الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي الشعري ومسار حركة المجتمعات

محمد الأحمد

2007 / 3 / 28
الادب والفن


(اللفظ جسم وروحه المعنى- ابن رشيق القيرواني )
استوقفني مفتتح كتاب (الوعي الشعري ومسار حركة المجتمعات) الصادر عن دار الشؤون الثقافية بغداد 2004م للباحث الأستاذ (محمد مبارك)، لما فيه من عموم مطلق وخصوص مطلق أيضاً، فالعموم المطلق هو ما يخص بُنية المجتمعات الإنسانية كافة، شرقا أو غربا، جنوبا أو شمالا، والعموم الخاص بان النص الأدبي هو الوثيقة التي لا يقدر على حجبها أي حاجب، وهي الباقية أبداً، كما تذكر خزانة تراثنا القويمة (ذلك هو الخطل الذي سمعت العلماء يعيبونه- الجاحظ )، فآثرت أن اكتب سطوري هذه متابعا لما أشار إليه الجهد القويم. (من صيغ في الأنماط المعيشية، وأساليب في مواجهة الطبيعة وتحدياتها بقصد تضمين الحاجة المادية والروحية لأفراد هذا الجنس من البشر في صعيدي هذه الحاجة الثابت والمتحول- ص 7 محمد مبارك)، إذ يكون على أي باحث إنثروبولوجي في أي جهد يبذله لأجل أن يدرس حركة مجتمع ما؛ عليه أولا أن يمر بتاريخ آداب تلك البلدان، إذا ما قيس بعلاقة العلوم الأخرى وتاريخها كون وظيفته تتطلب منه البحث أولا في شؤون الإنسان ومجتمعاته، وما تداخل ضمن أبنيتها الحضارية المتصاعدة، فالتاريخ المكتوب يدون سيرة الإنسان ومسيرة المدن محورا لهذا العالم، ومنه تبتديء البنى كافة، وبتدوينه تراكمت الخبرة، وتبادلتها الأجيال، وصار محور هذا الكون، ويصبح الأمر مبيتا لان يستحضر ذلك التاريخ، ويغوص فيه إركولوجيا، حتى يستنبط حركة التاريخ الحقيقي، ولان اغلبه مكتوب وفق هوى المنتصرين، لان المحب يدين المكروه، والكاره يدين كل محبوب، فمن أراد الدخول العودة إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد لحضارة وادي الرافدين، ويخترق تراكم السنين يجد الآشوريين قد تركوا لمن بعدهم عصرا ذهبيا مليء بكتب للأدب، والعلوم الأخرى، ويدين معظم الأكاديميين في العصور الحديثة لذلك العهد الذهبي من الإرث البابلي الذي دوّن على الألواح الحجرية والطينية تاريخ حضارتهم وأدبهم، ففيها المدونات المليئة بالأخبار، والخلافات.. مكتوبة على عدد من الألواح الحجرية، كالملحمة الأكادية (أتراهاسيس) التي يقول الباحثون بأنها كتبت عام 1700 قبل الميلاد في عهد (آمي صادوكا) حفيد (حمورابي)، الذي حكم خلال الفترة من (1646 - 1626) ق م، وقد وجدت تلك المدونات في مكتبة آشور (بنيبعل) الشهيرة، وعشرات غيرها، فالأدب، هو التاريخ الحق، وكلما نقرأ في الشعر المعاصر محاولات جادة يتنوع فيها الإيقاع، والتجريب وقد تأتي باشتغال فكر حرّ ربما يتواصل بلغة جزلة تبتعد عن التقريرية الشفيفة تارة، وتحوي صورا من مخيلة الشاعر الحاذق، بإنسانيتها الواعية، تستوقف أي باحث لأنها تحضر بإبداعها الفاعل، تمسه كالموسيقى الساحرة لتجعله يعرف العصر الذي هي منه، أو فيه، فيأتي الباحث على صور ذلك العصر، فيما أخذه النص المكتوب فيه، لأن النص الجيد بقدر حضوره الحضاري يحوي اغلب الأسئلة التي تأتي عصره، وهذه التجارب لا تنحاز للمنتصر، وتكون من ثقافة غير مُدَجَنَة أو موجهة قياسها الإنسان كأعلى قيمة وهدفها الرقي بفنه، تلك كوثائق تستطيع أن تأخذ بنا محبة الشعر، والاجتهاد في عمق تلك التجربة، بعد ان تقدم بها الوعي في الشكل، والموضوع لصالح الشاعر، وعصره بأكثر من مؤشر، فالشاعر أي (شاعر) هو تراكم تجربة بنائية لا بد أن تتصاعد، وهو خلاصة ثقافة يومه الذي كان يعيشه، ولا تتلكأ في صعودها، تبوح جهرا عميقا صوتها، لتحقق موقفها من الحياة، والشاعر هو لابد وان يكون قارئ لعصره، وحوادثه، يُعرّف بالتاريخ الذي حوله، فأي شاعر هو شاهد عصره، وله موقفا استطاع الجهر به عبر أداته، وأعطى القارئ بكلماته المنسابة متعة التحديق في القسمات الرفيقة، التي نظنها ستمضي، ولن تعود.. كون الشعر دهشة صامته، (فإذا كان الحب يعمي عن المساوئ، فالبغض أيضا يعمي عن المحاسن. وليس يعرف حقائق مقادير المعاني، ومحصول حدود لطائف الأمور، إلا عالم حكيم و معتدل الأغلاط عليم، و القوي المنة، الوثيق العقدة، والذي لا يميل مع ما يستميل الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر- الجاحظ )، ففي الشعر نقرأ شفافية تاريخ متواصل، مليئة بعهدها، لأن النصوص تداخلت بالشكل وبرزت كوثائق استدلالية، سارت إلى عصرها، وحضرته بحدوث فاعل مؤكدة على تمكنها من احتواء موسوعاته، إن توسعت المعالم، وصار كل جزء في هذا العالم، يقتضي رؤية متأنية، مستقلة، دون إهمال ما حققه الأقدمون في هذا المجال، أو ذاك.. فقول أبو هلال العسكري: (الشعر كلام منسوج ومنظوم، وأحسن ما تلائم نسجه، ولم يستخف، وحسن لفظه لم يستهجن، ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام، فيكون جلفا بغيضا، ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا- )، يسعى إلى التحيّد، والتقنين، وقول آخر يستحق التأمل العميق، تفتقده قصيدة العصور، ولا اجل ان لا يقصينا التغريب المتعمد، عن مناهجنا الأساسية في الإبداع: (أن يكون سمحا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة مع الخلو من البشاعة- قدامه بن جعفر)، كذلك رأي ابن سلام: (حجة في عربيته، أدب يستفاد، معنى يستخرج، مثل يضرب، مديح رائع، هجاء مقذع، فخر معجب، ونسيب مشرف)، فالنصوص الأدبية هي خلاصة فاعلة، لكشف عمق حركة التاريخ، بعمق حركة الشعر… بحث عن الذات في مديات العشق، كنغمة موسيقية تقاس بها حضارة الشعوب، النص تصاعد فعل نغمي مدروس، تحكمه حلاوة الكلمة المدعومة بالمعنى الباطن أكثر من المعنى الظاهر، كونها تتجاوز مديات الهم المتكاثر من تلك الزحمة الكثيفة التي يعاني منها الإنسان، فأكتشف لها المبرر الذي أعطاها مشروعية وجود فاعل، وغناء مؤثر، وخلود أكيد. إذ تحررت من قيدها القالب العتيد، الذي ضاق على أكثر شعرائنا فصاحة وجعلهم في بحث دائب عن خلاص، ولم يكد ذلك الخلاص أن يتبين بالتخلص من القافية، وبقاء الأوزان.. حتى جاء من ينادي برفع تلك الأوزان، موصياً بكتابة القصيدة الخالية من التفاصيل الخليلية، مؤكداً على موسيقى الصورة، وسعة أفق الموضوع، و صارت تسمى بالنثرية، فشاعت المسميات، واغلبها بقي لا يروي من ظمئ، ولا يطفأ ناراً. بقيت المقاييس تتباين من شاعر إلى آخر، وتحتدم المسافات التي تقترب من جانب، وتختلف إلى جانب آخر (من حيث إن الألفاظ كانت أوعية للمعاني فأنها لا محالة تتبع المعاني في مواقعها- عبد القاهر الجرجاني )، وقد صاحبت الشعر الفلسفة، لأنها حركة الفكر المتكاملة التي تدل على مفاتيح ذلك العصر، ولو استدلل الباحث الى منابعها، وترابط المجتمعات ببعضها، لان الفكر الإنساني بشكل ما لا يمكن فصل مجتمع هنا عن مجتمع هناك، ولابد من وجود تلاقح ثقافي والفكرة الإنسانية، مدونة هنا او هناك، وقد تناقلت المجتمعات تراثها الإنساني بالترجمة، وصارت اللغات واللهجات غير عائقة منذ القدم، فإنها قد وصلت بمثل ما يوصلنا إليه النص الأدبي، ‏فالذي قرأ (الكندي) كفيلسوف عربي، وكيفية استقباله الفلسفة الإغريقية أو فهمها وهضمها واستيعابها، ستدلنا عليه نصوصه ذاته، وهي ذاتها التي تقرأ عصره، (أول فيلسوف في اللغة العربية)، وكذلك (الفارابي) الذي انتج تصنيفا متكاملا للعلوم الفلسفية للفكر العربي، وما سبقه. إذ كان ذا ثقافة موسوعية، فلقبوه بالمعلم الثاني بعد (أرسطو) المعلم الأول، ولن ينسى أحدا الدور الذي لعبه الإسماعيليون في ترجمة الفلسفة اليونانية أو شرحها وتعريبها، وما نهجت به جماعة إخوان الصفا لعبت دورا كبيرا في نشر الفكر العقلاني الفلسفي، كذلك حضور (ابن سينا) وما ترك من تراثه داخل الفلسفة العربية بفضله كأكبر العبقريات التي أنجبتها الثقافة العربية الإسلامية، وما لـ(لغزالي) من دور كبير بكتابيه الشهرين (مقاصد الفلاسفة)، و(تهافت الفلاسفة). ففي الأول عرض وشرح نظرياتهم، وفي الثاني فنّدها وعارضها، وفند التهم التي تقول بأنه قضى على الفلسفة العربية، ولم يكن احد بعرضه إلا (بن رشد) المغربي بـ(تهافت التهافت)، كما سيفعل النص دائما ويوجِد في كل الأزمنة، ويتناغم بجنون نحو التقنيات المتفجرة في عالم التكنولوجيا التي أوشكت أن تتحرر من اللفظ، وتتحول إلى المنظومة الرقمية، عندئذ ماتت تلك الفلسفة وحلت محلها العلوم الحق البعيدة عن عقلية الخزعبلات والخرافات. وصار هذا العصر عصرها ومن السهل تبادل المعلومات في وقت وجهد قياسي، ولكنها لم تحقق إلا جماليات قياسية، لا تصلح لكل العصور، هذا ما يهم النص الأدبي وحيث ما ذهب إليه الروائي التشيكي (ميلان كونديرا) حول فن الرواية: (فن الإيجاز ضروري، انه يصر على ذهابنا مباشرة إلى قلب الأشياء)، وقد حوي كتاب (محمد مبارك) مجموعة مقالات أخرى، تفرقت موضوعاتها على رؤية الأدب كوثيقة انثروبولوجية عميقة، وتعمقت في مفهوم الهوية، ومابين الشاعر وطبيعته النفسية، كما خص في فصول مستقلة نظرة في ظاهرة الشعر العراقي بدءاً من الشاعر الكبير (محمد مهدي الجواهري)، كذلك (السياب) و (البياتي)، (سعدي يوسف)، (حسب الشيخ جعفر)، (علي الحلي)، (يوسف الصائغ) و(الصكار)...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين


.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ




.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي