الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة والدفاع عن الهوية والحقوق الوطنية في واقع الفلسطينيين في اسرائيل

محمد بركة

2003 / 8 / 9
القضية الفلسطينية



 
استباق:
ما أنا بصدده لا يدخل في باب التأريخ أو التقييم او النقد الادبي ، فهذه ليست وظيفتي ولا يدخل الأمر في نطاق إختصاصي، وعليه أرجو عدم التعامل مع النص بمنظور النقد الأدبي، إنما بمنظار التسامح حيث لم يكن لدي أية نية لتجاوز أي من مبدعينا الذين اعتزّ بهم.
كل ما في الأمر أنني غرفت مما هو في متناول اليد والذاكرة من رواد الطريق، لأتوقف عند نقاط التماس بين الثقافة والهم العام في واقع أبناء الشعب الفلسطيني في اسرائيل، وهي على وجه التحديد في النقاط التالية:
ألذاكرة وهوية المكان، تناغم الإيقاع بين المناضل الملتزم والمبدع الملتزم ، فضاء الإنتماء وحدوده، ألغضب بين اللوعة والتحدي، ألموت الذي لا يؤلم الموتى والإصرار على رصد الحياة، دفيئات الثقافة الأصيلة وهويتها، ألمؤامرة على الذات الجماعية، مشروعنا الدمقراطي التقدمي، ومراجحات مقتضبة في السياق الفلسطيني والعربي والشرقي والهوية الفكرية.

*********
بعد النكبة إضطرّت الثقافة في وطننا أن تعود لتتناول البديهة وأول العرف...
مشروعنا الثقافي بدأ بأن يبقى إسم صفورية المهجرة إسما لمناخها الباقي وليس تسيبوري، وأن يبقى إسم لوبية وليس لافي، وأن يبقى اسم البروة وليس مجرد أحيهود وأن يبقى اسم ميعار وأن يبقى الجرمق  :غرة فلسطين جرمقا وليس ميرون، أن تبقى الأسماء مدخلا إلى الذاكرة لتكون الذاكرة مدخلا إلى حق العودة في يوم ما... آت بالضرورة...

وجدنا ثقافتنا مضطرة لأن تدافع عن المسميات الحقيقية وعن الذات المغيبة.. عن الزعتر والسماق .. وعن الأشواك البرية وعن مأكولاتنا الشعبية التي واجهت تدحرج حبة الحمص في باريس مثلا على انها طبق تراثي توراتي ، وعن دبكتنا التي واجهت تهجينا غريبا.
هكذا يأتي زمان يعود فيه الزمن إلى بدايات الأشياء...
هناك حديث للمتثقفين عن ثورة إفتراضية خارج السياقات الضرورية، وهناك حديث الدفاع عن البدايات والبكارات وعن البدائيات وعن بداوة الاشياء وأوليتها...
للإبداع موعده…… ما الإبداع والثقافة المطلوبة في لحظة إنطلاق الشاحنة المحملة باللاجئين المحتملين لقذفهم من مناخهم خارج الحدود...؟
المطلوب أن يقذف المناضل بجسده في وجه الشاحنة، وبعده ينطلق الشعر في قصيدة والتشكيلي في لوحة والمتشائل في لوعة…
حتى وقوع النكبة كنا مثل كل شعوب الأرض نعيش في المكان كوسيلة وفضاء لمحاولة بناء حضارة ما ، منذ النكبة وجدنا أنفسنا نداري على المكان، ليس ليبني الدوري والسنونو عشا في جنباته وحسب، انما ليعشش هو فينا ، وجدنا أنفسنا نعيش في المكان والمكان يعيش فينا، وفلسطين مكان ككل الأمكنة ولكنها مكاننا في سياقنا.
وكما هو معلوم لكل مثقف مبتدىء :الزمان والمكان ليسا مقولتين جامدتين إنما هما حالتان في الديالكتيك حسب هيجل وماركس في علوم المجتمع، وحسب آينشتاين في علوم الطبيعة.
ووجدنا أنفسنا نردد ما همسه صارخا في آذاننا في ساحة عامة، ذلك النصراوي الجميل  توفيق زياد : نحن نعرف أننا لسنا أفضل شعب في العالم ولكن لا يوجد في العالم شعب أفضل من شعبنا.  
فرسخت معادلة الانتماء الشامخ حتى السماء السابعة ،لكن بعيدا عن التعصب الذي يتحول الى عصابة على أعين أصحابه.
 ووجدنا أنفسنا بصدد بناء موقف وثقافة وقيادة تحمي الناس ولا تحتمي بالناس...
ووجدنا انفسنا نتشبث بالأمل وبالحتمية التاريخية، لنحافظ على التوازنات الحضارية في معادلة  شبه مستحيلة
يا بلادي أمس لم نطف على حفنة ماء
                       ولدا لن نغرق الساعة في حفنة ماء

هكذا هتف توفيق زياد بعد هزيمة 1967.
" هنا... على صدوركم باقون كالجدار
نجوع،    نعرى،   نتحدى
ننشد الأشعار
ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الاطفال جيلا ثائراً
وراء جيل
كأننا عشرون مستحيل
في اللد والرملة والجليل "
وهكذا طمأن شعبه – شعبنا المقلوع  الىخلف الحدود:
يا شعبي
يا عود الندّ
يا أغلى من روحي عندي
إنّا باقون على العهد
وهكذا هتف إبن الرامة الشاب الأبدي سميح القاسم،
ربما تصلب أيامي على رؤيا مذلة
يا عدو الشمس
لكن، لن أساوم
وإلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم
وهكذا أسرّ إبن البروة وحادي فلسطين ونبعها المتدفق في كل المواسم محمود درويش في آذاننا:
وطني
يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور
ورقة المتفائل
ما كنت أعرف أنّ تحت جلودنا
ميلاد عاصفة
وعرس جداول...
فصاح الناطق بالفلسطينية الفصيحة، غسان كنفاني، من وراء الحدود مبتهجا:
يوريكا.... يوريكا.... وجدت من يقرع جدران الخزان .... وأسبغ على رفاقنا اللقب المدوي: شعراء المقاومة!!
أية مقاومة هذه التي لم تحمل سلاحا، ومن حمل السلاح في بلادنا كان ملعونا ، فلا يحصل على السلاح عندنا... إلا أولاد.... الحكومة..
في حينه رد عليه إبن البروة من داخل الحدود: انقذونا من هذا الحب القاسي!!!
في بداية العام 1986، كنا نجلس سوية في مكتب مجلة الجديد في وادي النسناس في حيفا، وكان خبث المرض قد أتى على جسده، ففلتت مني كلمة عن هول الفراق والمآل المحتوم لمرضه، فأجاب بهدوءه العميق: الموت بذاته لا يؤلم الموتى....
إميل توما، المفكر والمؤرخ الفلسطيني المؤسس، أخذ على كتفيه بعد النكبة ورحيل النخب خارج المناخ، ان يؤكد لنا أننا لسنا مقطوعين من شجرة، فصاغ ملامح الحياة – حياتنا… والحياة التي تضج بالحيوية يسكنها الألم، والألم لا يصيب الموتى.
رصد الحياة والقضية، وأطل خارج الحصار القسري الذي أفرزته النكبة والذي فرضته الدولة لنفينا خارج شعبنا وخارج أمّتنا وخارج لغتنا وخارج عمقنا الحضاري ( فهل صدفة ان يدعو احد أقطاب الصهيونية في العام 1961 إلى إستعمال اللغة العربية العامية في الكتابة الأدبية وتجنب الفصحى)، وأرّخ إميل توما، مطلا أيضا من المنفى الآخر: المنفى الذي أرسلتنا إليه أمتنا وشعبنا لأننا تجرأنا على البقاء في مناخنا، فصهينونا حتى اكتشفونا بعد ال67 فألّهونا، ولم يشفع لنا إلا هتاف إبن البروة: أنقذونا من هذا الحب القاتل.
 نحن لم نكن لا كذا ولا كذلك، كل ما في الأمر أننا كنا نحن.. في جدلية الزمان والمكان والإنسان .
ندافع عن الدائرة المهزومة في هويتنا وعن الدائرة المطاردة في كينونتنا، فكان الطبيعي أن ندافع عن إنسانيتنا وعن أرضنا وعن لغتنا وعن ذاكرتنا وعن مقدساتنا وعن حضارتنا وأن نبقى بشرا إنسانيين....!!
فتحنا عيوننا على هتافه في ساحة " الحسبة "، في بلدي الثاني مسقط رأسي، علماً أن بلدي الأول ليس كذلك.. وعلماً أن ثلث من بقوا في وطنهم هم مهجرون ولاجئون في وطنهم.
ساحة " الحسبة " هي المكان الذي كان يأتي إليه الفلاحون بمحاصيلهم لبيعها في سوق " الدلالة " الحسبة لان الفلاحين لا يأتون لان الفلاحة صودرت مع الارض وتحول الناس الى اجيرين في مساحة تعاديهم قوميا وطبقيا بينما تندس اللغة والثقافة الاخرى في لقمة خبزهم.
وساحة " الحسبة " في حينه كانت تتحول في المواسم الوطنية والسياسية إلى ساحة للإجتماعات الشعبية.
صحونا على هتاف محمود درويش يحمل إبنته- قصيدته التي ضلّت فيما بعد وأعاد لها شيئاً من إعتبارها في إستاد بيروت بعد الإجتياح الأخير والحصار المتواصل إلى الآن على شعبنا وعلى قائده ورمزه:

سجل أنا عربي

وهتف.....
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكني إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
فحذار حذار من جوعي
ومن غضبي
وهتف وهتف….
أنا من قرية عزلاء منسية
شوارعها بلا أسماء
وكل رجالها
في الحقل والمحجر
يحبون الشيوعية
لست أدري إذا كان من الطبيعي أن تسقط الكلمتان الأخيرتان من طبعات العالم العربي للقصيدة..
بل لست أدري إذا كان الناس يحبون الشيوعية ، ولكنني أعرف أنهم يحبون الشيوعيين، الذين قادوا معركة البقاء والأرض والإنتماء، والذين أنشأوا دفيئات الثقافة العصرية وذلك قبل إنشاء دفيئات الزراعة العصرية:
جريدة “الإتحاد” الشامخة ومجلات “الجديد” الأدبية و”الدرب” الفكرية و”الغد” الشبابية، حيث تحولت الأشتال التي احتضنتها هذه الدفيئات إلى عمالقة الإبداع والثقافة العربية والفلسطينية والتقدمية .
ذات يوم، في توالي ربيع 1990، حان موعد إستراحة الغداء في إجتماع سياسي تداولي مطول في عكا، التي لا تخاف من هدير البحر، وهو الذي يلاطمها منذ مدة ليست بالقصيرة، وهي التي تحتضن داخل اسوارها آثاراً وقلاعاً إحداها مؤسسة الأسوارالثقافية، التي ما زالت صامدة رغم ملاطمات الموج.
يومها أصرّ أبو الأمين، " توفيق زيّاد " ، أن نستغل الوقت لتناول وجبتنا المتواضعة في رغيف فلسطيني عند شاطئ البحر، لقد كان أبو الأمين يحب البحر، وللأمانة فإن إميل حبيبي كان متيما به - بالبحر الذي لا تخاف عكا هديره .
بين مشهد الموج المتكسر على أسوار عكا وبين المشهد الفلسطيني المأزوم في بداية نهاية الإنتفاضة الأولى، وبين المشهد الدولي المأزوم في تداعيات الانهيار المدوي للدول الإشتراكية، قال توفيق زيّاد:
خلص، هل يجب أن أموت رئيسا للبلدية وعضوا في الكنيست؟ أريد أن أتفرّغ للكتابة.
لكن المناضل المبدع أو المبدع المناضل لا يملك دائما أن يتفرغ للكتابة، ولا يسمح له بالتفرغ للكتابة، بعدها رحل توفيق زيّاد شاعراً أديباً مناضلاً رئيساً للبلدية وعضواً في الكنيست، وبقيت بالأساس صورته معلقاً من رجليه في سجن طبريا في العام 1958 ماثلة في وعينا المكتسب، وبقي صوته في وجداننا، خطيباً يحرك الحجر في الساحات العامة ويحرض الناس الذين أحبهم على الصمود .... فهل يمكن الفصل بين الشاعر وبين المناضل؟؟
سبقه إلى ذلك أميل حبيبي الكاتب المبدع   صاحب العيون الفلسطينية ،من السداسية الى المتشائل الى اخطية والذي كان ايضا عضواً في البرلمان، وخطيباً لامعاً، ورئيساً لتحرير صحيفة “الإتحاد”..

ما الذي أريد ان أقوله؟؟
لقد تبلورت شريحة متميزة: مناضل داعية لقضية، ومبدع صاحب مشروع ثقافي وطني تقدمي في الوقت ذاته، والأمر ليس مقصوراً على توفيق وإميل بل إنسحب على الكثيرين: محمد نفاع في البرلمان وسميح القاسم محرر الصحيفة ومحمد علي طه في نقابة المعلمين وسالم جبران محرر الصحيفة  ومحمود درويش محرر مجلة الجديد وحنا إبراهيم رئيساً لمجلس بلدي والمعلم- المعلم شكيب (جهشان) حارس اللغة وأحد اعمدة شعرنا الذي غاب منذ زمن غير طويل وغيرهم الكثير.

فما العلاقة بين الثقافة والدفاع عن الهوية؟
هذا هو إختزال العلاقة…

لقد أرادت السلطة الحاكمة في بلادنا أن تنزع الكبد من الجسد بفرضها التجنيد الإجباري على أبناء شعبنا من الطائفة العربية الدرزية، فهل صدفة أن يكون هؤلاء الفلسطينيون محمد نفاع وسميح القاسم ونايف سليم، الذين أبدعوا شعراً ونثراً، هم أول من اختاروا السجن في رفضهم الخدمة العسكرية في جيش القهر؟، وهل صدفة أنهم أول من إنحازوا إلى بطولات حمزة في مواجهة جاهلية هند؟؟.

فما العلاقة بين الثقافة والدفاع عن الهوية؟
هذا هو إختزال العلاقة...

كيف لم تمت البروة بعد أن هدمت؟
بدرويشها حادي القافلة، العصري حتى أعالي الأفق، والجذري حتى نواة كرة الأرض الملتهبة.

وكيف لم تمت ميعار بعد هدرها؟
بأبي علي – محمد علي طه، خيّال الحصان، الذي حفظ تضاريسها في عبه وورّثها لفلسطين، وعندما أهدى وردته لعينيّ حفيظة لاحقته مخابرات دولة اسرائيل ، وعندما بكى تل الزعتر لم يقو على مكافحة الغياب واللجوء إلا باستحضار بلدياته الذي أصرّ على أن يكون عائداً، عائد الميعاري الذي يبيع المناقيش في تل الزعتر.

وحيفا سلم الكرمل
وبسملة الندى
وعلى سفحه المطل على كفر سمير على بعد شربة سيجارة من الطنطورة يرقد إميل توما وإميل حبيبي الذي أصرّ أن يكتب على ضريحه:
باق في حيفا....

فما العلاقة بين الثقافة والدفاع عن الهوية ؟
هذا هو إختزال العلاقة...

وعندما استلّ قلمه بين مظاهرة واجتماع، بين عريضة ومهرجان، لم يقو محمد نفاع إلا أن يهيم على وجهه عند ظلال الجرمق ليرصد في حكاياته كل زهرة وكل نبتة في فلسطين، ليرصد لغة الناس التي تواجه " الماكدونالد " و " البسيدر ".
لقد أبدى استعداداً فورياً للكتابة عن الحب والزهور، عندما سئل سميح القاسم من قبل احد الكتاب اليهود لماذا لا يكتب عنهما ويكتب عن المواضيع السياسية...
أجابه سميح بما معناه، كيف أكتب عن الحبيبة وأنا غير قادر على لقاءها بسبب الإقامة الجبرية المنزلية المفروضة علي؟، وكيف أكتب عن الزهور بمعزل عن مصادرة الأرض التي تنمو فيها ؟.

فما العلاقة بين الثقافة والدفاع عن الهوية؟
هذا هو إختزال العلاقة...

في وهيج العزلة أنشدوا للجزائر وللسد العالي ولليمن ولبغداد وبكوا مع بيروت، أنشدوا لكوبا وللثورة وغنوا لفيتنام حلقوا مع لومومبا وجمال عبد الناصر وكاسترو وجيفارا وهوتشي مين وأييندي، غنوا لأفريقيا مع قارع الطبل الزنجي في الإحتفاء بحرية القارة السوداء...
هذه هي العلاقة بين الثقافة والدفاع عن الهوية.
مشروعنا هو مشروع حضاري متكامل ، هو مشروع دمقراطي شعبي ولو لكونه لم ولن يملك السلطة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة إنما لأن

مأساتي التي أحيا
نصيبي من مآسيكم
ومشروعنا هو مشروع قومي في وجه الهجوم على فلسطينيتنا وعروبتنا، وهو مشروع في وجه الهجوم على ملامح الأشياء، وهو مشروع طبقي إقتصادي لتدعيم البقاء وفي مواجهة الإجهاز على مقومات وجودنا المادية، هو مشروع إنساني تقدمي في وجه الصهيونية في سياقها العنصري الإقليمي وفي سياقها الإمبريالي المدجج بأمريكا التي تشن هجوماً على المنطقة وعلى مقدراتها، وآخر ملامحه مداعبة قضية فلسطين من خلال خارطة طريق تقود إلى تقبّل اغتصاب العراق وتقليم أظافر قضية فلسطين الناشبة في عنق المشروع الأمريكي في المنطقة.
مشروعنا بلغة الأشهر الأخيرة هو نقيض مشروع باول حول الشراكة مع الشرق الأوسط، وإشاعة مفاهيم الدمقراطية الإمريكية في شرقنا، ورصد 28 مليون دولار كدفعة على الحساب تدفعها “الجمعية الخيرية” المسماة أمريكا لصالح المسمى ( ليس بالضرورة ان لا يكون مصدر الكلمة من السّم )، مؤسسات المجتمع المدني.
مشروعنا هو نقيض سوق التجارة الحرة في الشرق الأوسط الذي اطلقه الخليفة بوش بن بوش بعد عدوانه على العراق، سوق حرة لدرجة أن يشتري الشرق بضائع أمريكا معفية من الضرائب والمكوس لتقويض الإنتاج المحلي، ولدرجة أن يشتري الأمريكان نفط الشرق معفيا من الضرائب والمكوس والرسوم ليصنّعوا به بضاعة أمريكية تباع للشرق معفية من الضرائب والمكوس وهكذا، حتى انقطاع النفس في الشرق: خيرات خاوية وسوق إستهلاكية، أو قل: سوق نخاسة.

مشروعنا هو نقيض المشروع الصهيوني، وهو يتمثل في بقائنا أولاً وصيانة شرعيتنا لدعم حقوق شعبنا، وللقيام بدور مؤثر على المجتمع والسياسة في إسرائيل، وأي تزاحم أو تسلل إلى الإنعزالية بإسم القومية أو الأصولية سيخلق حالة طوعية تضعنا خارج السياق، بما ينسجم مع المشروع الصهيوني التهميشي والاقتلاعي ، وبالمقابل فإننا نفهم مواطنتنا كحقيقة نابعة من إنتماءنا للوطن وليس من الإرتزاق الذليل والتبعية المذلة للمؤسسة الحاكمة في بلادنا.
ولذلك فإن مشروعنا لا يملك إلا أن يكون دمقراطيا ووطنيا وتقدميا، لا يتلفع بقومية تقود إلى الإنعزالية في السياق العام أو إلى بغاء الوسطية في سياقنا من جهة ، ولا أصوليا يمارس الإقصاءات والتكفير والتحريم وكسر جهاز المناعة الشعبي من جهة ثانية، ولا لبرالياً يمارس بغاء اختزال البعد الاجتماعي ويمارس بغاء السوق الحرة في القيم والإقتصاد والثقافة من جهة ثالثة.
وهكذا فإن الثقافة في مشروعنا ليست مشروع وعظ وليست حلقة ذكر وليست جمعية ، إنما مشروع مقاومة واع متداخل مع التاريخ ومع السياسة ومع الاقتصاد ومع الإبداع ومجدول بأفق المستقبل.
إن ظروف الحمل الذي ولّد مشروعنا لم تكن طبيعية، إلا إذا كانت النكبة هي الأمر الطبيعي.
هنالك من يحاول في غفلة من الزمن، وفي سياق قلة دراية المتلقي، أن يصور مشروع الصمود والبقاء على أنه ولد بلا رحم ولا حمل، الأمر الذي يقود إلى نتيجة مفادها أن بقاءنا وقامتنا هما أبناء أنابيب مختبرية وإفراز لكرم أخلاق المؤسسة الصهيونية الحاكمة.
سيأتي زمان نلخص فيه تجربتنا في سياقاتها الداخلية أيضا، في سياق التحولات الطبقية:من مجتمع فلاحي الى مجتمع اجيرين وفي سياق أموال الصمود يليها الأخضر الأمريكي الذي أفرز بعض المزهريات البلاستيكية التي دلفت على عريشتنا، وحيث لم تنجح في الإغتيال دأبت على الإنتحال، وحيث لا هذا ولا ذاك سرقت مصاغ العروس إعتقاداً منها أن المصاغ نفط أخضر أيضاً.
أو كما صاغها صديقنا الطبعوني في مرحلة متأخرة:
يتأرجحون فوق التيار
وبعصبية زائدة
يثرثرون عن فشل
قانون الطبيعةالفائضة
وعن عولمة الولاء
ويرطنون في البنوك المتصهينة
علانية
إن بقاءنا هو الشاهد على المجزرة وعلى النكبة وعلى هوية البلاد، وهو الشاهد عند رأس ضريح الشهيد في قبيه ودير ياسين، حتى كفر قاسم حتى يوم الارض حتى تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، وحتى جنين.
قبيل تحقيق مشروعها بإقامة الدولة، دعت الصهيونية الى إحتلال الأرض واحتلال العمل واحتلال السوق…
 لم يقولوا إحتلال الذاكرة…. الثقافة ليست سردا من الذاكرة ولكن لا ثقافة أصيلة بدون ذاكرة أصيلة والثقافة مطالبة بتطوير ادواتها ليس باعلان الحرب على التقنيات التي تزحف بأطراد للحلول محلها انما بأمتطاء التقنيات لترسيخ الثقافة  .
**********
عندما ألقى عليّ هذا الممنوع من الصرف، يحيى يخلف، مهمة المشاركة في أعمال هذا المنبر الهام والشامخ، وحدد لي عنوان المشاركة تساءلت: أيهما أوّل الثقافة ومعركة الدفاع عن الهوية أم معركة الدفاع عن الهوية والثقافة؟؟
 إنّ السليقة الفكرية تقودني إلى الصياغة الثانية، ولكن الحقيقة أن الدفاع عن الهوية هو ثقافة بذاتها.
فهل هو" تفاح أنجن " حيث أسميته في كتابتك يا يحيى تأدباً وثقافةّ: " تفاح المجانين "، وهو ثمر بري ينمو قريباً من الأرض ولا يتأرجح في الريح وهو عطر إلى حد الجنون ، وكانت والدتي قد حذرتني في طفولتي " دير بالك… تفاح إنجن اللي بيوكلو بينجن".
أم أنه الفريسة الإفتراضية للضبع الجليلي المنقرض، الذي يطقّع بذيله ليستحوذ على حواس فريسته الآدمية ويستدرجها إلى مغارته ليجهز عليها.
أيهما الثقافة التي تصون الهوية؟ تفاح أنجن بعطره والتصاقه بأرضه وليس بشهوته؟، أم فريسة الضبع التي تأبى الإنغواء بتطقيع ذيله.
هذا وذاك.... أردناها  ثقافة تحيى لتخلف من سبق ولتخلّف لمن يلحق.

القاهرة 24/7/2003 

رئيس مجلس الجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة، عضو الكنيست الاسرائيلي









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في شمال كوسوفو.. السلطات تحاول بأي ثمن إدماج السكان الصرب


.. تضرر مبنى -قلعة هاري بوتر- بهجوم روسي في أوكرانيا




.. المال مقابل الرحيل.. بريطانيا ترحل أول طالب لجوء إلى رواندا


.. ألمانيا تزود أوكرانيا بـ -درع السماء- الذي يطلق 1000 طلقة با




.. ما القنابل الإسرائيلية غير المتفجّرة؟ وما مدى خطورتها على سك