الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حفار القبور

محمد نبيل

2007 / 3 / 2
الادب والفن


كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء .الصهد يخنق ،الطيور تخترق كل الثقب كي لا يعصف بها الحر ،و وجوه العجزة اختفت عن الأنظار. وقفت على صخرة عالية تطل على مقبرة الشهداء. أنظر إلى وسط المقبرة . إنها جنازة جديدة. جماعة من الناس تحيط بقبر معزول و الكل يهتف: الله أكبر، الله أكبر... تركت عينيَّ مفتوحتين حتى أرى كيف وضعوا الجثة الملفوفة في ثوبها الأبيض تحت التراب. علامات الخشوع ترتسم على الوجوه المبللة بالعرق. نظرت على يمين الجنازة، فرمقت خيال شيخ يتبول على أحد القبور المهمشة ،وأطفال يبيعون الماء لزوار المقبرة الذين يريدون سقي أمواتهم. لحظات، ثم نشب شجار فيما بين بائعي الماء حتى بدأ غبار المقبرة يتطاير في السماء. ووسط هذا المكان الرهيب، رأيت جسدا ضخما يتمايل يمينا و شمالا، يتجه صوب الجماعة، لعله يعتقد أنها انتهت من عملية الدفن. إنه حفار القبور الملقب ب «بوفردة» . لا أخفي أن هذا الرجل يثيرني بفصاحة لسانه وتشدني عبره التي تُسكت الكثير من المنبطحين والغرباء عن أنفسهم. كلامه يعجبني ،يشبع رغباتي الدفينة ،وأتلذذ مقاطعه.

أحسست بالجوع وبدأت علامات الإرهاق تبدو على وجنتيَّ ، لكنني قررت النزول إلى حيث يدفن ذاك المسكين وإتباع خطوات «بوفردة». وبينما كان الكل مغرقا في الحزن و البكاء، كان الفقيه* حمو يسب أحد زملائه في الحرفة. اقتربت كي أفهم...وجدت أمامي الفقيه حمو يسب و ينعل اليوم الذي أتى فيه إلى المقبرة. هذا الرجل النحيل بلحيته التي اشتعلت شيبا، تقدم خطوات إلى الأمام ثم لكَمَ زميله . لا أشك أنهما يتنازعان حول من سيقع عليه الاختيار من طرف أحد زوار المقبرة حتى يقرأ القرآن على قبر قريبه. هذا القبر لا يظهر منه سوى ركام من التراب المبعثر وكأنه قبر مجهول. آه، عندما يحضر الولع بالمال، تتبخر أحاسيس الحزن و نار الفقدان و يصبح اللكم سيد المواقف. حمو يظل طيلة النهار في المقبرة ،يقرأ القرآن مقابل بعض الدريهمات ليعيل بها عائلة مكونة من عشرة أطفال .كنت أقرأ في وجه هذا الرجل حبه للموت وعشقه لرائحتها ، فاليوم الذي لا يشم فيه حمو رائحة الجنائز أو يأكل كرموس و خبر المقابر ، يقضي ليله غارقا في دموعه.

هنا و هناك، جماعات صغيرة من الفقهاء يتسابقون من أجل الوصول إلى أحد القبور المنسية. كلهم يصرخون :
ـ أنا موجود ...أنا موجود ...أنا أقرأ على المرحوم !
تسللت من بين أرجل حشود الناس، كنت خلف حفار القبور، أنصت إليه و هو يخاطب أحد مرافقي أصحاب الجنازة:
ـ يا سيدي، أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد !
أجابه الرجل بنيرة فيها الغبن و المرارة :
ـ هذا ماشي معقول، انتهاك حرمة المقابر جريمة...
ـ ومن قال لك ما قام به هذا الرجل انتهاكا لحرمة المقابر ؟
ـ يا «بوفردة» الله يهديك . لقد وطأت قدماه قبر جدتي بلا حشمة و لا حياء .
ـ ياسيدي العزيز ، العالم كله عبارة عن قبور . أنت تنام فوق القبور و تسكن فوقها بل تشم رائحتها كل ثانية دون أن تنتبه أو تحس. متى نعترف بعيوبنا ؟
ـ الآن يا «بوفردة»، تدافع عن المنكر .
نظر حفار القبور في وجه الرجل بتأمل ...ثم نطق :
ـ اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ...!

وبسرعة حول «بوفردة» اتجاهه . تقدم إلى الجماعة التي أوشكت على نهاية الدفن ، ثم بدأ يصرخ :
ـ يا عباد الله، تفرقوا، رحمكم الله، الله يرحم من زار و خفَّف !

تابعت سير الجموع البشرية التي بدأت تستجيب لدعوات حفار القبور . صدى صخب يأتيني من بعيد. حمو يقرأ الفاتحة. كان يتلعثم و مخارج الحروف ملفوفة في فمه بلكنة غريبة. كان مسرعا و متلهفا حتى ينتهي و يلتحق بقبر آخر . الأمر مرتبط بكَم من قبر سيقرأ بجانبه القرآن . اتجه حمو صوب أحد رفاقه وقال له:
ـ هاذ النهار ما فيه بركة ...لم يدفنوا سوى هذا المسكين .
نطق زميله ، الفقيه البيوضي ، رجل طاعن في السن ، جلبابه المقطع مبلل بالماء و فيه الكثير من بقع الزيت :
ـ هاذ الجنازة ميتة من دُخلتها ...!
حمو غاضب ويريد تفجير غضبه بأي طريقة. غيَّر سياق الحديث ومعنى الكلمات ثم قال:
ـ هاذ «بوفردة» ، ولد الحرام ، أصبح عالِماً يقدم الدروس لعباد الله!
الفقيه البيوضي يريد هو الآخر أن يشارك حمو غضبه :
ـ «بوفردة» نسى أيام كان يأكل الجيفة والدجاج الميت ويشرب الخمر ليلا وهو جالس على قبور الشهداء .

آه، لا أدري كيف سقطت على الأرض و أغمي علي من شدة الضحك، والسبب هو مجرد حماقة تهاجمني بين الفينة و الأخرى. لقد تخيَّلت كيف يشرب «بوفردة» الخمرة في كأس نحاسي أهداه له صديقه المعروف ب «كَرَاب» * جهنم.

بدأت أعتقد أن كلام البيوضي حقيقة . ومن يدري ،فالكثير يعرفون «بوفردة» بالسكِّير الذي أقسم أن يدفن كل أهل البلدة قبل أن يموت ،وكأنه يمسك روحه بيده ويتحكم في حركتها ...

أحد زملاء حمو أجاب البيوضي بسخرية عندما لا حظ أنه أسترسل في سبه ل«بوفردة» :
ـ يا سيدي، قل لي أنت مالك و مال حفار القبور... هو قرر أن يُسكر الموتى و يسقيهم خمرا.
سقطت ثانية على أحد القبور. كنت أضحك وكأنني لأول مرة أكتشف معنى الفرحة!

بدأت جموع الناس و الفقهاء و كل بائعي الماء و العجزة و المتسولين يغادرون المكان. حفار القبور دخل كوخه الذي يتوسط المقبرة. اعتقدت أنه سيتناول كأسا من الخمر أو يأكل دجاجة ميتة ،لكنه خرج أمام بويب الكوخ ثم بدأ يشرب الماء من قربته المتسخة . كان واقفا، بطنه المنتفخة عارية و الكل ينظر إليه من المغادرين. يا له من مشهد عجيب عندما ينظر الإنسان صامتا دون أن يتلفظ بكلمة واحدة !

تظاهر حفار القبور بالتعب . جلس بجانب صديقه الذي يساعده في حفر القبور . صديقه هذا، لا يفارقه طيلة النهار حتى ظنًّ الناس أنه لوطي. نطق «بوفردة» :
ـ الجهل قضى على نفوس عباد الله. إنهم يعيشون الوهم و لا يعرفون أن من أتت به الأقدار إلى هذا المكان و رميته تحت التراب، فقد انتهى عمله.
رد عليه صديقه :
ـ البكاء وراء الميت خسارة .
ـ الخسارة هو أن يعيش الأغبياء دون أن يكتشفوا كيف تنتصر الموت على الأحياء و تنقض على ضعاف النفوس. إنهم يخافون من غمة القبور . أنا ، رائحة الموت تلبسني و ترافق خطواتي حتى أدخل إلى داري و أنام مع أولادي...
ـ الموت لا ترتبط لا بالكبير و لا بالصغير. إنها ريح خريفية تهب فتسقط أوراقها من فوق أشجار الحياة.
ـ يا سيدي ، أنا عاشق لرائحة الموت و التراب و الخمرة الراقية .
ـ الله يهديك يا «بوفردة»!
، وحتى يهديك الله أنت الأول...تأكل ما أعدُّه لكَ وتشرب شرابي وتقدم لي الآن الدروس. هذا الكلام أتركه للأغبياء الذين لا يبكون إلا عندما يرحل الراحلون !
ـ بوفردة ، انك عزيز علي َّ و مكانتك لا يعلم بها إلا الله !
ـ وإذا كنت عزيزا عليك كما تقول، فما عليك إلا أن تأتيني بالمسائل !
ـ أية مسائل ؟
ـ شوف لينا شي بركة ...بركتنا نحن الاثنين . لقد بدأت شمس المغيب ترحل من هذه البلدة المنحوسة .

ساد الظلام في كل أرجاء المقبرة. قررت أن أظل في مكاني، وراء كوخ حفار القبور. الخوف يتملكني . يقولون إن المقبرة من أكثر الأماكن أمانا . ربما هذه مجرد أفكار وهمية تتزاحم في رؤوس الناس! . وكيف أفعل ؟ قاومت نزعات الخوف في نفسي و حاولت طرد اللعنة. بقيت في نفس المكان، أدخلت رأسي فيما بين ساقيَّ وبدأت ألتقط ما يقوله «بوفردة» من عبر . حفار القبور يحب أن يكون أول من يشرب من القارورة. وبعد تناوله للكأس الأول، تفوه بكلماته الأولى:
ـ وداوني بالتي كانت هي الداء !
ـ آه، بدأت يا صاحبي ...
ـ أنظر، قدماي تورمتا من كثرة الحفر و الجري وراء ولاد القحاب طيلة النهار .
ـ استبعد هذه الأشياء عن ذهنك و ردِّد مع محمد عبدالوهاب : « إنس الدنيا و ريح بالك ... »
ـ كيف أنسى و سيف الذاكرة ينزل على رأسي كل ثانية. هذا عالم لا يساعدك على نسيان الألم بل يزيدك غما على غم !
ـ لقد تعبت اليوم بلا فائدة . حفرت القبر بطريقة جيدة ،لكن هذا المسخوط الذي دفناه اليوم ،كان بدينا فأعاق عملية الدفن.
ـ أقول لك دائما، وسع القبور و حتى إن كانت أكبر من الأبدان، فليس هناك من مشكل. أجساد بشرية مآلها التراب كيفما كانت أحجامها وهي تستحق ذلك.
ـ يا «بوفردة» ،لماذا طردت الهلع من نفسك منذ أن بدأت هذه الحرفة؟
ـ الله ينعلها حرفة . هذا الشهر لم ندفن فيه سوى ثمانية رجال و خمس نساء و طفلين .
ـ هل تريد أن يموت كل العالم !
ـ كلما كان العدد أكبر، حضرت البركة . الحمد لله على هذه الضرورة الربانية. لو كان العرب يقررون في لحظة موتهم لهجرت حرفتي منذ سنوات و أصبحت عاطلا عن العمل.
ـ الكل سيرحل لكن قبل موت «بوفردة» !
ـ أنا واحد من عباد الله، فقط أحس أن الموت تخاف مني و كأنني أطاردها. كلما وضعت ميتا تحت التراب ،يزداد خوفها مني فتبتعد عني.
ـ قل لي ، لماذا في رأيك ، لا يعجبني الزحام ، وكثرة الكلام مع بني البشر . أحفر القبر قبل مجيء الجنازة بساعات و أنصرف لأتركهم يدبرون محنتهم و دموعهم.
ـ اعتقد إن بقيت على الحال، سأحفر لك قبرك قريبا. دعك من الهروب. واجه نفسك و تعرف على ذاتك و اكتشف غيرك بالرغم من أنهم ولاد الحرام.
ـ عندك الحق يا «بوفردة». !
ـ وما نتيجة أنني على حق. الصواب يملأ مزبلة التاريخ . هذا عالم فيه الظلم و القوادة و الخطأ هو السائد ...راهم ولاد ...لكنهم كلهم في النهاية سيرقدون تحت التراب.
ـ كلامك مفعم برائحة الموت ...
ـ ليست رائحة الموت، إنها رائحة الحقيقة!

بدأت أحس أن صديق «بوفردة». يتلعثم في كلامه و كأنه شرب كثيرا . أسمع فقط صدى كلام حفار القبور. لا أنكر أنني لم أطرد الخوف من نفسي نهائيا. تمنيت لو غادر «بوفردة» المكان لتمكنت من مغادرة المقبرة دون أن يحس بي. حفار القبور يغني أغنية «يوم بلا غد » ، بعدها نادى صديقه الذي غرق في شخيره :
ـ ويا هذا الرجل...لقد رحلت إلى جنات الخلد...انهض حتى أحكي لك عن رغبتي الجديدة في الترشح للانتخابات المقبلة ...انهض أنا في حاجة إلى صوتك الانتخابي...أريدك أن تساعدني حتى أدافع عن حقوق المقهورين وعلى رأسهم حفاري القبور...انهض يا صاحبي، انهض يا صاحبي!

قطع حفار القبور الأمل في إيقاظ صديقه. و ما أن دخل «بوفردة» إلى كوخه حتى كنت خارج المقبرة . استبقت خطواتي . دخلت البيت متأخرا . أرعبني أبي وهو يسألني :
ـ أين كنت يا الشيطان؟ سألنا عنك كل الجيران ...
أجبته بدون أن أفكر...
ـ كنت أشاهد فيلما مع صديقي .

• شخص يقرأ القرآن في المقابر المغربية مقابل مبلغ من المال.
• السقَّاء








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس