الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معوقات الدبلوماسية وإدارة الأزمات الدولية

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 3 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


عندما ننظر بشكل دقيق إلى مدى ما وصلت إليه بعض التحركات الدولية الأحادية الجانب, من جنوح عن القاعدة الأصلية للعمل السياسي التعددي الجماعي, وخروج عن مبدأ الإجماع الدولي في اتخاذ بعض القرارات المؤثرة والحساسة, وعلى وجه الخصوص من خلال استقرائنا لعدد من القضايا السياسية الدولية خلال القرن الحالي, كالتدخلات المتزايدة في الشؤون الداخلية لعدد من الدول ذات السيادة على سبيل المثال, ندرك أن مجتمعنا الدولي اليوم قد أصبح أكثر هشاشة من ذي قبل, بل اشد عرضة للانجراف إلى الحرب واستخدام القوة والأساليب العسكرية منها إلى السياسات اللينة, وعلى وجه التحديد في عدد من القضايا السياسية التي أثرت في مدى إدراكه ووعيه الحقيقي لمعنى المحافظة على السلام والأمن الدوليين, كأساس لا غنى عنه لبناء حضارة متمدنة وواعية, مما ترتب على ذلك انسياقه إلى تبني عدد من الأفعال والسياسات المتصلبة, والتي بدورها أخذته بعيدا عن القاعدة الأصلية والصحيحة للتعاون الدولي. ويعود ذلك بالطبع إلى عدد من الأسباب الرئيسية التي تكفلت بدورها بممارسة ما يمكن أن نطلق عليه بسياسة (الكأس الممتلئ) على ذلك المجتمع, الذي ظل يتقبل تلك السياسات والأفكار حتى أصبح غير قادر على استيعابها بشكل صحيح وسليم بعد ذلك.
حيث يبدو أن هناك بعض العوامل الايديوبوليتيكية التي بدأت تعيد نفسها إلى الواجهة السياسية الدولية, كمؤثرات فاعلة على المنهجية العلمية الصحيحة للإدارة الدبلوماسية للازمات الدولية, بحيث لم يعد ممكنا ـ من وجهة نظر العديد من الأطراف الدولية المؤثرة ـ التحرك وفق تلك الضوابط والقواعد المتعارف عليها, بحيث يفترض استنفادها بشكل نهائي قبل اتخاذ أي خطوة نحو استخدام القوة الصلبة كبديل أخير لحلحلة العديد من القضايا الحساسة والشائكة, مع أن تلك الخيارات والضوابط قد أثبتت جدواها في التوصل إلى نتائج مرضية في العديد من القضايا والأزمات الدولية التي لم يكن ممكنا سبر أغوارها بسلامة, سوى بالسير وفق تلك المنهجية العلمية الصحيحة, مما اثر كثيرا في العلاقات الدولية, ونتج عنه العديد من المشاكل الخطيرة والتي نعتبرها امتدادا طبيعيا للانحراف الحاد في الأسلوب الدبلوماسي المنهجي, كمشكلة الإرهاب والعنف والفوضى المستشرية في كل أنحاء العالم.
ومن أهم وابرز تلك العوامل التي أثرت وبشكل رئيسي في رؤية المجتمع الدولي لما أطلقنا عليه القاعدة المنهجية والعلمية للعمل الدبلوماسي, أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م, حيث شكلت تلك الأحداث المنزلق الذي أوقع ذلك المجتمع في هوة التخبط والانجراف إلى تبني السياسات الأحادية الجانب, فتأثيرات ذلك الحدث على العالم بشكل عام, وعلى الولايات المتحدة الاميركية بشكل خاص من الناحية النفسية والاستراتيجية قد ساعدت على استيعاب وتقبل تلك المفاهيم والقيم المتصلبة في السياسة الدولية والعمل الدبلوماسي, بحيث أظهرت أن تلك القوى بدورها أكثر هشاشة وقابلية للتعرض للهجوم المباشر, وعليه فقد اختلفت رؤية أفراد ذلك المجتمع نفسه والذين شعروا بذلك التهديد القريب, وأثرت على رؤية العديد منهم, فأصبحوا أكثر ميولا لاستخدام القوة لحماية مكانتهم الاجتماعية وقوتهم الجيواستراتيجة, ومن هذا المنطلق فقد باتت (مواقف النخبة والعامة الأميركيتين ميالة إلى تأييد الانخراط الدولي القوي والمكثف ـ في كثير من الأحيان ـ, بحيث أصبح هناك قدر واسع من الدعم الآن في أواسط كل من الإدارة والكونغرس والجمهور الواسع لاعتماد سياسة خارجية تتسم بتهديدات مقنعة بممارسة القوة العسكرية الاميركية دفاعا عن مصالح البلاد العالمية), وان برزت في الآونة الأخيرة بعض المواقف المناوئة للحرب والتشدد في المواقف السياسية المتصلبة, والتي نعزوها لأسباب كثيرة لاشك أنها ستتغير في حال تعرضت الولايات المتحدة الاميركية او احد حلفائها لاعتداء من ذلك النوع.
وعليه فقد أنتجت تلك المتغيرات الأيديولوجية العالمية والتي شكلت قوة الجذب نحو ذلك الانحراف الخطير, نزوع نحو الدبلوماسية الأحادية الجانب كامتداد سكيوبوليتيكي نابع من أحادية مريضة, وليس كفكرة سياسية يراد من ورائها نتاج دبلوماسي عالمي مرضٍ, وهو ما يؤثر في فاعلية الآخرين في المشاركة واتخاذ القرارات, وعلى وجه التحديد عندما تكون تلك القرارات ذات طابع عالمي ودولي مؤثر, فالعمل الأحادي الجانب يعجز بكل بساطة عن تقديم النتائج الصحيحة والمرضية في القضايا التي هي بطبيعتها متعددة الأطراف ولا تقبل الانجراف إلى الرؤى الفردية, فحين نعتبر أن الأعمال التي نقوم بها هي أعمال صحيحة وبشكل مطلق بغض النظر عن رؤية الآخرين إليها, فإننا نسير في تيار لا يترك للآخرين مجال للمساهمة في تقريب وجهات النظر, او المساعدة على تسويغ تلك الأفكار المطروحة, وعليه فان ذلك لا يترك للدبلوماسية اللينة مجالا لأخذ دورها الطبيعي كأساس للعمل السياسي, مما يترتب عليه الانسياق نحو عسكرة المواقف والانجراف إلى القوة كبديل للدبلوماسية.
كذلك كان لضعف المنافسة الدولية, وخصوصا بين الدول الكبرى المؤثرة, ـ وبمعنى آخر ـ عدم وجود أي توازن استراتيجي في ميزان القوى العالمية بين الأطراف الدولية الفعالة كدول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين على سبيل المثال في مواجهة التيار الاميركي, دور كبير في التأثير على أداء ومنهجية الإدارة الدبلوماسية للازمات الدولية, وعلى وجه التحديد في عدد من المواقف والأزمات التي نتج عنها انسياق المجتمع الدولي إلى استخدام القوة الصلبة, مع انه كان بالإمكان تجنب الدخول في ذلك, كحرب العراق على سبيل المثال, مما جعل الطرف الأقوى ـ أي الولايات المتحدة الاميركية ـ تلعب الدور الأكبر والأخطر, وذلك من خلال رؤيتها الذاتية للمواقف, وبالتالي سير تلك الدول وراء تلك الرؤية الاميركية دون أي اعتراض او امتعاض, وان أبدت بعض من الرفض في بداية المطاف, كما فعلت فرنسا مثلا, فبعد أن عارضت فرنسا تلك الحرب بل و(هددت باستخدام حق النقض ـ الفيتو إزاء محاولة الولايات المتحدة استصدار قرار من مجلس الأمن لتغطية اجتياحها العسكري للعراق, شاهدناها بعد ذلك ترفض وتندد بأي هزيمة عسكرية أميركية في هذا البلد وبدلاً من حرمان واشنطن من الشرعية الدولية وافقت على تشريع الحرب ونتائجها بقرار من مجلس الأمن الدولي والذي يحمل الرقم 1546 وبدلاً من رفض إلغاء الديون العراقية قبل تشكيل حكومة مستقلة وافقت على إلغاء 80% من هذه الديون فقط).
الأمر الآخر والذي اثر كثيرا في العمل الدبلوماسي الحديث هو ضعـف الحلول السلمية المطروحة والتي أدت بدورها إلى انحراف حاد نحو الاستخدام المفرط للقوة الصلبة, والتي كان من المفروض أن تتعامل مع الرأي الآخر بطرق سلسة وبعيدة عن التشدد والاتجاه نحو القوة وتصعيد المواقف السياسية, والتوصل لحلول منطقية تدفع الطرف الآخر للانصياع والانقياد للمجموعة السياسية الدولية, وإلا فان عكس هذا الطرح لن يؤدي الا إلى الوصول لطريق مسدود يحول دون حلحلة الكثير من القضايا الحديثة التي كان من المفروض أن لا تصل الى ما وصلت إليه من تصعيد, نتج عنه الكثير من الأعراض الجانبية السيئة على العالم بأسره, كبروز ظاهرة العنف والإرهاب, والتشدد الأيديولوجي, والسعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا والتي أرى ـ من وجهة نظري الشخصية ـ أنها ردة فعل طبيعية على الخوف الناتج عن التهديدات الخارجية, وغيرها من الظواهر السياسية والاقتصادية الناتجة عن الخلل في المنطق الدبلوماسي الحديث, ورغم كون هذه الظواهر بالظواهر القديمة إلا أن ذلك الخلل في البناء الدبلوماسي واستخدام المنطق والاتجاه نحو القوة والحلول الأمنية أكثر من المعقول, اثر كثيرا في استفحال هذه الظواهر وزاد من قوتها, ومنحها مناعة مكتسبة بمرور الزمن ضد أي علاج لمقاومتها والقضاء عليها.
(فالمبادئ الأخلاقية عالمية وبدون إطار زمني, لكن السياسة الخارجية مقيدة بالظروف, فهي على حد تعبير بسمارك (فن الممكن) و(علم النسبية) وعندما تطبق المبادئ الأخلاقية دونما اعتبار للشروط التاريخية, تكون النتيجة عادة زيادة في المعاناة بدلا من تحسينها, وإذا طبقت على ضوء الشروط المحلية او الدولية, يكون الغرض المنشود مقيدا بمفهوم المصلحة القومية.. إذن تنشأ القيود على التدخل الإنساني ـ او غيره ـ من الاستعداد لدفع الثمن الضروري, على شكل تضحية في الأموال والأرواح, ولا يمكن الاستمرار في تبني مذهب للتدخل عالمي او غيره, إلا إذا كان الرأي العام مقتنعا بان المصالح التي على المحك تبرر الكلفة, وهذا العنصر تحديدا كان ناقصا في كل الأمثلة على التدخل الإنساني العالمي في عقد التسعينيات).
وأخيرا تهميش دور المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بحل النزاعات والقضايا الدولية بالطرق السلمية والدبلوماسية كهيئة الأمم المتحدة وغيرها وتحويلها إلى مؤسسات غير فعالة وفي كثير من الأحيان قد تم استخدامها كحصان طروادة لتمرير بعض القرارات الفردية والأحادية كما شاهدنا في العديد من المواقف الدولية كالحرب على العراق ومحاولة إسقاط النظام العراقي السابق, رغم معارضة الكثير من الأعضاء لشن تلك الحرب, وربما يتكرر السيناريو مع سوريا لسبب او لآخر, او مع إيران حول برنامجها النووي كما هو حاصل هذه الأيام, او بسبب تشددها تجاه إسرائيل, ودول أخرى قادمة في السنوات المقبلة نتيجة لذلك التهميش الخطير لتلك الهيئات المعنية بالسلام, لذا وكما قلنا سابقا فانه بات من الضروري أن يتم الرجوع لتلك المؤسسات المعنية بالسلام وخصوصا هيئة الأمم المتحدة لحل قضايا العالم وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية و..الخ, وعدم التدخل في سيادتها وشؤونها الداخلية, واحترام قراراتها المتخذة, كما يجب بناء تعاون دولي في إطار هذه المؤسسة يقوم على المشاركة والتفاهم والتقارب الدولي, وعليه (ومن اجل وضع هذا النشوء المستمر لمجتمع كوني مشترك في إطاره المؤسساتي, يتحتم ظهور أشكال جديدة من التعاون المعزز وعلى محورين كبيرين: العلاقة الثلاثية بين الدول الأغنى والديمقراطية في أوروبا وأميركا وشرق آسيا ـ سيما اليابان ـ ومن خلال الأمم المتحدة باعتبارها إطارا لعمل الأوسع والتمثيلي للسيادة العالمية, وهذا أمر سيتطلب إعادة تعريف الدور الأميركي العالمي وتبني أوروبا واليابان لنظرة عالمية أوسع كما سيتطلب دعما مقصودا للدور السياسي الذي تضطلع به الأمم المتحدة حتى وان كان ذلك على حساب القوة الأحادية لبعض الدول المهيمنة حاليا).

محمد بن سعيد الفطيسي
كاتب وباحث عماني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا: السجن 42 عاما بحق الزعيم الكردي والمرشح السابق لانتخا


.. جنوب أفريقيا تقول لمحكمة العدل الدولية إن -الإبادة- الإسرائي




.. تكثيف العمليات البرية في رفح: هل هي بداية الهجوم الإسرائيلي


.. وول ستريت جورنال: عملية رفح تعرض حياة الجنود الإسرائيليين لل




.. كيف تدير فصائل المقاومة المعركة ضد قوات الاحتلال في جباليا؟