الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهر الفن تصميم وإرادة في زمن الفشل والكآبة

مسعود عكو

2007 / 3 / 30
الادب والفن


نهرٌ يشق طريقه في وادٍ كئيب ليسقي سنابل منهكة في زمن جفاف الخير، وقد لا يروي أبداً أشجاراً، أو أراضي زراعية، نهر لا يشبه كل انهار البسيطة، فيه ماء ولكن ليس للاغتسال، أو تربية الأسماك، أو سقاية أرض، نهر جارٍ بقوة يجرف كل التخلف، وعفونة فكر متأصل في ثقافاتنا الضحلة، نهر يمر مخلفاً وراءه آثاراً لفن، وثقافة، وأمل، وتصميم، وإرادة على مواصلة الحياة، ولكن بطريقة أخرى ابتكرها سغاتيل باسيل.

نهر الفن، مكتبة صغيرة قد لا تحتوي على الكثير من الكتب لكنها غنية بنوعيتها، دينية، ثقافية متنوعة، اجتماعية، قضايا الشعوب، فن، روايات عالمية، تاريخ، سياسة، أديان، لغات، قواميس، فلسفة، شعر، وحتى قصص الأطفال، وجدت مساحة لائقة بها في هذه المكتبة ناهيك عن الجرائد، والمجلات، ولوحة إعلانية صغيرة. معرض فني يعرض كل شهر عدة لوحات لفنانين، ورسامين، ومصورين ضوئيين كان أخر معرض هو للأب واهان هواكيميان، وختم كل فنان نهاية معرضه بتوقيع على لوحة نحاسية رأيت أسماء كثيرة منها جورج أمبارجيان، ديبار أسادور أبارتيان (ديبا سار) ديكران كريكوريان، سوزان قيومجيان، مرسم أرشيل غوركي للفنون الجميلة، ماري بدوي سلمو، كارولين مومجي، مارك أليكسانيان، أكرم تاني، أرميناك أوسيبيان، ألكسندر ديروبيان ، وحتى سغاتيل باسيل نفسه. مقهى، يقدم كتاباً بدلاً من الأركيلة، والشطرنج بدلاً من طاولة الزهر، وورق الشدة.

سغاتيل باسيل شاب أرمني والده من ديريك (المالكية) أما أمه فهي حلبية. في الثلاثين من العمر درس في لبنان هندسة ديكور، ثم انتقل إلى أرمينيا، وتخرج من جامعاتها حاملاً معه دبلوماً في العلوم السياسية. لكن الزمن، والقدر كانا أقوى فعلا من هذا الشاب الطموح، والمتفوق، والمثقف رجل ضرير إثر إصابة بمرض السكري، والذي يعاني حتى الأن منه.

سغاتيل باسيل هذا الشاب المغلقة أمامه كل أبواب الحياة لأنه فاقد نعمة البصر ابتكر مقهىً لتقديم الكتب للثقافة، والمطالعة، والمعرفة، بدلاً من أن يحول محله الكائن في شارع الفيلات أمام الكنيسة الأرمينية بحلب إلى مقهىً يقدم الأركيلة، والقهوة، والشاي، وورقا للعبة الشدة، وطاولة النرد، أو يحوله إلى أي مركز تجاري يدر عليه أرقاماً مضاعفة مما هو الأن مردود مقهاه الثقافي حيث لا يكاد يسد حاجات، ونفقات المقهى هذا المقهى الذي يمكن أن تشرب فيه القهوة، والشاي حتى بدون أن تدفع ثمنها. لكن عليك قراءة كتاب، أو مشاهدة المعرض الشهري، أو حتى الجلوس للتمعن بالحياة، والتفكر قليلاً خارج أسوار الضجيج، وزحمة الكون الذي بدأ يستعمر أيامنا، ويحولها، وبشكل تلقائي إلى ماكينة، وآلة لها كل شيء لكنها تفقد الحياة، والروح.

سغاتيل باسيل قام بتصميم كل نقطة من هذه المكتبة المقهى، ويعرف كل كتاب، أو جريدة، أو صورة أين هي موضعها، وأين مكانها رغم أنه لا يبصر من الكون شيئاً لكنه يملك قلباً لديه آلاف العيون، والخلايا البصرية، وبطريقة لا يفهمها، ولا يعرفها سوى سغاتيل وحده. العالم كله بالنسبة له كتاب يتمنى أن يقرأه باستمرار، ويشجع الجيل الشاب على العودة لهذه الهواية الأرقى في سلسلة الفروض البشرية المختلفة.

الأم منى سابا التي قالت أسر أكثر بأن تقول هذه الكلمة لي بدلاً من السيدة. مديرة مدرسة المعاقين كانت تعلم، ولعقود عدة الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لغة الإشارات أصبحت، وبفعل القدر أماً لشاب أيضاً ذي احتياج خاص قد يكون هذا امتحاناً من الرب للأم منى بأنها ستكون صبورة، ومهتمة، بحيث لم يكن هناك فرق بين أطفال مدرستها وطفلها الكبير. كان كلامها دائماً شكراً للرب، والحمد لله هي راضية بقسمة القدر، ولم تيأس قط من هذه الحياة، وقالت أن سغاتيل رفض تعلم لغة المكفوفين قائلاً لها، وهل أنا ضرير. إني أرى ما لا يستطيع أي إنسان أن يراه ليست لدي القدرة على البصر لكن لدي القدرة على الفكر، والتثقيف، ومتابعة المشوار حتى النهاية.

سوزان شقيقة سغاتيل هي من تقدم الضيافة بعد أن تتقدم باتجاهك بخطى محسوبة لكي لا تصدر أية ضجة لتقلق راحة الجالسين المنهمكين في القراءة، أو الرسم، أو حتى حديث عاشق مع عشيقته، أو صديق مع صديقته فتكون مضطراً أن تتكلم بهمس تطلب منك سوزان أحياناً تكرار طلبك بعد عدة دقائق يقدم لك طلبك مع ابتسامة تخجل أن لا تبادلها نفس الشيء.

العم آكوب باسيل، والد سغاتيل مستقر في حلب منذ ثلاثين سنة، تكلم معي بالكردية بعد أن عرف بأنني كردي من قامشلو، وبدأ يرحب بعبارات لطيفة خجلت أنا، وصديقتي بدور، وصديقي أحمد من كلماته الطيبة، والحنونة. كان نوعاً آخر من الرجال خريج الهندسة المدنية من يوغسلافيا السابقة، ومثقف من الطراز الرفيع عازف على آلة الجمبش، متواضع لدرجة أنه يقدم الضيافة أحياناً لشاب، أو فتاة أصغر منه بالكثير من السنون، ولكنه يحب ذلك سعياً منه، وتشجيعاً للجيل الجديد للعودة إلى الكتاب الصديق الدائم، ورفيق الحياة البشرية حقاً أنك تقرأ كتاباً، أو تتصفح جريدة، وكأنك في بيتك، أو ضيفاً عزيزاً في بيت العم آكوب، والأم منى، والأعزاء سغاتيل، وهاروت، وسوزان.

في زمن الصمت، واللا كلام. في زمن الكآبة، والفشل. أين يكون مقر سغاتيل؟
في زمن الوطواط، والأسماء الإسمنتية. في زمن المال، والعلاقات المادية. أين هو سغاتيل؟
هل يحاول أن يحور مجرى الحياة الراهنة، ولو قليلاً باتجاهها الصحيح؟
هل يحاول أن يصنع من المستحيل شيئاً؟ نعم فعل سغاتيل ما لم يستطع أن يفعله الكثيرون جعل من الفشل تصميماً على مواصلة التقدم، والتطور، وحول الكآبة إلى مستقبل زاهر بكل المقاييس جعل من الموت حياة. هنيئاً لسغاتيل، وعائلته هذا الصرح الإنساني، وهذه المبادرة النادرة في زمن فقدت الشمس نورها، والقمر أمسى نجماً كئيباً في حلكة السماء المزيفة... نعم تصنع الإرادة ما لا يصنعه أي شيء في الكون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال