الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عروبتان

موريس عايق

2007 / 3 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


شكلت الناصرية ذروة العروبة الأولى عبر وراثتها المزدوجة، فهي توجت تعريب مصر السياسي والذي بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين عبر الدور المحوري للقضية الفلسطينية وقتها، ومن ناحية ثانية فانها خاضت صراعا داميا ضد كافة أشكال الاستعمار (المباشر وغير المباشر) مؤكدة وراثتها للعروبيين الأوائل (الشوام) والذين أسسوا عروبتهم القومية في سياق مواجهتهم للاحتلال التركي (المسلم|السني) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. هذه الوراثة ثبتت وبشكل حاسم المحتوى الأساسي للهوية القومية العربية كهوية كفاحية، تستمد وعيها لذاتها من تراث النضال ضد الاستعمار.
فالمشروع السياسي للعروبة كان يتمثل بالتخلص من الأجنبي والاستقلال التام وبناء الدولة الحديث، وكسر حاجز التخلف في مواجهة الغرب. الناصرية مثلت النموذج الناجز فهي استندت الى مشروعية النضال ضد الاستعمار الانكليزي ووسعته ليشمل فلسطين والجزائر وصولا الى اليمن، والدفع بخطوات سريعة في بناء الدولة من خلال الاصلاح الزراعي وتوسيع القطاع العام وانشاء طبقة وسطى مدينية كبيرة الحجم. الثقافة الوطنية لحركات التحرر في العالم الثالث هي المحتوى للعروبة، كمشروع حداثي ينهل من التراث الثوري الأوربي ويوظفه في مواجهته تاليا.
بالمقابل افتقدت العروبة الادراك لقضايا مفصلية، مسألة السلطة والمواطن، أي التعيين الايجابي والداخلي لمسألة الانتماء القومي، فقد اكتفت بالتشديد على الهوية التي استمدتها من كفاحها السابق دونما التفات الى قضايا المواطنة والحرية والمشاركة و هذا الاهمال سيكون له عواقبه فيما بعد، ولكن من أهم نقاط الاهمال كانت العلمنة. فالسمة البارزة للناصرية، مقارنة بشقيقها اللدود (البعث) أو ربيبتها (القوميون العرب)، محافظتها وتقليديتها، فهي زاوجت بين الاسلام والعروبة، فالحركات الناصرية نادرا ما تجاوزت بيئة اسلامية -سنية، كما المرابطون في لبنان وحي الكلاسة بحلب على سبيل المثال، بالمقابل بدا العبث متقدما حيث الحضور القوي للمختلفين دينيا ومذهبيا،(سوريا|العراق|لبنان...)و على الأغلب أن أبناء الاقليات الدينية والمذهبية من القوميين العرب كانوا بعثيين ولكنهم نادرا ما كانوا ناصريين.
هذه التقليدية التي وسمت الناصرية عمقت التباسا موجودا، وألقى دوما بظلاله على العروبة وخاصة بعد الاسنقلال عن الاحتلال التركي، أي مسألة العلاقة بين العروبة والاسلام. بقي التباسا تحياه الناصرية وان لم يكن جرحا غائرا أوأزمة هوية، فهي حسمت بلا لبس مسألة الهوية القومية العربية لناحية تعميقها وترسيخها كانتماء متجاوز لما دونه، خاصة أن الهوية القومية العربية والتي تمتلك ذاكرة نضالية التقت عبر الناصرية مع أفق أوسع وهو حركات التحرر في العالم الثالث.
مابدا التباسا وسيزول مع الوقت تحول فيما بعد الى مقتل، وأيضا الى مقدمة تأسيسية للعروبة الثانية، فبعد هزيمة العروبة بنسختيها (الناصرية والبعثية) في نكسة 67، والتي ليست مجرد هزيمة نتيجة أخطاء بنيوية ارتكبتها وحسب انما أيضا لصراع مع المشروع المضاد والذي كان لحلفائه العرب (آل سعود بالدرجة الأولى) دورا حاسما ولا ينفصل عن الدورالاسرائيلي أو الامريكي.
مع الهزيمة انتهت العروبة السياسية ولكنها بقيت قوية ثقافيا ووجدانيا، وشكلت قاعا لاستعادة العروبة سياسيا وهو ماسأسميه العروبة الثانية,
مايفصل العروبة الأولى عن الثانية أمور كثيرة، فما بدا التباسا في الأولى كان تأسيسيا في الثانية، أي المماهاة بين الهوية القومية العربية والهوية الطائفية السنية حصرا، فأسلمة العروبة لم تعد اشكالا تاريخيا انما ممارسة واعية مقصودة بحد ذاتها.
فسنة لبنان لم يسلكوا عادة كطائفة، انما نظروا الى أنفسهم كامتداد للمحيط العربي والهوية العربية للبنان، والتي كان الشيعة الخزان البشري لتعبيراتها السياسية (الأحزاب القومية واليسارية) حتى نشوء أمل وبدء ظهور الشيعية السياسية. التداخل العروبي-الاسلامي كان موروثا حضاريا رأى أهل السنة أنفسهم من خلاله، أما اليوم فهم طائفة، طائفة تقصر العروبة فيها وتربط عروبة الآخرين باعترافها هي بهم كعرب. الشيعة لم يعودوا عربا، انما أمسوا صفويين|فارسيين، هذه المفردة التي استعارها العرب الجدد من الخطاب القومي( بنسخته العراقية) بعد تحويرها. فسابقا لم تعن الا المشروع الايراني وطموحاته تجاه الكيان العراقي، ولم تتضمن دلالات تجاه الشيعة العرب، والذين شكلوا حاضنة لميلاد البعث العراقي وكانوا عربا في ترسيمته الايديولوجية. بينما اليوم تحيل الصفوية الى تثبيت الهوية الشيعية لأي كان بمعزل عن انتمائه القومي، فالصفويون هم شيعة العراق العرب، كما شيعة الجنوب اللبناني، وحتى من يتشيع في بلاد المغرب العربي يكون جزءا من مشروع صفوي.
هذا المعنى المستجد للصفوية، وان تكن المفردة مستمدة من تراث الحركة القومية العربية، يجد نفسه اكثر تلاؤما مع معنى "الرافضة" منه مع المعنى الأصلي للصفوية، ولكن هذا التمازج لم يكن ممكنا لولا التماهي المتزايد للعروبة بالهوية السنية، فالعرب الآن هم سنة لبنان، أهل الطريق الجديدة، فعروبتهم هي ذاتها سنيتهم يمكن ابدال احداهما بالأخرى، في مواجهة شيعية صفوية تجد نفسها في حزب الله. العروبة السنية المستجدة لأهل الطريق الجديدة ترتكز على تراثا محور لأبناء المنطقة أنفسهم، مستفيدة من التباس العروبة الأولى، فهي منطقة سنية شكلت الحاضنة لحركة المرابطين الناصرية وأيضا للبعث العربي وآوت المقاومة الفلسطينية المسلحة كما حركة المقاومة الوطنية اللبنانية، والذين أصبحوا فصائلا سنية بينما لم ينظروا هم وقتها لأنفسهم كحركات سنية انما كحركات قومية ويسارية وشكل المختلفون مذهبيا ودينيا جانبا كبيرا منها. الهزيمة من قبل ميليشيات التقدمي الاشتراكي(الدرزي) وحركة أمل (شيعة) وزمن الحرمان خلال عهد الهيمنة السورية والحركة الفعالة للمال السياسي للحريرية ستكون عوامل حاسمة في ترسيخ المنظور السني مقارنة بغيره.
عملية اعادة بناء الذاكرة ستتم عبر تحوير معنى أحداثها، التأويل والنسيان هما الشرطان الهامان لدمج العروبة والسنية في الذاكرة المعاشة لأهالي الطريق الجديدة.
هكذا ستعمد العروبة الثانية للاستيلاء بشكل منظم على تراث حركة التحرر العربية الأولى (الصفوية من العراقيين- سنية الفصائل من الفلسطينيين- الأغلبية |الشعب السنة من شعبوية العروبة....) لتعيد انتاجه بمعنى مغاير، أكثر التقاء بجوهر المشروع الذي حاربته تلك العروبة آنذاك، مشروع الرجعية العربية وقتها متمثلا بتراث الاخوان المسلمين وعبد الوهاب، لكنها (العروبة الثانية) لن توظفه الا تدليسا فتعبيراته لن تظهر الا لدى المجموعات الأشد تطرفا، ولكن معناها سيبدو في مفردات أخرى (الصفويون عوضا عن الرافضة)
الجزء المنسي من تراث حركة التحرر العربية كان جوهره وعصبه، الكفاح ضد الاستعمار ومحورية القضية الفلسطينية، فالعروبة الثانية ليست متناقضة مع المشروع الامريكي، انما على العكس تمثل احدى ركائزه، ان لم تكن الاساسية في مواجهة الخطر الايراني، ولهذا سيتبلور المشورع الصفوي كضد، كتناقض رئيسي لهذه العروبة وسيبدو الاسرائيليون عندها حلفاء محتملين. الاختلاف بين العروبتين لن يقتصر على الموقف من المشروع الأمريكي، انما يمتد الى الحلفاء الآخرين الذين تحظى بهم العروبة الثانية، أي الطائفية السياسية والمؤسسة الدينية.
فالطائفية السياسية واجهت خطر تحطيمها عبر الحركة القومية العربية، والتي سعت الى تجذير وعي قومي عربي متجاوز للطوائف، شعب عربي في دولة عربية. بينما حاولت الطائفية السياسية نقل الطائفة الى مستوى الكيان والهوية السياسية وان عجزت عن انجاز تماثل بين الهوية الطائفية والهوية الوطنية. العروبة الثانية حسمت المسألة بالشكل الأمثل للطائفية السياسية عندما زاوجت تماما بين العروبة والسنية، فلم يعد هناك حاجة لللصراع على وعي وهوية المسيحيين والشيعة، فقد أصبحوا مسيحيين وحسب، وهذا ما حاربت المارونية السياسية لأجله تحت شعارها الملطف (نهائية الوطن اللبناني) والآن حصلت عليه بتسنيين العروبة، المحارب الأبرز على هوية المسيحيين. القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي حلفاء بارزين لهذه العروبة المستجدة، بينما كانوا على الضفة الأخرى في مواجهة العروبة الأولى.
ان الاختلاف بين العروبتين هو تناقض جوهري، فالأولى سليلة حركاة التحرر الوطني، هدفها الاستقلال وبناء الدولة وترسيخ الوجدان القومي، اما الأخرى فهي على العكس من هذا مندرجة تماما في سياق العولمة، تسعى للتخلص من الدولة، وتعيد انتاج الطوائف كأشكال نهائية للانتماء( عبر دمج القومية بالطائفة)، عروبتها ليست الا سرقة لتراث الآخرين -الأعداء (العرب الحقيقيون) ولكنها ستكون في النهاية مقتلا للعروبة، التي خسرت خلال قرن من الزمان مسيحييها ويهودها، وربما خلال سنوات قليلة شيعتها، وفي النهاية نفسها وكارثة للهلال الخصيب.
هذه العروبة هي انحطاط تام، يجد جذوره في التباسات العروبة الأصلية ذاتها، ولكن طرافتها أن تسوق لنا عبر بناء التراث نوري السعيد الحالي(عبد الله بن عبد العزيز) وهو يتحدث بمفردات عبد الناصر، عن حماية العروبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - النهايات الحزينة
محمد البدري ( 2013 / 11 / 26 - 06:51 )
مرت ثمان سنوات تقريبا بين نشر المقال واحداث اللحظة الراهنة. ولن احيد كثيرا عن الحقيقة وعن الاتفاق فيما وصلت ايها السيد الفاضل موريس عايق من نتائج. وكأنك تتنبأ بما يحمله لنا تاريخ اكثر من نصف قرن حاول فيه الفاشيين القوميين تمثل العروبة فاصبحت اوطانهم علي شفا الضياع. هذا هو حال سوريا ومصر ولن اتجاوزهما الي العراق وليبيا أو السودان فكل يحمل مصيبة وميكروب العروبة ولا امل الا بالتخلص منه ولو باثمان فادحة والا فلن يبقي شئ منها. العروبة الاولي وعبر سياسة التهور وفك البني الاجتماعية في تلك الاوطان اتت نهايتها سريعا ومن ثم كان لا بد وللاسلام ان يعيد التئام الجروح فاصابها بالصديد والغرغرينا مما حدي بخبر اليوم في صحف العالم لتقول أن انجولا تضع نهاية للاسلام علي ارضها بهدم المساجد ومنع المسلمين من ممارسة طقوسهم، لان الوقاية خير من العلاج. فمتي ستعلم من قال عن نفسه انه عربي ومتي سيقف العقلاء - لو وجدوا في البيئة العربية الثقافة - وقفة شجاعة في مواجهه هذا التخريب. تحية لك وشكر وتقدير

اخر الافلام

.. اجتياح رفح.. هل هي عملية محدودة؟


.. اعتراض القبة الحديدية صواريخ فوق سديروت بغلاف غزة




.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه