الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النمو بطريقة طبيعية

ممدوح رزق

2007 / 3 / 21
الادب والفن


حاول أن تتذكر .. في ماذا كنت تفكر لحظتها ؟

كان بإمكان المار أمام كشك تعبئة مواقد الغاز الصغيرة أن يتأكد من وعيك التاريخي بمجرد أن يلمح صور الزعماء الثلاثة ملصوقة على الحائط بطريقة مرتبة من الأقدم للأحدث .. كانت هناك صور أخرى لـ ( عبد الحليم ) و ( وردة ) و ( الخطيب ) و ( ميرفت أمين ) و ( الشعراوي ) تثبت انتمائك لثقافة السبعينيات والثمانينيات .. كنت تجلس وسط هؤلاء كإبن بار بينما تنتصب أمامك في المساحة الضيقة داخل الكشك أنبوبة الغاز الكبيرة .. ما الذي حدث ؟! .

تحركت بهدوء غريب لتجلس على الرصيف المقابل مثبتا عينيك على شيء لا يراه غيرك بينما النيران تواصل التهام ألواح الكشك الخشبية .. رحت تدخن سيجارة .. بالتأكيد ليست نفس السيجارة التي أشعلت الدنيا أمامك والتي كان يجب أن ينتهي دورها في الحياة بمشهد يجبر البشرعلى تأمله .. السيجارة الوحيدة ربما التي قررت ألا تضيع دون ترك ذكريات مهمة .

أمك العجوز .. راقصة الأفراح القديمة .. بخبرة في القسوة وقفت في منتصف الشارع لتنكر نسبك إلى أبيك الميت وإلى أي من أزواجها الكثيرين الذين ربما لم تعد تتذكر أسماء بعضهم .. وأنت بخبرة موازية في المهانة لم تنظر إليها .. لم تنظر أيضا إلى أختك مومس الحي المعروفة التي خرجت تصرخ من الحارة حافية بجلبابها البيتي الضيق وتستغيث بالناس كي يسرعوا في طلب المطافيء مدركة بشكل ما أن ظهورها سبب ارتباكا لأعين المتجمعين الذين أصبح تركيزهم مشتتا فجأة بين مؤخرتها الكبيرة التي تترجرج بشدة وبين مراقبة المدى الذي وصل إليه الحريق .

صباحك اليوم لم يكن طبيعيا

كأنك كنت تستعد لحدث استثنائي هام

أنت مثلا لم تبدأ عملك بتشغيل إذاعة القرآن الكريم كالعادة

كما أن سكان الشارع لم يسمعوا أي من الأغاني الشعبية المصرية واللبنانية القديمة التي اعتدت أن تشغلها يوميا

حتى عندما جاءت فترة الظهيرة

لم يرك أحد جالسا خارج الكشك وتقرأ في إحدى الروايات البوليسية التي تحبها

كنت صامتا

لم تلق التحية على المارة وعلى أصحاب المحلات المجاورة .. كنت تردها عليهم بصوت خفيض جدا ومكتوم وباقتضاب شديد .

شقيقك البدين بائع الفاكهة الذي أسرع بإخراج الأنبوبة من وسط النيران أقسم بأن يجعل مخبر المنطقة يأخذك مجددا إلى قسم الشرطة ليذكّرك خادمو الشعب طوال الليل بأن الله ليس غافلا عن حماية قانون الاشتباه .

شقيقك الذي لم يهتم بانقاذ الصور ولا شرائط الكاسيت ولا الروايات البوليسية ربما سيفهم بعد فترة ما أن صمتك كان إقرارا واضحا باستيعابك لمصيرها .

بالطبع .. أجزم كل الطيبين الذين شهدوا ما حدث أنك لم تكن تقصد :
( هل يتعمد أحد إحراق مصدر رزقه الوحيد ؟!! )
الطيبون الذين رأوك تنهض من فوق الرصيف حاملا نفس هدوءك الغريب وتخطو بعيدا فأجزموا أيضا وبمنتهى اليقين أنك حتما ستعود ـ بعد أن يهدأ كل شيء ـ لتحاول أن تعيد الحياة إلى ما كانت عليه .

لكن ...

ماذا عن هذا الطفل الواقف بالشرفة ؟!

الطفل الذي كان ينمو بطريقة طبيعية جدا وسط أسرته الطبيعية داخل الكون الطبيعي تعثرت حواسه فجأة بحدث يتنافى مع سمات الشارع الطبيعي فقرر أنه من الضروري تفحص الأمر لنهايته .

صحيح أن رعبه الهائل من الحريق قد انتهى بعد أن جاءت العربة الحمراء الكبيرة ذات السرينة المفزعة ـ كان يخشى أن تمتد النار إلى أسلاك الكهرباء القريبة جدا من شرفته فيدخل جهنم مبكرا .

صحيح أن الأمر تحول عنده إلى تسلية ممتعة للغاية وهو يراقب المياه تندفع بقوة وغزارة من الخراطيم الطويلة فتخمد النيران تدريجيا تاركة سحب دخان كثيفة وبقايا أشياء متفحمة مما جعله يشعر بوجود شتاء ما .

لكنه أدرك بشكل مبهم أن شيئا ما تغيّر

هناك مشاهد لم يعد يراها

وأصوات لم يعد يسمعها

كانت هناك حالة ما لم يعد يحس بها

حتى أن سؤاله ( حاول أن تتذكر .. في ماذا كنت تفكر لحظتها ؟ ) كان عليه أن ينتظر أكثر من عشرين عاما ليتمكن من صياغته جيدا .. ولمن ؟!
للذي لم يرجع حتى الآن ليعيد الحياة إلى ما كانت عليه .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال