الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
شجر بري
عبدالقادر حميدة
2007 / 3 / 30الادب والفن
فصل من رواية ( شجر بري ) للكاتب الجزائري عبدالقادر حميدة
11 مارس
حينما صحوت اليوم في الصباح كنت ما أزال على وقع خبر وفاة الحاج الزين .. صديقي الجميل .. المجاهد الكبير .. و الشخصية المميزة بقوة تفانيها .. و إخلاصها .. و إيمانها العميق .. الشخصية المتعددة الجوانب .. المتشعبة المعارف .. فحكاياته مع الصيد بالصقور ما تزال دليلا عليه .. و حكايات نضاله في حزب الشعب الجزائري .. و عضويته للمنظمة الخاصة ما تزال مثار تقدير .. و مواقفه البطولية ما تزال مثار إعجاب ..
علي إذن أن أنظم وقتي حتى أستطيع حضور جنازته .. و المشاركة في تشييعه إلى مثواه الأخير ..
قبلت رأس أمي .. و حدثتها قليلا عن الحاج الزين .. حديثا أنساها معاتبتي المستمرة كلما رأتني بخصوص تأخر زواجي .. تحدثني أنها ما تزال تنتظر أن أشير لها على فتاة .. و أنها مستعدة لخطبتها على الفور .. و ستحدثني كعادتها دائما عن قلق والدي بخصوص هذا الموضوع .. و لذا فإنني أحرص على تناول فطوري بسرعة .. لأغادر قبل أن تتمكن من اكتشاف أنني لم أعثر على فتاة بعد .. رغم كثرتهن في هذا الزمن ..
خرجت متجها نحو مكتبي .. الذي لن أطيل المكوث فيه .. لأنه علي الذهاب إلى المدرسة .. أتبع واحدة .. ربما سأستطيع أخذها هناك .. و تجميل يومي بها .. أسرعت نحوها .. تجاوزتها .. التفتت إليها .. غمزتها .. لم تستجب .. يبدو أنها متزوجة .. ألاحظ الخواتم في أصابعها .. لكن جسدها مغر .. حقا .. إنها تشعلني ..
ألتقي بصديقي علي عند منعطف المكتبة .. أسلم عليه .. يخبرني أنه منذ مدة يبحث عني .. لقد عثر على إعلان عن مسابقة في جريدة .. يرى أنها تهمني .. على الأقل أستطيع توفير مبلغ محترم .. إذا أنا نجحت فيها .. أشكره .. معتذرا بسرعة حتى لا تغيب عني تلك السمكة المتلفعة بالسواد ( على حد تعبير عادل إمام في إحدى مسرحياته ) .. هو يعلم أني فقدت القدرة على الكتابة منذ زمن فلماذا يخبرني هذا الخبر .. أتساءل بيني و بين نفسي .. مكتئبا لأن تلك المؤخرة غابت في التواءات الشارع .. ألعن صديقي .. و حظي .. و المسابقة ..
تسلم علي عجوز مسنة .. أعرفها من خلال أخيها الذي يصغرها سنا .. يقال أنه صار عرافا كبيرا لا يشق له غبار .. و لا يمكن لأحد أن ينافسه ..
أسألها عنه : كيف حال أخيك ؟
تجيب : بخير .. لقد صار ينظر في المرآة ..
تعني أنه يرى أمامه أفعال الشخص كأنه ينظر في مرآة .. كل شيء أمامه ظاهر ..
أبتسم بخبث وأقول في داخلي : و لم لا ؟ .. يقول هو : ولم لا ؟ .. تجربة مغرية .. آه نسيت هل تعرفونه هو ( ضمير الغائب يعود على ذلك المغيب أسفل ) ربما بعضكم خمن و عرفه .. تذكرت مثلا كان يتفوه به .. و يردده دائما و نحن صغار ( شاكر الأبله ) كما كنا نسميه في الحي .. و الذي توفي فيما بعد في حادث سيارة .. كان يقول عن العجائز أن أشياءهن مثل الغازوز يعني المشروب الغازي .. الحلاوة و الحدة .. لم لا أجرب ..
أتحدث معها .. تستغرب .. تنظر في .. و تستغفر .. و تمضي ..
أحس عرقا خفيفا يكسوني أو يلبسني .. أترك لكم الاختيار .. المهم أني مضيت إلى مكتبي خائبا .. صعدت السلالم .. فتحت الباب .. و أشعلت البخور .. ثم خرجت ..
التقيت بوزيد .. تحدثنا عن الانتخابات التي هي على الأبواب .. قال لي أنه يرغب في الحصول على تفويض في لجنة المراقبة .. وعدته بأن أتدبر له الأمر .. و قبل أن أتركه مرت واحدة .. ممتلئة .. صغيرة نوعا ما .. من حروف الطاء كما يقال .. أي عمرها بين 13 و 19 .. هذه تكون في 19 .. التفتت نحوه و سلمت عليه بحذر لأنها كانت رفقة والدتها .. أخبرني بوزيد عنها .. أنها مطلقة .. و تعمل في السر .. بمعنى تمارس الدعارة خفية عن أهلها و مجتمعها القريب .. اشتعلت من جديد .. تبعتها .. لوحت لها بالهاتف .. ابتسمت .. أخرجت ورقة وقلما .. و كتبت رقمي .. و لما حاذيتها .. لمست يدي في المرة الأولى .. فلم تستطع أخذ الورقة .. لكن في الثانية أخذتها .. اشتعلت أكثر .. و غيرت طريقي .. تذكرت قول الشاعر :
ذهبت مشرقة و رحت مغربا ** شتان بين مشرق و مغرب
كان الوقت قد بدأ في الانفلات من بين يدي .. و علي الإسراع للمدرسة .. أوقفت تاكسي .. و يممت صوب الأطفال و البراءة و النقاء و الصفاء ..
اليوم لا بد من إنهاء الاختبارات المتبقية لأن عطلة الربيع على الأبواب .. و لذا سأكتفي بكتابة نص القراءة على السبورة .. و نص القصيدة التي نحن بصدد حفظها على الجانب الآخر .. ليقرأ التلاميذ واحدا تلو الآخر .. بينما أنهمك أنا في إعداد أسئلة الاختبارات .. التي نسيت كعادتي دائما أن أعدها في البيت أو في المكتب .. لانشغالي بإتباع الأجساد الممتلئة و غير الممتلئة ..
كان نص القراءة اليوم هو التسامح .. تلخصه قصة الشجار الذي دار بين زكريا و نذير .. و كانت القصيدة مقطعا لمحمد علي شمس الدين اخترته أنا خلسة و بعيدا عن أعين الرقباء و خاصة المدير و المشرف .. و قد دفعتني لذلك سذاجة الاختيار في الكتاب المقرر .. يقول محمد علي شمس الدين .. الذي يعرف تلاميذي أنه لبناني من الجنوب .. كما يعرفون أن سليمان العيسى سوري .. و أن مفدي زكريا جزائري .. يقول الجنوبي ما يلي :
تستوقفني أحيانا ..
و أنا أسرع في خطوي نحو المنزل ..
أشجار لا أعرفها ..
تتقوس نحوي بثمار دانية و تناديني ..
أسأل نفسي :
هل للأشجار دم فيحن ..
و للأغصان يد فتلوح إذ تلقى ضوء جبيني ..
انهماكي في العمل داخل القسم .. ينسيني ضوضاء التلاميذ .. و لهيب الأجساد البضة التي تسكن مخيلتي .. لكن دخول الزميلة فاطمة .. أعادني للشارع من جديد ..
قالت : فاطمة أنها رأتني في المنام .. و أنها تعتقد أن علاجها من الصداع المؤلم الملازم لها منذ سنوات عندي .. هكذا فسرت المنام .. و هكذا جاءت لتخبرني .. و هكذا وجدت نفسي أمام صيد ثمين .. لأخبرها أن هذه رؤيا صادقة .. و أنني ورثت عن جدي الصالح الكبير الرقية الشافية .. و ما عليها سوى أن تتطهر .. و تنوي في داخلها أنها متوجهة لمقام رفيع .. و تأتيني للمكتب .. و أن عليها أن لا تنسى حمل كمية من البخور و الجاوي معها .. و هناك سأحدثها بحقيقة صداعها الذي يظهر لي .. حسب تخمين مبدئي لم يثبته الفحص بعد بأنها مسحورة .. إذ يبدو أنه قد عمل لها عمل حتى لا تتزوج ..
و طبعا كلمة الزواج هي المفتاح السحري الذي سيغريها .. فأنا حتى و إن لم أكن صالحا .. فأنا رجل أعزب .. و كتوم للأسرار .. و هي تعرف عني ذلك .. فما عليها إلا الاستجابة لتأخذ إحدى الحسنيين .. إما الشفاء إن ثبتت نجاعة دوائي .. أو التمتع قليلا مع شاب .. و ذلك أضعف ما يمكن أن يحدث ..
قبل أن أذهب إلى جنازة صديقي الحاج الزين .. الذي توفي على عمر ناهز التسعين .. و كان صديقا لي .. و أبا .. و أستاذا .. رغم أنني كنت في الثلاثين .. ضغط علي حزن مفاجئ .. جعلني أفكر في كيفية مثلى للشفاء من هذا الشوق العارم الذي اعتراني بحدة تجاه صديقي الذي فارقني اليوم ..
مفارقة أخرى في الحكاية .. أن صديقي جعل من حياته قصة وفاء .. يحكيها الجميع هنا .. لكن الغريب في الأمر حقا .. هو أن يجعل من موته قصة وفاء أيضا ..
تتساءلون كيف ؟ فأقول : لقد توفي في اليوم الذي تأسس فيه حزب الشعب الجزائري ..
توفي اليوم 11 مارس ..
حكى لي بعض الأوفياء لهذا الحزب فيما بعد .. أنهم كانوا في تلك الصبيحة هناك في تلمسان ، أمام ضريح زعيمهم .. و رائد الحركة الوطنية مصالي الحاج .. يقرؤون فاتحة الكتاب .. فإذا بالنبأ يصلهم فجأة .. و هكذا قرؤوا على روح صديقي الفاتحة من هناك .. و كأن مصالي الحاج كان يقرأ عليه الفاتحة أيضا ..
أما أنا فقد كنت أدركت لدى خروجي من المدرسة .. أنه لا شفاء لي من هذا الشوق الكبير إلا بالكتابة .. أكتب كتابا عن صديقي أذكر فيه كل ذكرياتنا الصغيرة و الكبيرة ( مع الاعتذار هنا لساراماغو حتى لا يظن أني أتطفل عليه ) .. كتاب يكون فيه شفائي و عزائي ..
" إننا لا نشفى من ذاكرتنا .. و لهذا نحن نكتب .. و لهذا نحن نرسم .. و لهذا يموت بعضنا أيضا .. " هكذا قالت أحلام في ( ذاكرة الجسد ) .. العبارة الوحيدة التي أحفظها عن ظهر قلب من هذه الرواية ..
غير أن فكرة الكتابة وحدها .. لا تشفيك .. إلا إذا شرعت فيها فعلا .. و لذا فإنني أخذت من وقتي نصف ساعة .. و اختبأت في ركن معتم من مقهى ( حمزة ) و كتبت .. كلمات لصديقي .. قررت فيما بعد أن تكون هذه الكلمات هي مقدمة الكتاب :
دمعة لم تكتمل :
حينما التقيتك أول مرة يا الحاج الزين .. أحسست أنني على موعد مع التاريخ ..
و حينما صافحتك .. و قبلت راسك .. أحسست أنني أصافح التاريخ .. و أنني أرث شرعية ما .. لم يكن بوسعي حينها أن أخبرك عن كل ما يعتلج بخاطري .. عن كل ما كان يمور به داخلي .. لكنني اكتفيت بعينين صنعت بريقهما دموع لم تشأ أن تنزل لتشفيني من خجلي و ارتباكي في حضرتك ..
آه .. يا الحاج الزين .. كم موعدا أخلفته قبل أن ألقاك ..
و لماذا أجيء متأخرا دائما ..
وددت لو أني عرفتك قبل نهاية القرن العشرين .. و بداية القرن الجديد ..
وددت لو أني عرفتك أيام صولاتك و جولاتك ..
وددت لو أنني كنت شاهدا على بطولاتك ..
وددت لو أني ابتعت من حانوتك البارود .. و رافقتك إلى الصيد ..
وددت لو أني تعلمت عندك الفلك و مراقبة النجوم .. و نظرت من خلال المنظار الذي تضعه على سطح بيتك ب ( عين شنوف ) .. و وجهتني بمهارتك و درايتك .. و شرحت لي المواقع و الأشكال ..
وددت لو أنني أتيت قبل أن تمزق مذكراتك ..
وددت لو أنك استجبت لي حينما طلبت منك أن تحدثني عن حياتك .. فأعيد كتابة ما مزقته .. برؤيتي الفقيرة للتجربة ..
آه .. يا الحاج الزين .. من منا طلق الآخر ؟
الذي ذهب نحو الشمال ماشيا .. دون أن يخبر الأخر .. و عاد في حالة الغائب .. كأنه لم يعد ..
أم الذي ظل يطرق الباب الحديدي الأسود .. في موعده الأسبوعي .. و لم يتخلف أبدا .. و النائمون بسلام جنب بيتك .. يعرفون ذلك .. ؟
آه .. يا الحاج الزين .. أهكذا تعرض عمن أحبك .. و تحتج ..
أهكذا .. تتشابه عندك الأسماء ؟؟ ..
إنك تحبني يالحاج الزين / لأنك حينما استفقت سألتني بلغة المتحير على حالي :
هل تزوجت ؟
أجبت : كلا .. إنني أنتظرك .. ألسنا متفقين على أن نتزوج في يوم واحد ..
أم تراني سأخلف وعدا .. قطعته معك ذات جمعة ..
و رغم كل ذلك .. أحسني محظوظا أنني رأيتك .. و تحدثت إليك مرارا .. و كتبت عنك ذات مرة ..
أحسني محظوظا .. لأني تعطرت بعطرك .. و شممت رائحتك .. و قرأت في كتبك ..
أحسني محظوظا .. أنني عرفتك .. ذات خريف من العام 2000 م ..
جنازة الحاج الزين كانت مهيبة .. قرأ فيها الكثيرون كلمات تأبين .. و أشادوا بخصال الفقيد ، و تذكروا صولاته الوطنية .. و مآثره الخاصة و العامة .. و بكى من بكى .. و ناح من ناح .. كان العزاء كبيرا .. لم تشهد المدينة مثله إلا يوم وفاة الشيخ عطية .. إمام المدينة و فقيهها .. الذي ترك وراءه منظومات قيمة في التصوف و السلوك .. و قصائد في الوعظ و الإرشاد .. بل وقصائد في التبرم من الواقع الذي كان سائدا حينها .. ما زلنا نحفظ له كلما ادلهم أمامنا خطب .. و جفتنا مدينتنا و أهلها :
عجبت لأم تربي الربيب ** و في اليم تقذف أولادها
و ما للذي ولدته نصيب ** لديها و لو رام إسعادها
أو جنازة الشيخ الصوفي الزاهد عبدالرحمان النعاس الذي كان يتحدث عن نفسه قائلا :
عايش بالبلوط
في الغابة السودا
و حياتي عديتها
بين الكيفان
و لما انصرف الجمع .. و تفرقوا .. وسمع صديقي وقع نعالهم .. بقيت وحيدا عند قبره .. أعالج حزني .. و ألقنه الشهادتين كما يقال هنا .. عملا بما أوصانا به الأولون ..
و لما هممت بفراقه .. تداخلت في مخيلتي الذكريات .. و الدموع .. و أبيات الشعر القديم و الحديث .. كنت فيما مضى أفر من تذكر الشعر .. و من قوله .. و في تلك اللحظة وجدتني أتذكر قول الشاعر :
ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى ** أن الثرى يعلو على الأطواد
و قلت بيني و بين نفسي .. سأخبر أبناءه ليكتبوا على شاهد قبره البيتين الذين كنت أدخرهما لقبري .. و كنت أتمنى أن أكتبهما على قبر جدي .. لكن ظروفا حالت دون ذلك .. و أحد هذين البيتين كتبه الدكتور البوطي على قبر والده .. و البيتان هما :
أتيتك بالفقر يا ذا الغنى ** و أنت الذي لم تزل محسنا
و عودتنا كل فضل عسى ** يدوم الذي منك عودتنا
بعدها أسرعت الخطى .. إلى حيث بيت صديقي .. لأؤدي واجب العزاء لأبنائه و ذويه ..
كان علي بعد ذلك أن أذهب إلى قاعة الأنترنيت .. هناك حيث الحياة الافتراضية و العوالم الأخرى .. و لأنني سأطيل المكوث اليوم .. لوجود أفكار كثيرة تتداخل في ذهني .. فقد تناولت عشائي في مطعم صغير .. لا يقصده القوم عادة في مثل هذا الوقت .. هناك سآكل بهدوء ..و أفكر بهدوء ..
أمام الشاشة الزرقاء .. بكيت صديقي مجددا ..
لكنني غالبت حزني و رحت أكتب .. أفكارا متفرقة من هنا و هناك .. قصة صداقة طويلة .. دامت سبع سنوات .. مثل حرب التحرير الجزائرية .. و كانت فعلا تحريرا لي .. لأني تعلمت فيها الكثير ..
سأذكر لكم أنه منذ قرأت عن رواية نورما خوري ( الحب المحرم ) التي صودرت بقسوة كبيرة .. و التي كنت أتمنى أن أقرأها .. و أنا أفكر في كتابة رواية في قاعة أنترنيت .. لأن هذه الكاتبة الأردنية / الأمريكية .. كتبت روايتها التي أحدثت ضجة كبيرة العام 2003 .. في قاعة أنترنيت باليونان .. و طبعا لا أطمع في أن تثير روايتي ضجة كبيرة .. لكن فعل الكتابة في قاعة الأنترنيت .. حيث الزرقة الآسرة .. و البحور العميقة المتلاطمة .. والاختلاف المغري .. هو الذي أسرني في كل الحكاية التي حكتها نورما ..
نورما التي اعترفت فيما بعد بأن روايتها لم تكن واقعية .. و أنها كذبت في كثير من تفاصيلها .. اعترافا دفع بدار النشر راندوم هاوس الأسترالية إلى سحب الكتاب من السوق .. و اتلاف آلاف النسخ في المخازن .. و توقيف مشروع الكتاب الثاني ( مسألة شرف ) ..
بل إن الدار اعتذرت من قرائها .. و الكاتبة اعتذرت أيضا .. و طويت تلك الحكاية طيا .. بعد أن أسالت حبرا كثيرا .. و أثارت معارك هنا و هناك .. و خلفت وراءها علامات استفهام كبيرة .. ضجة دفعتني إلى التساؤل :
هل هذه الزرقة التي أمامي تغري بالكذب .. وهل أنا الآن بصدد قول الحقيقة كلها ؟
كنت أعتقد دائما أن الأنبياء و الأولياء والحواريين وحدهم من يعرفون الحقيقة ؟
و أننا لا نختبئ خلف هذه الزرقة إلا لنتعلم الكذب ..
أليست الحياة كذبة كبيرة .. تحت سماء زرقاء ؟ ! ..
المهم أنني زرت مواقعي المعتادة .. فتحت البوابة البرتقالية ذات الدفتين ( العربية و الإنجليزية ) كيكا الصديق صمويل شمعون .. هذا الذي أسرنا بروايته المتبلة ( عراقي في باريس ) .. و رحت أقرأ للأصدقاء .. أبناء تلك المدينة الأرجوانية .. و أدخل عوالمهم واحدا
.. واحدا .. أبتسم مع هذا .. و يزعجني ذاك .. و تعجبني قصيدة تلك الكاتبة .. و أحيانا صورتها أيضا .. عوالم تجعلني أطير بأجنحة من خيال .. ودفء .. ودنو ..
و كان هذا الموقع قد توقف مدة ملأتني يأسا .. لأني كنت قد تعودت مستواه العالي .. و إغراءه المتسرب من نواحي لا أعرفها .. و لا يمكنني فهمها .. و كنت كلما فتحت البوابة البرتقالية طالعتني ( يافطة ) بتعبير الأصدقاء في مصر مكتوب عليها بالإنجليزية : come back soon مما جعلني أكتئب حينا من الدهر .. لكن ايميل صديقي الجميل الشاعر ياسين عدنان .. جعلني أنتبه إلى أن موقعنا الأرجواني قد فتح أبوابه من جديد ..
أفتح نافذة أخرى .. زرقاء هذه المرة .. إنها للشاعر قاسم حداد .. جهة صارت هي القلب .. تخفق بكل معاني الجمال و التميز .. تتصاعد الأسماء و الصور و الكتابات يسارا .. لتترك وسط الصفحة لاختيارك .. أن تختار مقالا ما من اليسار و تضغط عليه .. فإنه سيتجلى لك في صدر الصفحة .. أسر .. و اختلاف .. و غذاء ..
سأزور في جولتي الاعتيادية مواقع أخرى .. الحوار المتمدن .. دروب .. صفحات سورية .. آبسو .. معابر .. ألواح .. إيلاف .. الإمبراطور .. الأوان .. و سأدخل موقع abcour بحثا عن رسائل ما .. كما سأتلصص على الذي كان يشاهده و يزوره الجالس قبلي إلى هذه الزرقة .. و عادة ما تكون مواقع جنسية ..
و على ذكر ( تلصص ) .. فإنني كنت قد كتبت قصة قصيرة جدا بهذا العنوان .. و لما هممت بنشرها وجدت أن الروائي الكبير صنع الله ابراهيم .. قد كتب رواية كاملة بعنوان (تلصص ) .. رواية قرأت منها فصلا في ( أخبار الأدب ) .. و قرأت ما كتبه الكثيرون عنها في جرائد مختلفة .. و لعلني ما زلت أذكر حميمية المقال الذي تلصص به الطاهر وطار على تلصص صنع الله .. و كانت تلصصي التي عزفت عن نشرها بعد ذلك كالتالي :
التلصص على جسدها ، هاهي تغتسل داخل المطبخ ، أنظر من خلال ثقب في الباب الخشبي ، أنا منبطح ، حذر ، ممسك أنفاسي ، هي لا تراني ، ربما تستشعرني ، تدور ، تدلق الماء .. الماء ذو حظ كبير ، ينثال ، يلامس ، يحاور ، يحكي ، يرحل إلى قدميها ، يمر عبر تحديات الطريق ، الماء يلك الطرق الأولى ، يعود إلى مجراه – كما يقول الكبار عندنا – رأيته يفعل ذلك .. رأيته كيف يميتني و يحييني ، كيف يبعثني ، أستشعر الانتفاخ تحتي ، يتكور ، يلامس الأرض ، يدفعها ، الأرض ساكنة لا تتحرك ، جسدها يتحرك ، أستشعر حركة ما ، أختبئ ، ألبس حذائي ، كنت حافيا إذن ؟ .. أخرج من باب منزلها الخلفي .. و يتكرر المشهد مرارا .. لكن المشهد ذاته لا يتكرر .. من قال إنه يتكرر ؟ ..
فتحت بريدي .. و رحت أقرأ الرسائل الواردة .. منظمات تستجدي التوقيعات .. هي لا تعرفني .. و إن وقعت هي تحسبني رقما .. هل ما أزال رقما .. ما زال مجتمعنا العربي لا يبصر الاختلافات .. ما تزال القبيلة .. و الضمير الجمعي .. و التشابه بين الأفراد .. أفكار قرأتها عند دوركايم حينما كنت في الجامعة .. كنت أظن أنني عندما سأتخرج .. سيتغير العالم .. ستتغير المفاهيم .. سأكون مختلفا .. و الآخرون مختلفون عن بعضهم أيضا .. سأكتب .. و سأتميز .. و لن أصبح رقما .. لكن هؤلاء .. يرونني رقما .. هم يرون توقيعي لا اختلافي .. و هم يبحثون عن توقيعي لا عن اختلافي .. و هل إذا وقعت سأكون مختلفا .. أحيانا .. ربما ..
أمحو الرسائل .. أليس المحو توقيعا ؟! .. اسألوا بنيس ..
هاهي تتذكرني في هذا اليوم الشديد علي .. ما أحلاها .. ما أروعها .. لكن رسالتها هذه المرة جاءت مختلفة .. حزينة .. يائسة .. جاءت شعرا .. يبدو أن الشعر يحاصرني اليوم .. يأتيني في المقبرة .. و أجده أمامي هنا .. و صرت كأني أفر منه إليه .. على رأي الشاعر القديم ..
و الغريب أن رسالتها جاءت بعنوان ( توقيعات ) .. حتى التوقيع يحاصرني .. أمحوه فيجيئني توقيعات .. أمحو المفرد فيجيء ( المفرد بصيغة الجمع ) .. هل هذا ما أردته يا أدونيس ..
أغوص في رسالتها :
توقيعات
1 – و قد أبكي ..
و يبكي في دمي دمع ..
و أحزان تصاحبني
فيولد رجع أغنيتي
2 – أنا الذكرى ..
و هذا القلب مركبتي ..
و هذي الروح صومعتي ..أهدهدها
فتغزل من صدى الأشجان ..
ملحمتي ..
3 – مغامرة ..
و في شوقي شظايا من لظى الجمر ..
و أشرعتي ..
4 – مسافرة ..
و في جفني يشيخ الدمع و الضجر
و في رمشي يسامر لوعتي الشعر
و ترتيل يذيب النفس .. أعذبه ..
5 – و أشدو ..
فيرقص في فمي القمر
و أجراس و أدعية ..
فيصهل ريش أجنحتي ..
6 – و بين الشدو و الشجن
ينام الصبر عملاقا
على رئتي ..
من مسافرة بلا زاد / اليمامة البرية
حينما أنهيت قراءة الرسالة .. تعاظمت على صدري الخطوب .. و ناءت بكلكلها على صدري – كما يقول امرئ القيس – غير أنني سأحاول الاختلاف هنا .. سأجيبها الآن .. و لكن ليس بالشعر .. بلغة هي أقرب للشعر .. لكنها ستكون لغة رأيي الحقيقي في الأمر .. سأخون هذه الزرقة .. و سأكون صادقا .. في هذه الرسالة على الأقل .. و لها أن تمحوها إن أرادت .. لكنني أنا متأكد من أنها لو محتها .. ستقع في الفخ .. الفخ الذي يعرفه الخطيبي و بنيس و فاطمة ناعوت .
فتحت ملف وورد و كتبت :
( عزيزتي المسافرة بلا زاد / قبل أن ترسلي شعرك هذا ، كنت قد توصلت إلى يقين بأننا لن نلتقي مجددا في هذه الحياة .. ليس لأننا تجافينا .. و لكن لأن كل واحد منا يعيش داخل زنزانته .. و رغم أن الباب ظل مفتوحا طيلة عقدين من الزمن .. إلا أننا لم نفكر يوما في تجاوز العتبة .. بقينا أسرى بلا آسر غير أوهامنا .. و حيارى بلا محير غير أحلامنا .. أحلامنا التي ماتت على الرغم منا على قارعة الطريق .. أحلامنا التي انفلتت من بين أصابعنا ، كأنها ماء النهر الذي لا يحب الرجوع ..
هكذا أنت .. و هكذا كنت .. سراب خيل لي أنه ماء .. و حين أفكر في المجئ إليه يبادرني : لا تأتي إلي .. فما أنا إلا وهم بقيعة ..
هكذا أنا .. و هكذا كنت .. طفلك ذي الشوارب السوداء و السواعد القوية – كما كنت تقولين - .. طفلك الذي يجيء متأخرا دائما ..
سأراسلك اليوم للمرة الأخيرة .. لأني لم أعد أطيق هذا الذي " ينام عملاقا على شفتي " .. )
أرسل الرسالة .. و في ذهني تقوم رواية آشا بانديلي ( زوجة سجين ) .. و أقول في نفسي .. الحب الحقيقي لا يعترف بالحواجز الوهمية و لا المادية .. هكذا عرفت الحب و آمنت به .. و هكذا كانت رسالتي إليها .. من وراء قضبان الروح ..
أحاول أن أفر من تلك الهواجس التي تضغط علي .. إلى مواقع رحبة ..
سأغير اللغة ..
ما رأيكم بالاسبانية ..
أليست شقيقة مدينتي ؟
سأخبركم أيها الأعزاء .. خبرا ليس للنشر ..
نفي إلى هذه المدينة الشاعر الكبير ماكس أوب .. أسرته المدينة و أهلها .. فكتب فيها ديوانين شعريين .. كان ذلك بين 1940 عامي و 1942 .. في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الإنسانية ..
و هكذا تغير مدينتي لغتها في الأيام الصعبة ..
و كنت أحس و أنا أقف في المقبرة كل أسبوع .. أن مدينتي هي العالم ..
العالم الذي بدأ يتأنث .. ويتخنث .. هكذا قال لي عمي بايزيد و هو يسكب المازوت في الإناء البلاستكي الذي أتيته به ذات شتاء .. لم أفهم ما قاله إلا الآن ..
أفتح موقع شاعرة برازيلية صديقة تكتب بالإسبانية .. و تجعل من موقعها منتدى للأشقاء .. أشقاء الشعر و أشقياؤه ..
اسمه " أصدقاء القمر " .. يذكرني بالفرقة العصرية الغنائية التي كانت تشدو في مدينتي لسنوات .. ثم تم ردمها بعناية فائقة .. هنا يحسنون ردم كل حسن .. مضى تاريخها الحافل .. و مضت طي النسيان .. كان اسمها " أبناء القمر " ..
فجأة .. تذكرتها .. هل من حقي العتاب ؟
أعاتبها .. و هي التي غرقت في الرمل .. رغم محاولات الانتشال المستمرة ..
أعاتبها .. و الصحراء تجثم على صدرها ..
ألا يكفي أنها تذكرتني .. و كتبت لي ..
سأعاتب نفسي ..
لأني في كل مرة أكون جارحا حد القسوة ..
حد الموت ..
هكذا يعطش الحلم على شفتي ..
كيف سأؤثث كل هذه الشقوق و بماذا ؟ ..
علي أن أغادر قاعة الأنترنيت .. قبل أن تسيل روحي في الزرقة ..
***
أخرج .. و بي غصة و ألم ..
كأني كنت أبحث عن الحكايات التي لم يحكها أحد ..
أعرفها .. لكنني لا أستطيع كتابتها ..
كانت جدتي فريحة تعرف الكثير من هذه الحكايات ..
حينما أفتح موقع تيريج أشم رائحتها ..
ما زلت أذكر و أنا أحث الخطى الآن باتجاه البيت .. أنها حدثتني عن شعراء من قبيلتي ..
يا الله .. هو الشعر دائما ..
الصادق الأخ الصغير لجدي .. كان شاعرا مميزا و مات صغيرا .. مات ولم يمتلئ بعد برائحة الشيح و الزعتر البري .. مات مشتاقا لرائحة البلوط في جبل ( القديد ) .. الجبل المسبح .. الهائم بالأولياء ..
قالت لي جدتي / مات الصادق قبل أن يتزوج .. و هو الذي قال :
خدعتنا ذا العامة ما علمتناش ** وقت المغرب جا الواد بجهلاتو
أتعرف أن إخوة جدك ماتوا صغارا .. و كانوا كلهم شعراء ..
و لم يبق منهم حيا غير جدك و أخوه .. أخوه بلقاسم القائل :
اتحيرت و طاح لي هم على هم ** و الهم اللي جا ينسي في اللي فات
حسيت بمشعال في قلبي يخدم ** راها نارو سانية في الجوف ارقات
- وش نحكيلك يا وليدي ..
هكذا قالت جدتي ذات يوم .. و بكت .. فانكببت على حجرها باكيا .. لا أعرف لماذا ؟
كنت أعرف أن آبائي .. كلهم كانوا صالحين ..
و كنت أخشى أن أكون ممن عناهم الكتاب الكريم في قوله ( فخلف من بعدهم خلف .. ) ..
لكن الكتابة كانت شفائي الدائم .. و استغفاري المستمر ..
أن أكتب معناه أنني أدنو من لحاء شجر الأولياء .. أقشر منه .. و آكل ..
أن أكتب معناه .. أنه لا جناح علي ..
الكلمات كانت دائما طريقي الوحيد إلى الله ..
قبل أن أصل البيت رأيت زكية .. و رأتني ..
غمزتها بطرف عيني مبتسما .. احمر وجهها و ابتسمت ..
أشارت لي بيدها بأن أهاتفها ..
هززت رأسي موافقا ..
و مرت ..
قلت في نفسي : ماالذي أخرج هذه المومس في الليل .. بالتأكيد قد صارت مومسا .. هي لا تستطيع أن تصبر عليه كثيرا أنا أعرفها جيدا .. هي لا تعرف معنى للصبر ..
لقد كبرت نوعا ما .. صارت مسنة نوعا ما .. لكنها حلوة و دافئة ..
اشتعلت و تذكرت ..
تذكرت بداياتي معها ..
ترى ؟
هل ما زالت تتذكر بكل دقة ما حدث لها أعلى الكثيب ، خلف ضريح الولي الصالح ، في تلك الظهيرة القائظة ، بل بالضبط على الساعة الواحدة و النصف من سنة الهزيمة ، لما كان عبدالناصر يستقيل ، و كان بومدين يلقي خطابا حماسيا مرددا أننا لم ننهزم .. و لن ننهزم .. و أننا لم نستنفذ كل وسائلنا القتالية ، و أننا سنحارب من الآن فصاعدا بالنفط .. لم أكن مهتما بالسياسة حينها ، لكنني لما كبرت عرفت بأن هذه الأحداث جرت في تلك السنة التي كان فيها ذلك اليوم القائظ .. تلك السنة التي أصر فيها جدي على أخذ كل عائلته لزيارة ضريح الولي الصالح ، الذي يبعد عن المدينة بحوالي 40 كلم .. و قد تبعتنا أسر أخرى من مريدي جدي و أتباعه و أبنائهم و بناتهم إلى هناك ..
هناك حيث شجر السدر يملأ الوادي ، و حيث القيظ ، و الأفاعي ، و البوم ، و اليرابيع السريعة ..
هناك حيث الصمت الذي ظل يستهويني .. و حيث الهروب من ضجر المقررات المدرسية إلى حنة القراءة الحقيقية .. كانت المطالعة جنتي الأولى ..
كنت تلميذا يافعا ، يسعده أن يتغيب شهرا عن المدرسة ، لذة التغيب عندي لا تضاهيها إلا لذة العزلة و الغياب .. لم أكن أعرف حينها أن للكاتبة مليكة مقدم كثيبها الذي كانت تفر إليه بحثا عن هدوء ما .. حوار ما .. حرية ما .. و هروبا من كثبان أخرى .. و تلمسا لدفء آخر يحمل لقلبها بردا و سلاما .. بل لم أكن أعرف مليكة مقدم نفسها .. لكنني علمت بأن للرافضين عوالمهم و أشياؤهم المشتركة .. و ذلك ما أسعدني فيما بعد حينما قرأت ( الممنوعة ) و ( رجالي ) ..
و إضافة للزيارة المقدسة .. فقد كان جدي يحرص على الاستشفاء برمال تلك الصحراء .. فقد كان يندس داخل حفرة في الرمل .. و يقبر نفسه .. و نقوم أنا و أخي على خدمته .. من خلال مشروب ساخن نقدمه له من حين لآخر .. حينما ننزع برفق و سرعة الغطاء على وجهه الذي يظل خارج الرمل .. يقولون عن هذه الطريقة : أنها تنزع البرد من العظام ..
هكذا اكتشفت أنني و جدي شريكان في الاستشفاء بالرمل كل بطريقته ..
هو حينما يندس داخلها .. ليخرج بحرارتها البرد الساكن في أعضائه ..
و أنا حينما أتأبط كتابي و أصعد أعلى الكثيب ، أين تقوم شامخة و وحيدة شجرة ( عصا سيدي ) أستظل بظلها .. و أحاور كتابي حينا .. و الكثيب و من ورائه الأفق حينا آخر ..
قال لي جدي ذات مساء حينما سألته عن السر في تلك الشجرة التي تقوم أعلى الكثيب وحدها في الصحراء :
- لا تعجب يا بني .. هذه ليست شجرة .. إنها عصا .. عصا سيدي الولي اخضرت و نبتت أوراقها ..كان سيدي الولي متآخيا مع سيدي ولي آخر في خلوة .. و كانا قلبا واحدا ، و يدا واحدة .. و في يوم مرض يدي الولي و اشتد به مرضه حتى أشرف على الهلاك .. فلم يجد له أخوه في الله دواء شافيا في هذه الصحراء .. فتركه بعد أن ودعه .. غير أن مشيئة الله أرادت أن يموت الأخوان في دقيقة واحدة .. فأعطاه الله من القوة ما مكنه من الصعود أعلى الكثيب ، و تصويب عصاه كالبندقية صوب ظهر أخيه الذي كان قد تجاوز الوادي ماشيا .. هناك حيث تقوم القبة الأخرى .. هل رأيتها ؟ ..
- نعم
- فأطلق عليه النار من عصاه .. و تدحرج من أعلى الكثيب ميتا .. لقد ماتا في لحظة واحدة .. و انغرست عصاه أثناء انحدار جسده في ذلك المكان .. و نبتت عليها شجرة ..أو صارت شجرة ..
لكنني نسيت أن أسأل جدي حينها .. و هل يقتل الأولياء بعضهم بعضا أيضا ؟
و كل الحكاية .. أنها ظلت تراقبني زمنا حتى عرفت مكاني الذي آوي إليه .. و زمني المفضل في ذلك .. فاستغلت نوم القوم وقت الظهيرة .. و قدمت إلي ..
و لما رأيت طريقة لبسها علمت مقصدها .. فنيت الكتاب .. و اشتعلت ..
نسيت حكايات الأولياء .. و كراماتهم .. و روعة هذا المكان و أسره ..
نسيت حكايات جدي .. و شتعلت ..
و زاد الصمت .. و العزلة في اشتعالي ..
كانت هيأتها أفصح من اللغة ، و من الشمس ، و من النهار ، كانت دعوتها واضحة ..
و حرام أن لا نستجيب لهذه الدعوة السافرة ..
كانت ترتدي تنورة قصيرة ، و لم تكن ترتدي تحتها أي شيء .. أي شيء على الإطلاق ..
كانت دعوة أخرى .. تنبعث من مكمن السر .. همسا .. و بحدة ..
و كان نهداها نافران لم تشدهما بأي شيء .. أي شيء على الاطلاق .. اللهم إلا قميصا شفاف مفتوحا حتى المنحدر الصدري الصعب ..
كان صراخ جسدها بحاجة إلى ضرب بعصا قوية ..
و هكذا تلمست أسفلي .. فوجدت المطلوب ..
كان صلبا .. منتفخا .. يكاد يفر مني إليها ..
لم أخيب يومها دعوتها .. حيث أننا لم نقل لبعضنا شيئا غير التحية ..
و تركنا الكلام لجسدينا ..
تمرغنا على الرمل .. و نسمات خفيفة تعبث بصفحات الكتاب الذي بدا و كأنه مرمي هنا من سنين ..
و اختلط علي دفئها بدفء الرمل .. قلت في نفسي بخبث :
ها أنا أدفئه على طريقة جدي .. أغرسه في حر آخر .. حتى أنزع عنه برد السنين ..
واحترق العالم في سنة الهزيمة كما قرأنا في كتب تاريخهم .. و في عام نصري كما تقرؤون في كتاب تاريخي ..
لكنها بعد أن أحست الماء و شربته .. تمنت أن تلد مولودا يشبهني ..
صعقت لما أخبرتني بذلك بعد أن أخذت مائي داخلها ..
و قالت و هي متمددة على الكثيب : لطالما حلمت بهذا اليوم و هذه اللحظة ، فالسعادة لدي هي أن أحملك داخلي جسدا بعدما حملتك سنين طويلة معنى ..
و لما خلفتني شاردا أعلى الكثيب في ذلك اليوم .. أذكر أنني بكيت حتى أمطرت السماء ..
ظللت بعد ذلك أتتبع أخبارها .. أنا التلميذ اليافع .. و بي حزن و كربة .. أخفقت في عامي الدراسي .. و لما زرنا الضريح في العام الموالي .. امتنع أهلها عن المجئ ..
لكنني تنفست الصعداء ذات قيلولة حينما سمعت إحداهن تحكي بأن التي حبلت في الحرام قد أسقطت بمعرفة العجوز زوينة ..
حينها .. بكيت .. و قبلت الجدار الأبيض داخل القبة .. و أكلت قطعا صغيرة من كلسها ..
لكنها بعد هذه الحادثة بسنوات .. عادت إلي .. لا بغية أن تحبل مني .. بل لتمارس معي الجنس بين الحين و الحين .. فقد كانت من أسرة تظهر المحافظة و تنام على جيش من المومسات .. خمسة أخوات .. ثلاثة مطلقات .. و اثنتان لم تتزوجا .. لكنهما لم يعرفا للبكارة طعما .. لقد افتضضن صغيرات .. فكانت تتحين الفرص و تهاتفني .. لنلتق .. أمارس على جسدها كل أنواع المروق و بدون شروط ..
صارت تمنحني دفئا آخر .. لم تمنحني إياه المثقفات .. كنت دائما أردد المثل الشعبي القائل عندنا ( جئني بمن يفهم .. لا يهم إن كان يقرأ أم لا ؟ ) ..
و كانت زكية تفهم ..
دخلت البيت .. دنوت من أمي قبلت رأسها ..رمقتني بنظرتها الحزينة .. نظرتها التي لا أشفى منها ..
قلت لها : أحبك يا أمي ..
ابتسمت و قالت : متى ستتزوج ؟
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مهرجان مراكش السينمائي الدولي يستضيف الممثل والمخرج شون بن ف
.. تزاحم شديد حول عامر خان بمهرجان البحر الأحمر ونجم بوليوود يع
.. نسخة جديدة من بطولة ون للفنون القتالية تقام بصالة لوسيل للأل
.. بيشتغل دوبلاج تركي.. أحمد أسامة فنان متعدد ??
.. ما بين الصيدلة والتمثيل.. رحلة مريم كرم صيدلانية وممثلة