الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاكم التفتيش السينمائية

سمر يزبك

2007 / 3 / 13
الادب والفن


يقول السينمائي الفرنسي روبير بريسون: قد لا يرى الناس في هيامك بالحقيقة سوى الجنون.
هذه الخلاصة التي يقدمها سينمائي رفيع المستوى من طرازه هي روح السينما الحقيقية، والفكرة الخّلاقة التي جاءت منها كل فنون الإبداع والمعرفة، بدءاً بالشعر وانتهاء بالرواية والسينما. وإن كانت الرواية الكلاسيكية نشأت ضمن عالم الفلسفة الحديثة، القائمة على فكرة أن الإنسان هو مركز العالم، بعد أن أعمل "ديكارت" العقل ومهد لنشوء معارف جديدة مثل علوم اللغة والانتروبولوجيا، فإن السينما انبثقت كتتويج لصعود هذا الخالق الصغير نحو عرش وجوده، واستلامه زمام الأمور في تحريك العقل والمخيلة إلى مصاف رفيعة من الجمال.
كانت السينما ولا زالت، الفن الأكثر تطوراً وتعبيراً عن اختلاجات الحياة، والأكثر قدرة على تفصيل الواقع وتحويله إلى ملاحم مصورة لا تقل جمالاً عن شتى أنواع الإبداعات السابقة الشاهدة على رفعة العقل البشري، وجموح خياله وقدرته على الابتكار والتجديد، وفي كل بلدان العالم تكون السينما رائدة في مجال حرية التعبير والرأي، وتقديم مقترحات مغايرة للواقع، ليس من أجل تغييره فقط، ولكن من أجل إيفائه حقه من جملة بريسون السابقة تلك. ولا نستطيع مقارنة العمل السينمائي في هذه البلدان قاطبة بالعمل التلفزيوني على سبيل المثال، لأن السينما ملعب فسيح خيوله جامحة، ولا تعترف بحواجز وحدود، عكس التلفزيون الذي يبقى معلقاً بروابط الخدمات التجارية والاحتكارية والاستهلاكية المباشرة.
هذه القاعدة العامة تشذ في سوريا على نحو مختلف وواضح إلى الدرجة التي تترك أمامها إشارات استفهام، تبدو الأجوبة عليها بسيطة الملامح، إذا ما قرر الواحد منا أن يهيم فعلاً! فالسينما السورية التي ما إن بدأت نهوضها - كانت من ضمن أهم التجارب العربية السينمائية- حتى توقفت عند مطلع السبعينات بعد أن تم القضاء على أغلب أشكال المشاريع الثقافية وتطويعها في خانة الثقافة العقائدية، وبدأت مؤسسة السينما انحدارها التدريجي، رغم وجود أسماء مهمة قدمت تجارب متميزة كان لها حضورها العربي والعالمي، وما تزال هذه التجارب تحاول أن تتلمس لها طريقاً وسط العتمة "عمر أميرلاي، أسامة محمد، عبد اللطيف عبد الحميد، محمد ملص، نبيل المالح" ولكن بقيت المؤسسة تغفو تحت مظلة البيروقراطية والتهميش، في الوقت الذي تحول فيه مخرجي المؤسسة إلى موظفين مياومين في انتظار غودو! باستثناء تجربة المخرج عبد اللطيف عبد الحميد ربما.
وراوحت السينما السورية في مكانها لعقود طويلة، ولو بقي الأمر عند هذا الحد، لقلنا إن الأمر شبيه بما يحدث في أغلب المؤسسات الثقافية السورية، لكن أن يتحول التلفزيون السوري إلى مكان أكثر سعة ورحابة في تقديم الأفكار الجريئة من مؤسسة السينما، فهو أمر بالغ السوء ويدل على الانحدار الذي وصلت إليه هذه المؤسسة "يديرها حاليا الناقد السينمائي محمد الأحمد" بعد أن تحولت اللجان الفكرية التي تقرر قبول نصوص الأفلام، والتي تشرف عليها إدراة المؤسسة إلى جلاد صعب المراس، وكأننا في عهود محاكم التفتيش، لأنه في أسوأ العهود التي مرت على المؤسسة، بقيت محافظة على وجود نخبة من المخرجين المثقفين، الذين كانوا يساهمون في هذه اللجان الفكرية. أما الآن فالنصوص التي توافق عليها اللجنة الفكرية، تُقرر فقط على أساس اتساقها واتفاقها مع ما هو سائد، ومع الدرجة التي تجعلها بمأمن عن كل حذف وشطب، أو حتى عن أي مُساءلة أمنية، حتى تحولت هذه اللجنة إلى محكمة تقرر سلفاً ما الذي يجعل عقل المشاهد واقفا عند حد من الهدوء والسكينة، ولا تسبب له الاضطراب. والحد الذي يجعلهم أيضا بمأمن من كل خوف، في الوقت الذي تُقدم فيه الكثير من النصوص التلفزيونية، ويُصور ما هو أكثر جرأة وقوة مما تخشاه عقول اللجان الفكرية.
وبغض النظر عما يحدث داخل المؤسسة، وكيف تتحول إلى مؤسسة للمهرجانات وليست مؤسسة لصناعة الأفلام، وإلى مركز لموظفين من الدرجة العاشرة الذين يستفيدون من قرابتهم العائلية، ومصالحهم الأمنية وانتماءاتهم الطائفية والعشائرية وتفاصيلها المقرفة! فبيت القصيد ليس هنا.
طبعاً هذا كلام سبق وقيل مراراً، لكن العثرة الإضافية الآن هي في السوية الفكرية المنخفضة التي تعمل تحتها مؤسسة حكومية كبيرة مثل مؤسسة السينما. السوية التي جعلت التلفزيون السوري على علاته، يقدم ما هو مغاير ومختلف وجريء، ويفوق بمراحل عتبة الحرية التي تقف عندها مؤسسة السينما، خاصة على صعيد الدراما المسلسلة، وإذا كانت فرصة كل مخرج لإنجاز فيلم، فيما سبق بعيدة وصعبة، فإنها الآن تبدو مستحيلة، خاصة الذين لا ينضبطون تحت قواعد محاكم التفتيش الصغيرة هذه!
ربما الأولى بالمخرجين الصابرين، الذين ما يزالون يركضون وراء وهم الجنون، الاعتراف أن هذا الزمن ليس زمن الإبداع والمعرفة، بل هو زمن الرداءة واختفاء الآصالة التي انبثقت منها هذه الإبداعات، وتركت وراءها كرسياً رثاً يغوص يوماً بعد يوم بين النياشين و...التراب أيضاً!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب