الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية الشاهد : الممثل ، حينما يتماهى مع نصه

خالد السلطاني

2007 / 3 / 14
الادب والفن


يتميز الصنيع المسرحي بخلاف الاجناس الابداعية الاخرى ، كونه " ينتج " آنيا ً وبكثير من التلقائية التى تمنحه حيوية ما بعدها حيوية ، يشترك في التمتع بها الفنانون انفسهم ، والنظارة : مشاهدو العرض المسرحي والمتابعون لاحداثه . وهذه السمة المميزة للمسرح آهلته لان تكون مساهمته في اثراء تنويعات المشهد الثقافي العالمي ذا اهمية بالغة ، ظل المسرح يحتفظ بها منذ القدم وحتى وقتنا الراهن ،وسيظل ، كما نعتقد ، يثري تلك التنويعات الى زمن مستقبلي قادم ، طالما هناك من يروم ان " يعبر " في اختزالية مشوبة بهاجس فني عال عن احوال الناس وتصوراتهم وتطلعاتهم ، ويسكبها بقالب مؤثر تتيح له ان ينهض بالحدث العادي المعاش الى مصاف المنتج الفني الجمالي . ويدرك منتسبو " المسرح الرافديني " تياتر ميزوبيتاميان " في " مالمو " تلك الخصائص المميزة للمسرح ويعوا اهدافه بشكل مقنع ؛ وهم لذلك يسعون وراء انتشار قيم مسرحهم الجاد في صفوف جمهور من العراقيين والعرب القاطنيين بالمهجر . وما مسرحية " الشاهد " التى عرضت مؤخرا في المدينة السويدية ( تأليف : فاروق محمد ، تمثيل د. اسعد راشد ، واخراج حسن هادي ) ،الا مثال واضح لذلك المسعى النبيل الذي اضطلع به " تياتر ميزوبيتاميان " . لقد اتسمت مسرحية " الشاهد " على خصوصية مميزة باقتصار عرضها على ممثل واحد ، أُريد به عن طريق تكثيف الحدث المونودرامي وبالتساوق مع ادوات المسرح الاخرى اجتراح هدف مزدوج غايته ايصال رسالة محددة الى الجمهور ، في الوقت الذي يستمتع الجمهور ذاته في متابعة تحولات الممثل الحسية التى يكابدها امامهم وهو في غمرة انشغاله باداء دوره المعبر وتلاوة نصه المميز .
تتحدث المسرحية من خلال اداء الممثل الوحيد عن شهادة لاحداث دراماتيكية مرت على مدينة كان الممثل شاهدها ومشارك في احداثها : ثمة كائن عمل مساعدا لملاك الموت المتجسد بالطاعون الذي غزا تلك البلدة واحال بعض سكانها الى مجرد موتى ، والبعض الاخر الى مجرد منتظرين لموت آت لا ريب فيه . وفي هذه الاجواء الملحمية التى يتعرض لها الناس وهم في موقف مباشر امام سطوة الموت يتلو الممثل شهاداته ومشاهداته ، مع " سيده " الذي لا يقهر ؛ ويصف لنا ، نحن النظارة ، بكلام عادي ومفهوم عمله غير العادي والعصي على الفهم والادراك .
لا يمكن ان تكون مسرحية " الشاهد " الا مونودراما ، وبعكسه سيفقد الكلام الملقى قوة تأثيره على المشاهدين ، الكلام الذي اريد له ان يكون مباشرا وصريحا ومعبرا ومؤثرا ؛ ذلك لان الاحداث الجسام التى مرت على المدينة لا يمكن سردها لهولها وفضاعاتها الا بكلام مباشر يستدعي حضور المخاطب بغيابه ؛ فالممثل الوحيد منهمك في تلاوة نصه حدّ التماهي ، وهو يقف امام النظارة مجردا تقريبا ً من كل ادواته الا نصه الذي به تتجلى سطوته وقوة تأثيره على جمهوره المصغي لذلك النص المحكي المنطوق قولا وليس فعلا ؛ الواصف للمصائب التراجيدية التى خلفها الطاعون في انتشاره الكاسح على مدن بعينها . فالنص ، هنا ، كلام ، وليس حوار ، ذلك لان الحوار يستوجب حضور محاور، وهذا قد يحيل المتلقي الى محض مصغٍ ربما يسهو عن متابعة ما يجرى من حوادث تتفاعل امام ناظريه . ولهذا ينطوي الكلام في " الشاهد " على تلوينات القائية وتلقائية اريد بها شدّ النظارة نحو مايقوله الشاهد الوحيد : الممثل الوحيد .
ثمة جهد كبير بذله " اسعد راشد " ممثل دور الشاهد في " تقمص " بطله الراوي والرائي والسارد لتلك الاحداث الملحمية التى استمر بالقائها طيلة سبع وخمسين دقيقة هي مدة العرض المسرحي على جمهوره المكون اساسا من عراقي المهجر وبعض المهتمين من العرب والسويدين . كان حضور " اسعد " على خشبة المسرح طاغيا ً ، ليس بباعث كون العرض مونودراميا ً يعتمد على ممثل واحد ، وانما بسبب المَـلكـَة التمثيلية العالية التى بحوزة الفنان . وقد اسهمت طريقة الالقاء الصافية ونبرة الكلام المتغيرة طبقا لتغيير الحالات المشخصة وسهولة تحركه على الخشبة حد التلقائية المدهشة ، اسهمت في تكريس ذلك الحضور وابانت تميزه المقتدر وآهليته للدور المركب كثيرالتعقيد الذي اضطلع بادائه .
ولئن اتفق كثر من المشاهدين ، وانا احدهم بالطبع ، على حسن اداء اسعد التمثيلي ، فان ذلك الاداء لم يكن حاجزا امام التلذذ بقوة النص المسرحي وجرأته ؛ وانا اتكلم عن " متعة " النص ، تلك المتعة التى ينشأها ذلك الكلام المنطوق من قبل الممثل والمسموع من قبل النظارة : النص الفخيم الصافي ، المركز والمفهوم والواصف بدقة لهول الاحداث المروية والسارد لوقائعها الرهيبة . ولهذا فان " اسعداً " وفي تماهٍ كامل مع نصه ، يحجم احيانا عن اظهـار قوة " صنعته " التمثيلية فاسحا ً المجال واسعا اما النص وحده لتحقيق التأثيرات المطلوبة . في كثير من المشاهد " يغيب " الممثل توطئة لحضور النص . وهي علامة ايجابية ، في اعتقادنا ، عملت لصالح المسرحية ولصالح الممثل ذاته وقدرته المميزة بلا ريب ، في " اختلاق " تنويعات متباينة للعرض المسرحي ؛ تلك التنويعات التى وددنا ان يكون حضورها في العرض المسرحي حضورا ً بليغا ومؤثرا . فعلى سبيل المثال كان يمكن ان تكون الحركة الراقصة التى وردت في سياق العرض، حركة اساسية وليست هامشية وان تحظى باهمية " الفاصل " وتنويعاته التى تقطع مجرى السياق وتبعد عنه الرتابة . كما وددنا ان يكون ثمة توظيف مناسب ، تقتضيها خصوصية العرض المسرحي ، للمقاربة " الميرخولدية " في اهتماماتها بحركة جسم الممثل تعبيرا عن مختلف الاحاسيس التى يؤديها اثناء اداء دوره المسرحي ، اذ ربما اغنت مثل تلك التوظيفات تنويعات المشاهد المسرحية واكسبتها رصانة مضافة ، ومنحت انتقالاتها مزيدا ً من الحيوية والتشويق .
واذ اسلمنا الرأي مع " اسعد راشد " بوجوب ان تكون عناصر مسرحه بسيطة وسهلة الحمل وقابلة لان تخزن في حجم حقيبة واحدة ليكون امر انتقالها من مكان الى اخر ومن بلد لاخر ميسرا وسهلا ، فاننا نعترف مع هذا بان تلك العناصر كانت شحيحة في قيمتها الفنية وانطوت على بساطة عادية حد السذاجة ، ولم يكن منتجها متساوقا مع قابلية الممثل وقيمة نصه الرائع . ونحن نتكلم عن ادوات الديكور وبقية عناصر السينوغرافية وكذلك اسلوب الانارة والموسيقى ، وخصوصا الموسيقى التى لم تكن موفقة في اختياراتها ، ولم تكن مقنعة كثيرا في مواكبتها لنوعية الاحداث الدراماتيكية الغاصة باحداثها خشبة المسرح . كما لم نلمس ثمة اجتهاد ملحوظ في العملية الاخراجية . بيد ان الاشارة الى تلك الملاحظات لا يمكنها باي حال من الاحوال ان تقلل من الجهد المبذول من قبل منتسبي " تياتر ميزوبيتاميان " في تنظيمهم للعرض المسرحي الناجح بكل المقاييس اذا اخذنا في نظر الاعتبار اشتراطات المكان وخصوصية العمل المسرحي المهاجر ، ذلك العرض الذي ابانوا به عن امتلاكهم لاحترافية متقنة ومهنية عالية . لقد عبروا بوضوح عن انتمائهم لمسرحهم الجاد ، المسرح الذي ما انفك يعتبرونه واحدا من الروافد العديدة التى تصب في مجرى المنجز المسرحي العراقي المميز . < كان العرض المسرحي مكرّس ، بايماءة كثيرة المعنى ، الى ذكرى فقيد المسرح عوني كرومي > .
ومع الاقرار بنجاح " مسرحية الشاهد "، فثمة " غصة " مؤلمة يظل تأثيرها قويا لجهة عدم تساوق الجهد المبذول في اعداد المسرحية مع واقع عدد الحضور المقنن والمتواضع الذي شاهد العرض المسرحي . فالعمل المضني والشاق الذي رافق العرض والاستعدادات الكثيرة العسيرة والمتعبة لما قبل العرض ، كان يمكن ان تكافأ بحضور عدد مقبول من المشاهدين كي تستقيم معادلة " وجود المسرح بجمهوره " . لكن من اين لهم ان يجدوا جمهورا مناسبا ؟ فهذه الاشكالية هي جزء من معاناة واقع مبدعي المهجر والتباساته . يعيب البعض على العراقيين كرههم الشديد والدائم للنظام الديكتاتوري التوتاليتاري الصدامي لمسؤوليته في تشتت مثقفيه ومبدعيه ونفيهم بعيدا عن وطنهم . وحال مبدعي " المسرح الرافديني " هي احدى الحالات الكثيرة والمتشعبة لما اقترفه ذلك النظام الظلامي من نهج دائم في وأد الثقافة الرفيعة وانتهاك حقوق مبدعيها .
ان مسرحية " الشاهد " صرخة قوية ومسموعة في وجه الديكتاتورية ، انها تذكير للجميع بآثامها المرعبة تجاه الوطن ومبدعيه . □□








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-