الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الموجات الفكرية

أحمد شهاب
باحث كويتي في شؤون التنمية السياسية .

(Ahmad Shehab)

2003 / 8 / 5
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

 


نعم، ثمة اوضاع غير طبيعية في الحياة السياسية العربية، اوضاع لا تقف عند الاخطاء الطبيعية والمتوقعة في العمل السياسي الذي تمارسه الامم والشعوب على مر التاريخ، وانما تتجاوزه الى نوع جديد من الاخطاء تتصل بما يمكن تسميته بثقافة الموجات الفكرية.


وثقافة «الموجات الفكرية» هي ثقافة انقلابية لا تعرف التوازن، بل تعتمد التنقل من حالة الى نقيضها بصورة فجائية، فمرة ندخل في موجة القومية لنرفع شعار العمل القومي بما يحمله من معاني مفرطة في الخصوصية، والتحلق حول الرموز القومية، ونعلق صورهم على صدورنا كما علقت صور جمال عبد الناصر، وصدام حسين.. لنطأها بالارجل بعد فترة قصيرة ونتحول الى الموجة الاممية المتجاوزة لحدود القومية والدولة وندخل في دهاليز الصراع المرير حول الهوية والذاتية، ونستخرج كل ما لدينا من مخزون لفظي لإسقاط كل ما هو قومي باعتباره ينتقص من الاطروحة الحضارية التي كنا غائبين عنها طوال الفترة الماضية دون احساس بذنب او نقيصة، فقد صحا ضميرنا فجأة وعلى المتضرر الصمت.


ومرة ندخل في موجة التشدد الديني، ونستنفر كل آيات الجهاد والشهادة لتبرير اي عنف نرتكبه ضد الاخر، او ضد بعضنا البعض، ولاخراج الاخرين من ملة الاسلام، او لرمي البعض بتهمة الانحراف، والتقليل من شأن المختلفين فكريا او سياسيا، رافعين القرآن دستورا والوطن ساحة للصراع على تطبيق الشريعة وتجسيد المثل، لنترك كل ذلك بعد فترة ونصعد موجة اللبرلة ونستعيد كل مفردات الحداثة، والماهوية، والعصرنة التي هي بالضرورة التي نريدها تتناقض مع الاسلام، وتتطلب مرونة اكبر للتحرر من التبعية الفكرية والاخلاقية، وللتحرر من الرموز والنصوص، والغاء الفقه، وكسر ايدي وأرجل ورؤوس الفقهاء في اغرب معنى لحرية الرأي والتعددية الفكرية والليبرالية ولكن بطريقة اصولية حداثية مبتكرة، ليس لها مثيل في العالم.


هذه هي ثقافة الموجات الفكرية لا تستغرب مثلا عندما تجد حزبيا بلغ ما بلغ من العمر المديد وهو يمثل تيارا وجماعة وحزبا، يهلل في الصحف لان الاحزاب والقوى السياسية خسرت المعركة السياسية في البلد لصالح المستقلين، ولا تحزن اذا شاهدت حزبيا معتقا يعرض نفسه على الناس بوصفه مستقلا ويهاجم الحزبية، او مستقلا يعرض نفسه للناس بوصفه منتميا لجماعة، فالامر ليس اكثر من تبدل في المواقف والاراء حسبما تقتضيه المصلحة بكل ما تحمله الكلمة من ضيق في المعنى.. وطالما الموجة الآن موجة المستقلين او الحزبيين فلا مانع من رفع شعارهم حتى لو كان تاريخك لا يشفع لك مثل هذا الطرح.


وفي كل فصل من هذه الفصول لا تقل درجة الانقلاب عن الـ 180% وهو انقلاب (البهلوان) الذي يتحرك ضمن مسار فكري عربي عام فيه الكثير من الخلل، والقليل من الادراك، وهو ما نلاحظه في السلوك العام الذي يحكم علاقة العربي بأقرانه المواطنين.


اذ حتى على المستوى الشخصي يبدو التناقض غير قابل للتصديق، فقد تجد أحدهم يعتبرك صديقا وأخا طالما انت متفق معه في الرأي، وطالما انت تصدق كل ما يقوله لك، وتستمع له دائما دون كلل او ملل، اما اذا غامرت واختلفت معه في الرأي او عارضته في المشورة، او اعلنت له مللك من الاستماع لحكاياته وفتوحاته اليومية، فستفاجأ اليوم التالي انه انقلب ضدك، وجلس مع صديق اخر ليشرّحك امامه، ويعرض عليه كل عيوبك ومثالبك، وربما على ذات الطاولة والمقاعد التي كان يسامرك عليها لتعرف بعدها ان الاخوة في عالمنا ليس لها اي معنى سوى الاتفاق في الرأي، وسوى ان تكون صورة مكررة من الاخرين، وان تدخل معهم بصفقات تجارية يربحونها هم دوما، او يخسرونك وتخسرهم دون ان تذرف دمعة واحدة على ما حدث، ولتنقلب علاقات الصداقة حد العبادة الى عداوة حد الكراهية.


ولن نستطيع ان نحرك خطواتنا ونراكم تجاربنا، دون ان نترك حدة الطبع، وننبذ المزاجية في العلاقات الاجتماعية والسياسية فما يمكن تحمله على المستوى الشخصي بمضض، لا يمكن قبوله على المستوى العام، ففي المستوى الاول تكون الاثار وجدانية على الانسان فيما تكون الاثار في المستوى الثاني اجتماعية وسياسية اضعف نتائجها هو ما نعيشه الان من حالة فوضى وضياع شديدين، وما يرافق ذلك من ذل وهوان، وضياع لكل فرص التنمية الحقيقية والتراكم الباعث للمعرفة المتكاملة.


أسباب التناقض

في المجتمعات العربية يبدو الثبات على فكرة واحدة بصورة متزنة بعيدا عن التطرف امرا غاية في الصعوبة، فبصفتك عربيا مطلوب منك ان تتخذ مواقف متشنجة ومنحازة لاي جهة تنتمي لها، عليك ان تنافح عنها وعن صوابها واخطائها، وتغض الطرف عن التجاوزات التي تقع وان خالفت كل ما تؤمن وتبشر به من قيم ومثل طالما كان المخطىء جماعتك وتيارك مثل قول (دريد بن الصمة) «وما انا الا من غزية ان غوت غويت.. وان ترشد غزية ارشد».


فتيارك الذي تنتمي اليه يجب ان يكون هوالافضل والاكمل، فان كنت تنتمي الى تيار اسلامي، فتيارك هو «الاكثر نقاوة» بين التيارات الاسلامية، وان كنت تنتمي الى تيار تقدمي فتيارك هو «الاكثر حداثوية» بين التيارات التقدمية، اما التيارات المنافسة فهي بالضرورة منحرفة عن جادة الصواب، وضالة ورجعية وخائبة وهذا الانحياز غير المنطقي يؤدي في كثير من الاوقات الى انقلابات فجائية وغير متوقعة.


فالجو النرجسي الذي يعشيه الفرد العربي داخل «التيار» يزيد من فرص التململ في ظل تراكم الاخطاء من جهة وصحوة الضمير من جهة اخرى كما ان تثاقل «الجيل القديم» عن تقبل نقد «الجيل الجديد». والاستعلاء على مبدأ المحاسبة يدفع الى احد موقفين اما بقاء الافراد في الظل منقادين خلف " حراس القيم "  في ظل صراع عنيف ومستمر مع الذات او التمرد على التيار ورموزه وثقافته والانتقال الى موقف معارض وربما مناقض بالكامل.


ان تفشي حالة النقد في اي وسط لا يعبر عن حالة مرضية، بل على العكس تماما، فغياب النقد دليل انعدام الرغبة في التطور واشارة على تعثر التجربة وقلة ثقة في الرأي وفي المشروع ، فأي حالة تعتبر مرضية عندما يكون الانتقال من حالة الى حالة اخرى مناقضة لها وفي كلتا الحالتين يتخذ الفرد جانب الحدة والانحياز ورؤية اخطاء الذات حسنة، وحسنات الاخرين سيئة.


وبظني ان هذه الحدة في الطبع لا تتحمل مسؤوليتها جهة محددة اوفرد بعينه ، وانما هي حالة عامة في العالم العربي تدعو للتطرف في السلوك وفي الانحياز والرفض ، فالسلطة على اعتبار «الناس على دين ملوكهم» تطالب المواطن بالولاء التام وتغذيه على ذلك منذ المراحل العمرية الاولى من حياته الدراسية. وتعلمه كيف يضع «ترمومتر الولاء والبراء» تحت طلبها فترى أخاك المواطن ينقلب في ولاءاته بين الفينة والاخرى لا لسبب سوى انه في اتجاه البوصلة الحكومية، والا وصم بالخيانة وقلة الولاء للارض.


تطالب السلطة المواطن العربي ان يرتدي نظارة الايجابية ورؤية كل الامور بخير اما نقد السلطة ووضع تصرفات اعضائها تحت المجهر فهو سبب كاف لادانة الناقدين والغائهم التام من خارطة الوجود الوطني.


هذا ليس سلوكا عارضا فحسب، بل ثقافة تسري في الاجتماع العربي ككل ، ينتقل الى بقية القطاعات والتكوينات الاجتماعية، الصغيرة منها مثل الاسرة او الكبيرة مثل التيارات والاحزاب السياسية، وستجد حيثما التفت صورة الحكومة فيها، فاخوك المواطن يجب ان يكون السيد الاوحد في الاسرة والامين العام الاوحد في التيار، والسياسي الاوحد في الحزب، والمفكر الاوحد في الجماعة، اما بقية الاعضاء فعليهم الاستماع الى حكم ومواعظ أخيك النائب او أخيك المفكر او أخيك السياسي «الذي لم يخلق مثله في البلاد».


هذا الظواهر لا تدفع للثبات والتوازن ولا الى تمثل المأثور الشريف «قل الحق ولو على نفسك» بل ستدعم الميل للتطرف الدائم في المواقف، تطرف في اتجاه اليمين او اليسار، فحالة القلق والتشنج وليس التفكير والتدبر، هي التي ستفرض نفسها حينئذ على وجدان الانسان العربي بصورة دائمة، والمخرج الوحيد من هذه الحالة هو الاعتراف بحق الاخرين في الاختلاف وحقهم في ممارسة اختلافهم، وممارسة الحق لا تقلل من قيمتهم بل تزيدهم تألقا.

 فالمطلوب بالنهاية ان يكون الانسان صادقا مع ذاته، منسجما مع ثقافته التي تربى عليها والتي يراها قادرة على الخطو في اتجاه نهوض المجتمع، ليس مهما بعد ذلك ان ترك فكرة او اعتنق اخرى، مادام التوازن يحكم اختياراته، ويضبط نظرته لنفسه وللاخرين، وقتها ستختفي ظاهرة «الموجات الفكرية» وتبدأ مرحلة «التكامل الفكري» بين المدارس والتيارات والتوجهات المختلفة.


* كاتب كويتي


 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حرب غزة..احتجاجات جامعات أميركية | #غرفة_الأخبار


.. مساعدات بمليار يورو.. هل تدفع أوروبا لتوطين السوريين في لبنا




.. طيران الاحتلال يقصف عددا من المنازل في رفح بقطاع غزة


.. مشاهد لفض الشرطة الأمريكية اعتصاما تضامنيا مع غزة في جامعة و




.. جامعة فوردهام تعلق دراسة طلاب مؤيدين لفلسطين في أمريكا