر، وكل ذلك أفقدني قدرة الكتابة بلغة روائية عارية، ورسم الشخوص كمخلوقات تعشق وتتألم وتشتاق وتموت أيضا في سبيل قضايا كبرى تستحق الموت، وآمل أن أعود إلى كتابة ذلك التاريخ على نحو أفضل.

لكن مكتبة السجن كانت أكبر، وكان يمكن التجول فيها عبر التاريخ، والمعارك، وقراءة الوجه الآخر للتاريخ المنسي، والمحرف، والمطمور، والمشوه، والمسكوت عنه.

 الفارق بين سرداب السجن وسرداب  شارع ولي عصر  هو في كون الأول يتضمن كتبا عن تاريخ مضى، والسرداب الثاني يتضمن رجالا يصنعون التاريخ اليوم.

كنت أستطيع في مكتبة السجن شم رائحة عطر، عبر الصمت وغبار الكتب، تلك العمائم الباسلة وهي تخوض، على الخيل، وفي والليل، وفي الرمل، والخطر، معارك التاريخ الكبرى بدون كاميرات ولا أضواء، حتى وقعت في حب هذا السجن المحرر !

من خلال كتب المرحوم مطهري تعرفت على الوجه الآخر للإمام المهدي المنتظر، القادم، والمختفي، حيث كان هذا المفكر يتحدث عن الظهور والعودة بلغة لم أجدها في مكان آخر.

صحيح أن فكرة انتظار المخلص والمنقذ هي فكرة قديمة جاءت في الكتب السماوية وغير السماوية( كل شعوب العالم في حالة انتظار) بل أن فكرة الانتظار موجودة في التقليد اليهودي، والمسيحي، والسومري، والصابئي، والبوذي، وفي حكايات قراصنة الفيكنغ  الاسكندنافيين، لكن الانتظار الشيعي مشروط بعودة الحرية عن طريق الإمام المسلح.

يسمي مطهري هذا الانتظار بـ ( الانتظار الإيجابي) أي الانتظار القائم على فكرة العمل والحركة والتغيير وعلى الأمل الإنساني المشع نقيض الياس والقنوط والقعود.

إن شرط ( ظهور) الإمام المسلح هو إعداد الأرض، أرض المعركة، معركة الحرية، وهذا جوهر فكرة تروتسكي ( النبي الأعزل) عن الثورة الدائمة، أي بلغة أهل السياسة اليوم، توفر الشروط الموضوعية.

لكن تروتسكي قتل  على يد الرفاق الذين أسسوا  مستشفيات أو( سجون نفسية) وهو تعبير دارج في الإتحاد السوفيتي سابقا، والسجون النفسية، أو ( مرضى رغم أنوفهم!) وهو عنوان كتاب مخيف للعالم النفسي أناتولي كوياجين كان طبيبا في تلك السجون النفسية، هي مصحات إجبارية للمنشقين، يتم وضعهم تحت العلاج القسري، وبالاتفاق مع الأطباء، على أن يشعر المنشق، وهو عادة كاتب أو شاعر أو روائي أو رسام أو مثقف، بأنه مريض بالفعل، ولا يوجد أتفاق مع الأطباء عنه، ويتم التشهير به على هذا الأساس في كل مكان، وقد تم تحطيم حياة مئات الكتاب والمثقفين بهذه الطريقة القذرة، أي طريقة التشهير بالمخالفين على أنهم( مرضى ومعقدين !) وهي ذات الطريقة التي سيستخدمها بعد ذلك أيتام ستالين في العالم الثالث في مطاردة المنشقين، أو المخالفين، أو المحتجين على سلوك أو نهج أو ممارسة أو أفكار.( لمن يريد المزيد عن أساليب التسقيط الشيوعية بتهمة "المرض النفسي" عليه العودة إلى مجلة" نزوى"www.nizwa.com العدد التاسع عشر، كي يطلع على مقالة أناتولي كوياجين عن "السجون النفسية" التي صارت منهجا وعقيدة وسلوكا سياسيا شائعا في تقاليد الأحزاب الشيوعية الرسمية!).

 إن فكرة الانتظار ووعد الخلاص والأمل هي مشاعر مشتركة بين شعوب الأرض وهي تقوم على تقنية روحية ونفسية لمقاومة الياس والقنوط والموت والخوف، وتنشط هذه الفكرة على نحو ملح في ظروف القهر السياسي والإنساني البشع.  

إلى اليوم أشم رائحة تلك الكتب في ذلك السجن الجميل الذي حررني من كثير من السجون العقلية ومن أفق ضيق كان يرى في طقوس الموت والميلاد والانتظار مجرد حزن على سقوط قمر بني هاشم، مضرجا بالحرية والشجاعة  والخيانة !

روائي عراقي


 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمير الكويت يأمر بحل البرلمان وتعليق العمل بعدد من مواد الدس


.. كاميرا مراقبة توثق غارات للطيران الحربي الإسرائيلي على شمال




.. مراسلة الجزيرة: طلاب كامبريدج يضغطون على إدارة الجامعة لقطع


.. تشييع شهداء سقطوا في قصف إسرائيلي على رفح جنوبي قطاع غزة




.. مظاهرة حاشدة في مدينة نيويورك الأمريكية إحياء لذكرى النكبة