الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صعوبةُ أن تُختَصرَ في حذاء أو حقيبة

فاطمة ناعوت

2007 / 3 / 8
ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي2007 -حجاب المرأة بين التقاليد الأجتماعية والبيئية والموروث الديني


رغم إيماني التام بحرية المرء في اختيار طرائق رسم مظهره، إلا أن اعتمار المرأة الحجاب، برأيي، أراه منطويًّا مدنيًّا ووجوديًّا وجماليًّا وفلسفيًّا على مشكلتين محوريتيْن. الأولى أنه اعترافٌ صريحٌ ونهائيّ من قِبَل المرأة أنها إنما محض أداةُ استمتاعٍ لنظر الرجل على الأقل. وهذا أمر لا أعدّه اختصارًا لكيانها وحسب، بل أعدّه ضربًا من التحقير والتهميش لوجودها. "بيدها هي لا بيدِ عمرو". فضلا عن التناقض الجليّ بين أن تطالب النساءُ بالمساواة بالرجل وفي الوقت ذاته يرضين أن يستقين طرائق معيشتهن وأسلوب تعاطيهن لكلّ الأمور، حتى الملبس، من خلال منظور الرجل ومرجعياته. فالمطالبة بالنديّة تنطلق في الأساس من الخروج من عباءة الرجل على نحوٍ تام. على أن الشاهد أن المرأة ذاتها لم تكتفِ بأن ينظّم لها الرجل حياتها، بل تسعى راضية مرضية أن ترتب أمورَها، حتى أدق التفاصيل، من خلال عينيّ الرجل. الثانية، أن وضع الحجاب ينطوي على سوء ظنٍّ مبيّت بالآخر الذكر. وكأن كل الرجال هم بالضرورة ذئابٌ بالفطرة. فقط ينتظرون الصيدَ المطروح كي يسارعوا باقتناصه. لكن الشاهد أن المرضى من الرجال هم نسبة لا تختلف كثيرا عنها عند النساء المريضات. إذ لماذا نسّلم مسبقا وعلى نحوٍ حاسم أن لا نساءَ ثمة يرين في الرجال قنصا؟
والمشكلة الأخطر التي تنطوي عليها الفكرتان السابقتان هي إلغاء عنصري "الاختيار و الإرادة". اختيار وإرادة المرأة واختيار وإرادة الرجل على السواء. فسوء الظن بالنفس، وسوء الظن بالآخر، بينهما كليهما بديلٌ راق وجميل ومنطقي هو بمثابة الثالث المرفوع الذي تطرحه المرأةُ أرضًا حين تضع على رأسها الحجاب، هذا البديل هو حسن الظن بالنفس وبالآخر مادام عنصر الإرادة موجودًا. إرادة واختيار أن نخطئ أو ألا نخطئ. فلا فضيلة تُخدش بغير إرادة الناس. ولا فضيلة تُحفظ بغير إرادة الناس. الفضيلة والعهر ليستا "شكلا" وزيًّا، بل عقلٌ وقرارٌ وإرادة وطريقة نظر إلى العالم.
إن إخفاء الشَّعر أو الوجه هو إخفاء لهوية المرء. الهوية الربانية التي منحها لنا الخالق، وليست تلك الهوية المدنية التي تهبها لنا الدولة متمثلةً في رقم وبطاقة وتعريف. في زيارة لي لإحدى دول الخليج التي تعتبر الحجابَ فرضًا قوميًّا، ارتديت "الزي" الرسمي للمرأة وهو العباءة السوداء وحجاب الشعر والوجه. ارتديت الزي تمشيًّا مع مقولة: When you are at Rome, Do as Romans do!"" حين تكون في روما افعل كما يفعل أهلُها". وكنت أضيعُ من أسرتي في الأسواق المزدحمة، لأنني أشتبه مع كل النساء. إن النساءَ اشتبهنَ علينا! كلنا نرتدي الزيَّ ذاته واللون ذاته. الأسود طبعا، أما الوجه– أداة التمييز الوحيدة وبطاقة الهوية الإلهية– فمغطىً ومحجوبٌ بأمر ثلة من البشر. وهو ما كان يحث طفليّ الصغيريْن: مازن وعمر، على البحث عني عن طريق تفقّد أحذية النساء وحقائبهم، علّهم يتعرفون على حذاء أو حقيبة أمهما. ولأن "عمر" وهو طفلي الأصغر مصاب بمرض "التوحّد" أو الأوتيزم Autism ، فكان أن ضبطتُ نفسي وقد شرعت في عادة سيئة. وهي اقتناء أحذية وحقائب ذات ألوان صارخة، على غير ما أحب، حتى يميزني أطفالي بسهولة حين نضيع في الزحام. تأملت الأمر. ماذا أفعل الآن بنفسي بحق السماء؟ هل أنا الآن أختصر وجودي في حذاء أو حقيبة؟ هل أجبر ذائقتي على تحمل الألوان البشعة كمعادل موضوعي للون النساء الأسود الجمعي؟ هل قبلت صاغرة أن أتحول إلى حذاء يبحث عن صغاره أو حقيبة فسفورية تركض وراءها عيون أطفالي؟ ولأنني بالطبع أرفض أن أُختصَر في حذاءٍ أو في حقيبة، فقد رفعت الحجاب واستعدت هويتي التي منحنيها الله. وجهي وملامحي. تساجلت طويلا مع البشر المنوط بهم زجر النساء طارحات الحجاب. قلت لهم إن بطاقة هُويتي الوحيدة التي يعرفها صغاري هي وجهي هذا الذي تودون حجبه!
هذا بالإضافة إلى تناسي حقيقة هامة. أن المرأة بالتأكيد هي أحد رموز الجمال في الحياة. ليس الجمال الحسي الساذج الرخيص، بل الجمال بالمعنى الفلسفيّ الأشمل والأرفع والأجلّ. مثلها مثل كلّ مفردات الحياة التي تكرس الاتزان النفسيّ وتعادل موضوعيا كل ما تنطوي عليه الحياة من قبح وعبث. مثلها مثل الوردة والنهر والغيمة و الخضرة والثلج والموسيقى والقيم الرفيعة والألوان والطفولة والخير والعدل.... إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الرموز التي تجعل لحياتنا مبررا مقبولا كي نواصل الطريق على صعوبتها ومرّها. قائمة المعطيات الجمالية التي وهبنا إياها الله كمنحةٍ لعيوننا وانتعاشنا البصري وما يزال ينهل منها الشعراء إذا ما أحبوا أن يكتبوا شيئا رفيعا وساميًّا. والمرأة ذاتها تدرك أنها معطى جماليّ على نحوٍ فطري. تدركه منذ طفولتها ودون معلّم، وفي هذا دليل على أن إدراكها هذا محض فطرة جبلها الله عليها بغير أن ينطوي فكرها على وجود الرجل أصلا. نجد الطفلة الصغيرة تطيل النظر إلى المرآة، ترتب شعرها وتنتقي شرائطَها الملونة وتعنى بفساتينها وتنسيق ألوانها. هذا الإحساس المجبول بأنها إحدى مفردات الجمال في الوجود، والبريء من نظرة الرجل تماما، يلازمها حين تغدو صبيّة وحين ستصبح امرأة. وهذا يفسر أن تجد المرأة، في المجتمعات التي تلتزم الحجاب حدَّ ألا تبين من المرأة إلا عيناها، تمعن في تجميل هاتين العينين وإبراز جمالهما بالكحل وأدوات الماكياج، بل وبالعدسات اللاصقة الملونة أحيانا. هذا مع تسليمي اليقيني أن لا شيء أجمل أو أصفى من وجه امرأةٍ بلا مساحيق. هي هنا تتحايل على القانون الذي يعسف الفطرة، وهي بكل يقين لا تفكر في أن تغدو جميلة في نظر رجل ما، بل هي تقدس جمالها وحسب، وتظهره للحياة. فهي نفسها الطفلة التي أطالت النظر إلى المرآة قبل أن تدرك أن ثمة ما يدعى رجلا.
كلنا يعرف أن كثيرا من آيات القرآن الكريم نزلت في ظروف خاصة ولأسباب محددة وتبعا لمتطلبات مجتمعات لها ظروف وأعراف تناسبها هذه الآيات. نزل القرآن قبل وضع دساتيرَ وأحكامٍ وقوانينَ تحفظ حقوق الناس فكان هو بمثابة كل ذلك. وأما المجتمع المدني "الحلم" الذي سنّ قوانين وأعرافًا تحفظ للمواطن حقوقه مضافة إلى ما أسلفتُ حول الاختيار والإرادة هي أمور كفيلة أن تنجي المرأة من المخاطر التي يظن البعض أن الحجاب قد يحميها منها. وهل منعَ الحجابُ خطف النساء والتحرّش بهن؟ وهل منع الحجاب بعض النساء أنفسهن من ارتكاب الأخطاء؟ قضية الفضيلة أوسع مما نرتدي أو نكشف. لأن الفضيلة تكمن في العقل والدماغ لا في عدد السنتيمترات التي نُظهر أو نخفي من أجسادنا.
الحياة بالفعل مليئة بمفردات القبح الذي يستطيل ويتمدد كل يوم. القبح على المستويات المادية والمجردة. التلوث البصري والسمعي والأخلاقي والنفسي واللغوي والمعنوي والوجودي والسياسي، في مقابل مفردات قليلة من الجمال الذي ينحسر أيضًا بالتدريج وتباعًا حتى أوشكَ على الاختفاء. أنا كإنسان وكشاعرة وكامرأة أفرح بأيٍّ من القليل الجميل الذي أصادفه في يومي، وأعدّه ذخيرةً ومنحة تساعدني على مواصلة الحياة. أفرح حين أصادف وجه طفل يضحك، أو بناية منظمة جميلة، أو شارعًا نظيفًا، أو شجرة مزهرة، أو ظلالا رسمتها الشمسُ على الرصيف، أو غيمة تأتي على غير موعد لتغلل وهج السماء، أو كتابًا جميلا،أو ترنيمة عذبة، أو وجه امرأة صافيًا، وأحزن حين أصطدم بأبنية متنافرةٍ، وطرق لا انتظام فيها، وبشر يغلظون القول ولا يجيدون الكلام، أو يلبسون ما يزعج البصر والروح. أحزن أكثر حين أرى النساء يخفين وجوههن لأنهن يؤمن أنهن مفردات اقتناص للرجال وفي هذا سوء ظن مزدوج بالنفس وبالآخر، في النفس باختصارها في محض "شيء" يخص الرجل، وفي الآخر باعتباره قناصًا ينتظر الفريسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاصيل بنود العرض الإسرائيلي المقدم لحماس من أجل وقف إطلاق ا


.. أمريكا وفرنسا تبحثان عن مدخل جديد لإفريقيا عبر ليبيا لطرد ال




.. طالب أمريكي: مستمرون في حراكنا الداعم لفلسطين حتى تحقيق جميع


.. شاهد | روسيا تنظم معرضا لا?ليات غربية استولى عليها الجيش في




.. متظاهرون بجامعة كاليفورنيا يغلقون الطريق أمام عناصر الشرطة