الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طالب متفوق يتألق شهيدا

نجاح يوسف

2003 / 8 / 5
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


   


ما ذا لو أخطأت مرة عدسات الفضائيات العربية وتجولت في أحياء بغداد الفقيرة , والتي عانت من الإهمال المتعمد والقتل المتعمد والنزيف اليومي المتعمد في عهد الطاغية المقبور!! هل كانت سترتجف يد المصور ويتهدج صوت المراسل وهو يصور عتبة دار الشاب الشهيد البطل (كريم)* عندما ترك جسده الطاهر وهو في آخر رمق ملفوفا بقماش خشن , بعد أن عذب حتى الموت في إحدى زنازين النظام الفاشي ..!! هل يا ترى كان سيبكي هذا المراسل على بكاء وعويل أفراد عائلة هذا الشاب وهم يضمون ولدهم ويقبلوه قبلة الوداع وهو ما زال في سن السادسة عشر؟! لقد تركه القتلة أمام عتبة الدار, ثم قرعوا الباب وولوا هاربين!! وأستذكر هنا قول الشاعر العراقي حيدر الكعبي في إحدى قصائده:

مٌقبض السيف مدانْ
لا لأن القتل محظورُ
ولكن الذي يمسك بالسيف جبانْ 

لم يكن كريم طالبا متفوقا وموهوبا فحسب, لقد كان شابا في منتهى الأدب والذكاء,  يحترم مدرسيه,  ويحب زملاءه , كما كان يفرض احترامه على الجميع من خلال شخصيته القوية,  واتزان سلوكه وروحه المرحة .. لفت انتباهي إليه لأول مرة عندما فاجئني وهو في الصف الرابع العام, وفي درس اللغة الإنكليزية التي كنت أحد أساتذتها في ثانوية 7 نيسان المسائية في مدينة الثورة, وهو ينطق الكلمات بوضوح ودقة, والتي كانت والحق يقال ,حالة نادرة وغريبة جدا على طلاب مدرسة مسائية وفي مدينة الفقراء , مدينة الثورة!!  سألته حينها , ومن هنا بدأت هذه العلاقة الوثيقة والمتينة بهذا الطالب الشاب الغيور, " كيف استطعت توظيف وقتك ما بين عملك المضني في الصباح والقيام بواجباتك المدرسية المتعددة في المساء وبهذا الشكل الممتاز؟" أجاب على الفور: " أستاذ اللي يريد يتعلم ويستفاد من العلم يكدر يسوي المعجزات!!" .. تمنيت له التوفيق والنجاح في مسعاه, طارحا عليه خدماتي إن احتاج إليها.. كان هذا في بداية العام الدراسي 1977-1978..
 
 مر شهران على الدوام المدرسي, وبدأت الامتحانات تنهال كالصواعق على رؤوس الطلبة , والذين كان أغلبهم عمالا أو منتسبي الجيش والشرطة , فشل الكثيرون , كما نجح آخرون وبنسب معينة , إلا أن كريم تفوق في جميع الدروس على أقرانه في الصف, وكثيرا ما كنت أراقبه وهو يبذل قصارى جهده لمساعدة زملائه الذين يحومون حوله طالبين مشورته .. كنت اعتبره ساعدي الأيمن في الصف, ولم يخيب ظني أبدا..

وقد كان للأساتذة الآخرين الرأي نفسه حول هذا الطالب المتميز, وكنا دائم الحديث عنه في غرفة المدرسين, ونشيد بإمكانياته وذكائه وقدرته على الاستيعاب , إلى جانب حبه لمساعدة الآخرين ..
وفي أحد الأيام , طلبني مدير المدرسة , وعندما دخلت الغرفة رأيته متجهما , وطلب مني بعصبية  توضيحا على اهتمامي (الزائد) بهذا الطالب المثابر..لم أكن مستعدا في تلك اللحظة قبول هذا السلوك المخابراتي من المدير, فأجبته بهدوء غير معهود مني, "إن من واجب إدارة المدرسة ومديريات التربية أن تهتم بالمتفوقين من طلابها, وتطوير قابلياتهم ورعايتهم , لا أن تحاسب من يقوم بهذا الواجب نيابة عنها!! ثم من قال لك بأني لا أهتم بالطلبة الآخرين؟" استشاط غضبا وصاح بي بأن هذا الطالب رفض الانضمام لاتحاد الطلاب الحكومي , وبأنه شوهد ومعه بعض الكتب والصحف الممنوعة!! وهناك أدلة ضده بأنه شيوعي!!  وانتم المدرسون باهتمامكم به , تشجعون هذه الظواهر(السلبية) , كما تشجع الطلبة الآخرين على التمرد.. كادت المناقشة أن تتطور, لولا دخول بعض الأساتذة إلى الغرفة , وانصرفت بعدها دون الرجوع إليه ثانية ..

بذلت جهدا استثنائيا للاتصال بكريم لتزويده بالمعلومات التي حصلت عليها من المدير, والطلب إليه أخذ الحيطة والحذر من جلاوزة النظام , كما حذرته من مغبة جلب الصحف والمجلات (الممنوعة) معه إلى المدرسة إلى جانب التحذيرات الأخرى !! وعند لقائي به, أخبرني بأن جلاوزة الاتحاد الوطني لطلبة العراق السلطوي في المدرسة استجوبوه في مقرهم وبأساليبهم المعروفة وطلبوا منه الانضمام إلى اتحادهم, ولكنه رفض,  بعدها هددوه باتخاذ أشد الإجراءات ضده ومن ضمنها طرده من المدرسة , وللعلم فأن (الطرد والفصل هي من صلاحيات إدارة المدرسة) !!
انقضت العطلة الربيعية , وبدأ الدوام في المدرسة وأعلنت النتائج , وكان كريم كالعادة الأول على صفه وفي جميع الدروس , كما كان هناك عدد غير قليل من المتفوقين في صفه إلى جانب الفاشلين .. ولا بد من الإشارة بأن معظم الطلبة الفاشلين هم من حثالة البعث واتحاد طلبتهم الممسوخ !!

كانت الأيام تسير ببطء , والعلاقة بين المدرسين والطاقم الإداري بدأ يشوبها الحذر والشك, جراء الحملة التي شنتها السلطة على الجهاز التعليمي بغية تبعيثه , أو (تنظيفه) من العناصر الغير بعثية.. وبالوقت نفسه استشرس منتسبو اتحاد الطلبة الحكومي المسخ وبدءوا بالضغط ومضايقة الطلبة وخاصة هؤلاء الذين تحوم حولهم الشكوك والشبهات وحتى الأحقاد!! ازداد قلقنا نحن المدرسين من التحركات المكشوفة لعناصر البعث في المدرسة , والكل يهيئ نفسه للقادم المجهول!!

وفي منتصف شهر نيسان , دخلت الصف في الحصة الثالثة ولم أجد كريم جالسا في الصف الأمامي  كعادته.. سألت الطلبة أين كريم , لم يجبني أحد, ثم أعدت السؤال , فأجابني مسؤول الاتحاد الوطني في الصف, وهو شاب أسمر طويل وضخم يجلس دائما في المقعد الخلفي.. "أستاذ, يمكن مريض "!! وقهقه بخبث وجلس.. ولكني كنت أقرأ في وجوه زملائه إجابات غامضة ومبهمة, لا تخل من خوف ورهبة .. وبعد انتهاء الحصة , تقدم إلي زميل لكريم وبحجة الاستفسار حول موضوع ما , همس في أذني: أن كريم قد تم اعتقاله قبل دخوله المدرسة وزج في سيارة (بيجو) فرنسية ولا يعرف شيئا عنه!! فرجوته تبليغ أهله في الحال..

وبعد يومين فقط عرفنا الحكاية , وعرفنا بأن هذا البطل , والذي استشهد وهو لم يكن شيوعيا منظما لسبب بسيط جدا هو صغر سنه.. لكنه كان إنسانا مثقفا, يميز بسهولة بين الخطأ والصواب ..وله القدرة على المحاججة  وفي أدق المواضيع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية , وكما اخبرني أستاذ التأريخ , والذي كان هو الآخر معجبا بنباهة ووسع اطلاع وذكاء كريم, بأنه ولشدة النقاشات التي كان يثيرها الشهيد في الصف, يراجع هذا الأستاذ عدة مصادر لكي يستطيع الرد على تساؤلاته!!   
 هكذا كان حال بلادي .. الموت يلاحق الفكر والمفكرين.. وعجلة الإرهاب تسحق إنسانية الإنسان .. وتجار الشعارات يرفعوها صباحا, لكي يمزقوا أشلاء من يؤمن بها في اليوم التالي..

لقد رحل نظام القتل والإرهاب إلى غير رجعة .. ولكننا سنظل نتذكر شهدائنا,  ومنهم نستمد العزم والإصرار على مواصلة المسير.. وسنظل نقارع من يحاول كم أفواه الشعب وفرض سياسته وآرائه باستخدام القوة والعنف.. فعراق اليوم يحتاج إلى الأمن والاستقرار والعمل , والتسامح والحوار,  ودستور يسنه ويقره العراقيون,  وصناديق الاقتراع , وحكومة عراقية وطنية منتخبة , ومن ثم رحيل قوات الاحتلال من عراقنا..
 وإلى أن تزور الفضائيات العربية كردستان ومدننا الفقيرة المهملة في الوسط والجنوب, وتنقل بموضوعية ما عاناه شعبنا على أيدي الطغاة , وما يحلم ويعمل من أجله شعب العراق,  فستبقى عدساتها ملوثة  بدعاياتها وحنينها إلى نظام القمع والجريمة.. ونعدها بأننا سنبقى نطاردها بكشف حقيقتها وأهدافها المعادية لطموحات شعبنا في بناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد ..
  
* اسم الشهيد الكامل: كريم علي محسن      








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيل الشباب في ألمانيا -محبط وينزلق سياسيا نحو اليمين-| الأخب


.. الجيش الإسرائيلي يدعو سكان رفح إلى إخلائها وسط تهديد بهجوم ب




.. هل يمكن نشرُ قوات عربية أو دولية في الضفة الغربية وقطاع غزة


.. -ماكرون السبب-.. روسيا تعلق على التدريبات النووية قرب أوكران




.. خلافات الصين وأوروبا.. ابتسامات ماكرون و جين بينغ لن تحجبها