الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الماركسية أم الماركسية اللينينية ؟ الجزء الثالث

امال الحسين
كاتب وباحث.

(Lahoucine Amal)

2007 / 3 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


إن الحركة المعرفية عبر تاريخها الطويل تتدحرج بين المنظومة الفالسفية المتسمة بالإتجاه المثالي و المنظومة الفلسفية المتسمة بالإتجاه المادي ، و هما في تعارض و تناقض و تصارع مستمر منذ أزيد من 2000 سنة بعد بروز الفلاسفة اليونانيين ، و عرفت الفلسفة اليونانية تناقضا صارخا بين المثالية و المادية ، و لا شك أن ذلك راجع إلى الجذور التاريخية للفكر الخرافي و الديني المسيطر لآلاف السنين في الحضارات الشرقية و الغربية على السواء ، و الذي وجد تعبيراته في الحضارات الصينية و الهندية و الفارسية المصرية و اليونانية و الرومانية و الأوربية الفيودالية فيما بعد ، و هذا التناقض يجد مبرراته كذلك في القوانين الطبيعية التي تحكم الحركة بصفة عامة و المتمثلة في صفتي الوحدة و التناقض ، هاتان الصفتان الملازمتان للحركة المعرفية إلى يومنا هذا و التي تجد تجلياتها في الصراع القائم بين المؤسسة الدينية و الممارسة السياسية في إطار الدولة البورجوازية ، فرغم أن الأنظمة التي تسمى نفسها ديمقراطية تدعي العلمانية بعد انتصار الثورة البورجوازية إلا أن الفكر الديني ما زال حاضرا في الممارسة السياسية ، و الذي يعرف في الآونة الأخيرة بروزا خطيرا مع وصول المحافظين الجدد إلى السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية .
إن دور التفكير الفلسفي هام في دحض التفكير الخرافي السائد منذ القدم بجعل الإنسان يتخلص من الشكل الخيالي للأسطورة و بدئه في التفكير تفكيرا منطقيا ، و لن يتأتى له ذلك إلا عندما تمكن من مجموعة من القواعد المنطقية و على رأسها التمييز بين الخاص و العام ، الوحدة و التنوع ، الضروري و الصدفة ، و لم يتوصل الإنسان إلى هذا المنطق العقلي إلا عندما حصلت قفزة نوعية في المجتمعات البشرية و حصول استقرار نسبي في هذه المجتمعات ، ذلك ما حصل بعد بروز العمل الحرفي و التبادل التجاري و تأسيس أنظمة سياسية و تنظيم القطاعات الإجتماعية كالتعليم و غيرها ، و بدأ الإنسان يحتكم إلى العقل في تعامله مع الطبيعة في محاولة لتفسير كنه الأشياء و في تعامله مع غيره من النشر في محاولة لوضع قوانين تؤسس لعلاقات الإنتاج ، و أصبحت الفلسفة نفيض الفكر الخرافي تبحث عن جوهر الأشياء في ظواهرها من أجل حصره و ضبطه بتجريده عن ظواهره و دفع هذا التجريد إلى حده الأقصى ، و ذلك من خلال البحث عن مصير الكائنات باعتبار أن جميع الكائنات تشترك في جوهر واحد يجب البحث عنه من أجل معرفة سر الوجود ، الشيء الذي نتج عن ذلك محاولة البحث عن مفهوم المطلق الشيء الذي ساهم في تأسيس الفكر الميتافيزيقي ، لكن دون الوصول إلى نتيجة تذكر باعتبار أن إشكالية البحث عن المطلق في حد ذاتها خاطئة .
هكذا ظهر الإتجاه المثالي في الفلسفة الذي اعتبر أن جوهر الأشياء لا ينتمي إلى العالم الحسي و أنه يوجد خارج عالمها و بذلك تم وضع فصل تام بين الجوهر و ظواهره ، و أن هذا الجوهر لا ينتمي إلى الأشياء في ظواهرها بل إلى عالم الفكر و الروح و خارج عالمها المحسوس ، لكن التناقض الموجود في هذا الإتجاه هو كيف يمكن للجوهر الذي ينتمي إلى عالم خارجي أي يكون جوهرا لظواهر حسية ، و كيف يمكن أن يكون ثابتا و هو جوهر لظواهر مليئة بالحركة ، تلك تناقضات الفكر الفلسفي المثالي الذي سيتم مجابهته بالفكر الفلسفي المادي الذي تزعمه ديمقريطس و أبيقور في مواجهة سقراط و أفلاطون ، هذا الإتجاه الذي ينكر وجود الجوهر و يعتبره عبارة عن تجريد فارغ و أن الأشياء المحسوسة هي كل شيء ، و وقع هذا الإتجاه المادي الكلاسيكي في تناقضات لا تقل أهمية من تناقضات المثالية إذ كيف يعقل أن تتمتع الأشياء الملموسة بصفة الوجود لوحدها ، في حين تبقى الأشياء المجردة عبارة عن فراغ لا يعكس أي شيء ذلك ما يتناقض مع تجاوز المعرفة الحسية عن طريق المعرفة العقلية ، و استمر هذا التعارض و التناقض بين هذين الإتجاهين إلى أن جاء أرسطو الذي حاول التوافق بينهما .
و يرى أرسطو أن كلا الإتجاهين يحتوي على جوانب صحيحة و جوانب خاطئة محاولا التخلص من الأخطاء التي يتضمنهما الإتجاهين ، و كان انتقاده يرتكز بالنسبة للمثالية على نكرانها لوجود الجوهر في العالم المحسوس و بالنسبة للمادية على نكرانها لوجود الجوهر أصلا ، و حاول إيجاد صياغة توافقية بين المثالية و المادية باعتبار أن الجوهر يمثل ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة ، بحيث لا يمكن وجود صورة يدون مادة كما أنه لا يمكن وجود كائن بدون جوهر ذلك لكون الصورة تعطي للمادة شكلها و الجوهر يعطي للكائن هويته ، و رغم أنه وحد بين الصورة و المادة إلا أنه لم يطابق بينهما حيث يهمل المميزات الخاصة عندما يتعلق الأمر بعدة أشياء ، حيث يعتبر الصورة كل شيء على اعتبار أن الأشياء تزول بينما الصورة تبقى بعد فناء الأشياء ، و بالفعل صمدت المنظومة الفلسفية لأرسطو 15 قرنا إلى أن جاء ابن رشد في القرن 12 الذي اكتشف التناقض القائم في منظومة أرسطو الفلسفية .
و كانت إسهامات ابن رشد في الفلسفة تتجلى في اكتشف أن المنظومة الفلسفية لأرسطو تحمل تناقضا صارخا و الذي يتجلى في كون أرسطو ميز بين الصورة و المادة ، الشيء الذي عرض نظريته للتأويل في الإتجاه المثالي كما هو الشأن في الإتجاه المادي و عمل على بناء مفاهيمه الفلسفية في اتجاه الفكر المادي ، لكن اجتهادات ابن رشد ستعرف معارضة من طرف الإتجاه المثالي لفلسفة أرسطو الذي تزعمه الفيلسوف الأيطالي طوماس الأكويتي ، الذي عمل على تأويل المنظومة الفلسفية لأرسطو تأويلا مثاليا و دمج أفكار أرسطو في اللاهوت المسيحي ، و أصبحت الفلسفة الرسمية للكنيسة الكاتوليكية في ظل الأنظمة الفيودالية الأوربية و أصبحن في تناقض مع المفاهيم الفلسفية لابن رشد ذات الإتجاه المادي الذي يهدد كيان الأنظمة الأستبدادية بأوربا ، و كان الهدف من الفلسفة المثالية للأكويني هو محاربة الفلسفة المادية لابن رشد التي عرضها للتشهير في أوربا ، و كان الصراع القائم في أوربا ما قبل النهضة يرتكز إلى التعارض و التناقض بين فلسفة الأكويني المثالية و فلسفة ابن رشد المادية .
و نشأ الصراع مرة ثانية بين المثالية و المادية قبل النهضة الأوربية إلا أن الحركة الإجتماعية المتنامية بعد ما عرفته القوى المنتجة من تطور في القرن 14 ، التي مهدت الطريق لعصر النهضة بعد بروز العمل المأجور و تطور الرأسمال التجاري وبروز نمط الإنتاج الرأسمالي ، الشيء الذي أصبحت معه البورجوازية الناشئة في حاجة ماسة إلى بلورة مفاهيمها و منظومتها الفلسفية ، من أجل بناء علاقات الإنتاج البورجوازية كانعكاس ضروري لتطور القوى المنتجة ، و لم يجد المفكرون البورجوازيون لعصر النهضة إلا المفاهيم الفلسفية لفكر ابن رشد كسلاح في حربهم ضد الكنيسة الكاتوليكية في ظل النظام الفيودالي ، و لعب طوماس الأكويني دورا في الرجوع بفلسفة أرسطو إلى الوراء حيث اعتبر انفصال الصورة عن المادة مع امكانية فناء المادة و بقاء الصورة ، التي لها القدرة على الإستمرار في الوجود رغم زوال مضمونها ، و قال بأنها لا يمكن أن تلتصق بالمادة إلا بواسطة الإله غير الفاني ، بينما فدم ابن رشد نظرية أرسطو إلى الأمام حيث قال أنه لا يمكن للمادة التي تشكل وحدة مع الصورة أن تفنى و تبقى الصورة غير فانية ، فإذا كانت المادة فانية فإن الصورة بالضرورة فانية ، و لا يمكن أن تستمد الكائنات المادية صورها من العالم الخارجي ، و اللجوء إلى الله في هذه الحالة لا يفيد شيئا ، لذا وجب البحث عن الصورة في المادة نفسها .
إن إسهامات ابن رشد أزالت الحاجز الذي وضعته فلسفة أرسطو بين المادة و الصورة و أعاد الإعتبار مرة أخرى للجوهر الكائن في المادة نفسها ، الشيء الذي لم يفلح فيه أرسطو عندما حاول معالجة تناقضات المادية الكلاسيكية عندما وقع في تناقض الجوهر الخارج عن الظواهر ، مما عصف بفلسفته التي أولها طوماس الأكويني لتسخيرها لصالح الكنيسة الكاتوليكية و الأنظمة الفيودالية الإستبدادية ، و رغم أن الفلاسفة البورجوازيين في نقدهم لفلسفة ابن رشد يعتبرون أنه لم يضف أي جديد لفلسفة أرسطو حيث اكتفى بشرح تناقضاتها ، إلا أنه رغم ذلك فشرحه لأعقد منظومة فلسفية لفيلسوف كبير و هو أرسطو ليس بالشيء الهين في حد ذاته ، و لكن أطروحة ابن رشد تجاوزت في الحقيقة شرح فلسفة أرسطو بعد أن أوضح التجاوز التاريخي لمنظومته الفلسفية ، حيث استحالة التوافق بين المثالية و المادية التي سعى أرسطو للوصول إليها و وقع في نفس أخطاء المثالية حيث جرد الصورة عن المادة ، الشيء الذي سهل تأويل فلسفته في اتجاه المنظور المثالي للوجود كما فعل طوماس الأكويني الذي أعاد الفلسفة إلى الوراء و بالتالي تركير الإستبداد الذي ساد أوربا القرون الوسطى .
إن ما تمت الإشارة إليه سابقا يحيلنا إلى التوصل إلى أن المادية و المثالية يستحيل التوافق بينهما و أن التناقض بينهما هو تناقض تناحر ، و لذلك من الصعب خلق توافق بين التناقضات الأساسية بين المادية و المثالية حيث أن أي توافق يمكن احتماله مشروط بعدم وجود صفة التناحر بين المتناقضان ، ذلك ما أكده التناقض التناحري بين فلسفة ابن رشد المادية و فلسفة طوماس الأكويني المثالية ، و رغم تحامل المفكرين البورجوازيين بأوربا على فلسفة ابن رشد فإن صفة التناقض التي تتصف بها كل المجتمعات البشرية ستنصفه ، و ذلك لأن أوربا كما أنجبت المفكرين البورجوازين استطاع إنجاب المفكريين الماركسيين الذين أعادوا لفلسفة ابن رشد اعتبارها ، لكن ابن رشد لم يستطع التخلص تماما من الفكر المثالي الذي ظل ملازما لأطروحته حيث لم يحسم موقفه من أصل المادة ، و ظل يتأرجح بين الأصل المادي للعالم و بين أصله الروحي كباقي الفلاسفة الماديين الأوربيين العاجزين عن القطع مع المثالية ، و لم تتحقق تلك بين المثالية و المادية إلا بعد ستة قرون من وفاة ابن رشد ، و ذلك في القرن 18 مع بروز فلاسفة الأنوار الماديين الفرنسيين .

تارودانت في : 18 مارس 2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزب الله يهدد باستهداف مواقع جديدة داخل إسرائيل ردا على مقتل


.. المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي يبحث اليوم رد حماس بشأن الت




.. مصادر فلسطينية: ارتفاع عدد القتلى في غزة إلى 38011 | #رادار


.. الناخبون البريطانيون يواصلون الإدلاء بأصواتهم لاختيار الحكوم




.. فرنسا.. استمرار الحملات الانتخابية للجولة الثانية للانتخابات