الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
أحداث الشيخان والمسؤولية التاريخية للمثقفين في المجتمع الكردستاني
صالح بوزان
2007 / 3 / 3القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
مازلت معجباً بجملة لكارل ماركس يقول فيها إذا أردت أن تعرف مدى تقدم مجتمع ما، فانظر إلى وضع المرأة فيه. وفي العصر الحديث نستطيع القول أن عدالة أي مجتمع وديناميته ترتبط بواقع الأقليات القومية والدينية والمذهبية فيه. وهذا ما يمكن استنتاجه من أحداث 15/2/2007 في قضاء الشيخان ضد الطائفة اليزيدية.
مهما قيل من كلام جميل عن كردستان العراق اليوم، فإن هذه الحادثة تدل على أن المجتمع الكردي العراقي مازال عصياً على الولوج إلى المجتمع الحديث. فما وحّد هذا المجتمع كان ظلم صدام، والآن..، وبعد أن زوال هذا الظلم بدأت البنية الشرقية المتخلفة تظهر على السطح بمظاهر مختلفة.
لاشك أن هناك معطيات تعكس التطور الملموس الذي يحدث في كردستان العراق في مرحلة ما بعد صدام. فحرية الرأي والمعتقد تطل برأسها، والحقوق الديمقراطية آخذة في التموضع الاجتماعي والسياسي نسبياً. وهناك عمل كبير يجري من أجل تعمير البنية الأساسية للإقليم، وكذلك بعض مظاهر المجتمع المدني. والتطرف الديني والمذهبي والقومي لا يظهر بشكل سافر، باستثناء المجموعة التركمانية المرتبطة بأنقرا، وهذا الحدث الأخير. بل ما يثلج الصدر أن تلتجئ فيئات من الشعب العراقي إلى كردستان كملجأ آمن هرباً من الإرهاب الطائفي المقيت في بغداد، مثلما حدث لطائفة الصابئة. وأعتقد أن حماية هؤلاء الصابئة وتقديم العون اللازم لهم سيؤدي إلى تكريس القيم الإنسانية الحديثة في المجتمع الكردستاني, وسيثريه بتنوع الثقافات التي هي القاعدة الأساسية لاغناء المجتمع.
صحيح أنه لا يوجد مجتمع خال من الخارجين عن القانون، والمجتمع الكردستاني مجتمع شرقي مازال يحتفظ بالكثير من رواسب الماضي، لكن ما جرى في قضاء الشيخان يستدعي التوقف عنده مطولاً. وبما أننا في السياسة نبحث دائماً عن الدوافع الأساسية وراء كل حدث، ومن هي الجهة المستفيدة من هكذا قلاقل، فأميل إلى استخلاص التحليل التالي:
أولاً- إذا كان ما جرى شأن داخلي يعود إلى طبيعة المجتمع الكردستاني العراقي، فإن ذلك يعني أن السلم الأهلي الراهن في هذا القسم من المجتمع العراقي شكلي، وأن النوازع الطائفية والمذهبية والعشائرية مازالت أقوى من الشعور القومي الكردي، وأن وحدتهم القومية لا تملك أسساً فكرية وسياسية حديثة، وأن الأكراد، مثلهم مثل أخوتهم العرب، مازالوا بعيدين عن مفهوم المواطنة.
ثانياً- أما إذا كانت وراء الحدث أيد من خارج المجتمع الكردستاني, فإن الهدف المباشر من هذه العملية هو إفشال الفدرالية الكردية من ناحية، ومن ناحية أخرى لسد الطريق أمام تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي وخلق أجواء غير سليمة للاستفتاء، والسعي لإرهاب الطائفة اليزيدية الكردية من أجل عدم التصويت لصالح انضمامها إلى إقليم كردستان. ونحن نسمع يومياً التهديدات التركية النارية ضد حكومة الإقليم، وامتعاض النظام السوري من الفدرالية، وكذلك مواقف بعض الأطراف العراقية الشوفينية التي تحلم بالعودة إلى السلطة لاستخدام القوة من جديد ضد الأكراد.
لاشك أن الإرهابيين الذين يتسترون وراد الديانات والمذاهب والقوميات يحملون دائماً شعارات ساخنة لها طابع الفانتازيا والدوغمائية غالباً، وهذه الشعارات تتحول لديهم إلى قيم أعلا بكثير من كل القيم الإنسانية الحية. وعلى هذا الأساس يقومون بقتل آلاف الناس بدم بارد، وارتكاب أفظع الجرائم الشنيعة، وهم يهتفون بكل هستريا لهذه الشعارات. هذا ما يحدث في بغداد. بل ما يحدث هناك هو أفظع بكثير مما ارتكبه هولاكو.
لقد عانى الشعب الكردي من مظالم لم يعانيها أي شعب في الشرق الأوسط على ما أعتقد. وكان نصيب الطائفة اليزيدية هو الأكبر من هذه المظالم دائماً، ليس لأنهم ينتمون إلى ديانة خاصة بهم فقط، بل لأنهم ومن خلال طبيعة ديانتهم حافظوا على الهوية الكردية التاريخية منذ الغزوات العربية الإسلامية. وللأسف أن أيادي بني جلدتهم من الأكراد المسلمين تلطخت بدمائهم أيضاً.
على الأكراد الاستفادة من أخوتهم العرب فيما يتعلق بالصراعات الدينية والمذهبية. لقد أدى الاضطهاد التاريخي للمسلمين العرب ضد المسيحيين العرب أن الأخيرين لم يقفوا ضد الحملات الصليبية، بل لم تقف نسبة منهم ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا. لم يكن ذلك ضعفاً في شعورهم الوطني والقومي. بل لأنهم كانوا عرضة للتمييز في وطنهم ومن بني جلدتهم، سواء تحت شعارات دينية، أو حتى قومية في زمن الوحدة السورية المصرية. مع العلم أن معظم رواد النهضة العربية والفكر القومي العربي كانوا من المسيحيين في سوريا ولبنان.
إن التاريخ أجرأ من كل الساسة والمثقفين في تقديم الأمثلة العديدة حول واقع الأقليات، سواء كانت قومية أو دينية أو مذهبية، عانت من الاضطهاد والتمييز في البلد الواحد من قبل الأكثرية. كانت هذه الأقليات لا تتوانى عندئذ الاستنجاد بالجوار وبالقوى الخارجية أحياناً في سبيل الحفاظ على ذاتها وضمان حقوقها، ولو أن نتائج هذا الاستنجاد لم تكن سليمة العواقب غالباً. الوطن قيمة عظيمة عندما يكون الإنسان فيه متساوي الحقوق والواجبات أمام قانون منصف. أما عندما يصبح الوطن هو ملك للأكثرية الدينية أو الطائفية أو القومية، فعلى الأقلية عندئذ أن تبحث عن مصيرها.
إن الشرق مليء بالأحداث التاريخية. فالصراع الطائفي والإرهاب المذهبي يجبر كل فرد للاحتماء بطائفته, ولو لم يكن مقتنعاً بالفكر الطائفي والمذهبي أصلاً. كما أن الإرهاب القومي يجعل الإنسان يتمسك بقوميته أكثر فأكثر، ولو كانت القيم الإنسانية عنده أعلى من القيم القومية.
نحن نعرف أن الشعور الديني ومن ثم الفكر الديني بشكل عام يعود إلى بدايات الوعي البشري. وقد انبثق أصلاً من الكثير من الخرافات في المجتمعات البدائية. وتعزز هذا الفكر في المجتمعات الإقطاعية, ومن ثم تحول إلى مؤسسات سياسية. وإذا كان لهذا الفكر دور تقدمي في الوعي البشري حينئذ، فإنه في الوقت نفسه جلب الكثير من المصائب والجرائم بحق البشرية، لدرجة أننا نجد تاريخ معظم الديانات ملطخة بدماء أعداد لا تحصى من البشر حين استولت على السلطة أو ارتبطت بها.
لكن الفكر التنويري الأوروبي، ومن ثم الثورات البرجوازية القومية قامت بدور كبير في أنسنة الفكر الديني، ولا سيما المسيحي، خصوصاً بعد فصل الدين عن الدولة على قاعدة العلمانية.
أما في هذا الشرق فقد تأخرنا في إقامة حركة تنويرية لبناء مجتمعات تفصل الدين عن الدولة. فما زال الفكر الإسلامي يعرقل نشوء حركات قومية علمانية حديثة. وهنا تكمن معضلة مجتمعاتنا الشرقية الراهنة، بما في ذلك المجتمع الكردي. فعلى سبيل المثال، تكمن مصيبة الأمة العربية في أن مثقفيها تخلوا عن حركة التنوير الأولى. بل نجد اليوم أن النسبة العظمى من المثقفين العرب يؤد لجون الإرهاب المذهبي والطائفي الراهن. والطامة الكبرى أن العديد من المثقفين العرب الذين كانوا يدعون العلمانية وبعض الماركسيين يستخدمون مفردات دينية ومذهبية، ويختبئون خلف الإسلام السياسي والمذهبي الراهن تحت حجة محاربة أمريكا. أنها للوثة كبرى لحقت بالفكر العربي التنويري، عندما وقف ويقف حتى الآن العديد من المثقفين العرب مع الإرهاب المذهبي في العراق, ويسمونه بالمقاومة. استطراداً أقول ليس الإرهابي الفعلي كان الزرقاوي وأمثاله من بعده، بل هؤلاء المثقفون الذين يعتبرونهم مقاومة وطنية ضد الاحتلال.
قد يقول القائل أن المجتمع الكردي لا يحتوي على بذور الفكر الإرهابي الديني والطائفي. هذا صحيح جزئياً، لكن الفقر والتخلف الاجتماعي والفكري يشكل التربة الخصبة لنمو أشكال مختلفة من الإرهاب. ولا بد الأخذ بعين الاعتبار أن التجاور مع المجتمعات العربية والإيرانية يخلق تأثيراً ملموساً على المجتمع الكردي ويشكل عاملاً قوياً لجره إلى الإرهاب الديني، إذا لم يبذل الساسة والمثقفون الكرد جهوداً جبارة وبالتعاون مع العقلانية العربية والإيرانية لقطع الطريق على هذا المرض المزمن ونسفه من جذوره الفكرية.
الملفت للانتباه أن الأساس الفكري لجميع الأحزاب الكردية لا يحوي أسساً واضحة في نشر ثقافة التنوير والديمقراطية والعلمانية. كما أن غالبية المثقفين الكرد يتجنبون الخوض في هذا المجال, ومازالوا بعيدين عن القيام بحركة تنويرية جادة بحجة الأوليات القومية، سواء في المجتمع الكردي العراقي أو السوري. لقد باتت أهمية الحركة الفكرية التنويرية أكثر إلحاحا حتى من المتطلبات القومية، وذلك لسبب بسيط وهو أن لا فرق بين ظلم الغريب وظلم القريب. فالظلم هو الظلم، ونتيجته تحطيم إنسانية الإنسان. ولا قيمة لأي فكر قومي إذا فقد الإنسان من خلاله إنسانيته.
الملاحظة الأكثر سلبية في المجتمع الكردستاني العراقي أن الانتماء الحزبي أقوى من الانتماء الفكري بين المثقفين والانتلجنسيا. واستنتاجاً من أحداث منطقة الشيخان، لم نجد سوى بعض الاحتجاجات والتضامن مع الطائفة اليزيدية، دون الغوص في جوهر المٍسألة( لقد قرأت مقالة جريئة وعلمية في الانترنيت للسيد صبحي خدر حجو: إيزيديو العراق.. في مفترق الطرق). لو كانت الشبيبة الكردستانية العراقية متسلحة بالفكر التنويري لقامت بالمظاهرات ضد هذا الحدث المشين، ليس من باب احترام معتقدات المواطنين فحسب، بل من باب أن هذا العمل هو تعدي على حقوق المواطنة في المجتمع الكردستاني وتعدي على القوانين.
بغض النظر عن موقفنا من الفكري اليزيدي. فإن هذه الديانة تعتبر جزء من التراث التاريخي للشعب الكردي. والفكر القومي الكردي الذي يشطب على هذه الحقيقة, هو فكر منقوص. فمن المعروف أن كل قومية تستمد جذورها من تراث أمتها. ولعل أحد الجذور العريقة للفكر القومي الكردي يكمن في تراث الديانة اليزيدية والزرادشتية.
لا شك أن حكومة الإقليم تصرفت بمسؤولية تجاه الحدث، كما أن رئيس الطائفة اليزيدية كان حكيماً بكل معنى الكلمة، وجرى احتواء الحدث مبكراً . لكن كل ذلك لن يمنع من حدوث هكذا أحداث، سواء مع اليزيديين أو مع غيرهم، مادام هناك أعداء جديين ضد الطموح الكردي في تعزيز الفدرالية، وما دام التخلف والفكر الرجعي ينخر المجتمع الكردستاني.
لا أعطي لنفسي حق تقديم المشورة للمسؤولين في إقليم كردستان. فهم بدون أدنى شك سياسيون مخضرمون، ولديهم تجربة تاريخية عريقة. وقد ضحوا بكل غال ونفيس من أجل حقوق شعبهم, وهم أكثر من غيرهم، بل أكثر من كافة الأكراد خارج المجتمع الكردستاني العراقي، حريصون على فدراليتهم، وعلى مستقبل شعبهم. ولكن كلامي موجه إلى المثقفين في المجتمع الكردستاني دون النظر إلى قومياتهم ودياناتهم ومذاهبهم. فهذه التجربة الوليدة تحتاج إلى حركة تنويرية شاملة، إلى قوانين عصرية تحمي كل الطوائف والقوميات في المجتمع الكردستاني العراقي. فلا بد الاستفادة من المجتمع العربي والفكر القومي العربي الذي بني على قاعدة إلغاء الأقليات القومية وتهميش حقوق الأقليات الدينية والطائفية، والسعي لبناء مجتمع أحادي الجانب بالقوة. وكانت النتيجة التمزق القومي والطائفي والمذهبي وانهيار القيم الحضارية وخراب البلاد والعباد، واحتماء الحكام وراء طوائفهم ومذاهبهم وعائلاتهم. يجب أن لا تشعر أية أقلية بالغربة في كردستان العراق، بل أن تجد في هذا الإقليم الملاذ الوحيد للعيش الكريم والاحترام الفعلي لمعتقداتها وقومياتها. وبالتالي أن يصل إلى درجة الاعتزاز لحمله مواطنية هذا الإقليم.
عندئذ فقط ستصبح كردستان العراق منارة ليس فقط لجميع الأكراد في الأجزاء الأخرى من كردستان، بل كذلك للشعب التركي والإيراني والعربي، وستكتشف هذه الشعوب عندئذ أن إعطاء الحقوق القومية للأكراد يجلب لهم الفائدة والأخوة والإنسانية، وأن الأكراد لم ولن يكونوا في يوم من الأيام حصان طروادة ضد هذه الشعوب.
صالح بوزان
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. تاريخ -هيئة تحرير الشام- من التأسيس إلى دخول حماة
.. سيطرة الفصائل المسلحة على حماة سيسهل هجومها على حمص من محاور
.. أردوغان: نأمل ألا تشهد سوريا مزيدا من عدم الاستقرار
.. أكسيوس عن مسؤولين إسرائيليين: الاستخبارات لم تتوقع الانهيار
.. انتشار المسلحين وإطلاق نار مستمر