الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لمسة من عالم ميت

نائل الطوخي

2007 / 3 / 30
الادب والفن


لا أذكر اليوم بالضبط. أنا في ثالثة إعدادي. أستيقظ. أدخل إلى الغرفة التي ترقد فيها جدتي مريضة منذ سنوات. بجوارها أمي التي تشير لي: مش حتبوس نينا؟ أقترب من جدتي. أقبلها على وجنتها. هي نائمة. أخرج. بعد قليل يدخل أخي. يقبلها هو الآخر. بعد قليل أعلم أن الجميع سيخرج. أمي وأبي وجدتي. سينقلانها للعلاج في شقة خالي كما قالا لي ساعتها. بعد قليل تزورنا قريبة لنا. تسألنا عن أمي. تقول لنا: البقية ف حياتكو. تقول أن جدتي توفت منذ الصباح. أظنها تكذب. بعد قليل أتأكد. لهذا قبلتها إذن.
بعد ذلك بسنوات كثيرة. ربما بأكثر من عشر سنوات. الآن أبلغ خمسة أو ستة وعشرين عاما. أبي يسير معي في الشارع. ينكت كعادته. يسألني فجأة. فاكر لما بست نينا و هي ميتة؟ أومئ بأنني فاكر. يواصل ضحكه: ماقرفتش ساعتها؟

2
نكتة: يذهب شخص ما لبيت دعارة. يصعد الدور الأول ليجد امرأة عرجاء. يقرف و يمضي إلى الثاني. امرأة مشوهة. يقرف و يواصل الصعود. امرأة مبتورة الصدر. يواصل الصعود. امرأة فاتنة. يضاجعها غير مصدق نفسه. ينتهى و ينزل لدفع الحساب. على الباب يسأله الموظف عن أي امرأة اختارها. يقول أنه اختار المرأة غير العرجاء و لا المشوهة و لا مبتورة الصدر. يتنهد الموظف. آه. أخذت الميتة يعني.

3
لنقل أن ملامسة الموت. التحقق منه. الوعي به. كل هذا يتم على الدوام بأثر رجعي. الموت فعل باطني لا نرى أثره على الجسد إلا بعد لحظات من حدوثه. أنت تشاهد الميت. ولا تشاهد الحي وهو يموت. كذلك تؤخر فجاعة الموت الوعي به. الموت هو سر الكائنات الأعظم، هو قصتها المثيرة التي تتطلب على الدوام إيجاد تفسيرات أكثر إبداعا لها.
المجازات المرتبطة بلحظة الموت كثيرة، منها نداء الموتى على أخيهم الذي سيلحق بهم. قبل موت جدتي حلمت أمي أنها تسير معها إلى بيت قديم، بيت يحوي جدي وأقرباء آخرين كثيرين توفوا من قبل. تدخل جدتي. تصعد. تلحق بها أمي. تهتف بها جدتي: استني انتي مش دورك دلوقتي. حلمت أمي بهذا الحلم، وكالعادة، لم تتذكر الحلم، ولم تتذكر الحكي عنه، إلا بعد رحيل جدتي. لا أشكك في الحلم، ولكن أشكك في تلك الآلة العملاقة التي تعمل على تطويع الموت ليس لنا، ولكن لرؤيتنا، لنوع من النقد الفلسفي للحياة، لنوع من الدراما. الموت فيلم سينمائي ونحن نقاد نشاهده ونفسر كل رموزه، نقرب الشخصيات من بعضها في شبكة علاقات تتقارب أكثر وأكثر. يحضر الأموات كلهم ليشكلوا عالما قديما، هو عالم المستقبلين في الحياة الآخرة. كل هذا يؤخر لحظة الوعي بالموت، كل هذا لا يجعلنا نعي أن الميت قد مات، إلا بعد أن ننتج القصة عنه. القصة عن موته. كل هذا يجعلنا لا نعي موته إلا بعد تقبيله واستشفاف برودة جلده.

4
ظننت في طفولتي أن الميت يغلق عينيه تلقائيا لدى موته، بعد ذلك بدأت ألاحظ حركة إغلاق الأحياء لعيني الميت. لماذا يتحتم على الشخص أن يموت وعيناه مقفلتان؟ داخل قبره، يرى الميت كل شيء، يرى كل حياته الماضية والحالية ومستقبله ومستقبل وماضي الأحياء، يرى كل ما كان محجوبا عنه في حياته، يلزم أن تكون لهذا رؤية فوق بصرية، رؤية كالأحلام، التي نغلق أثناءها عيوننا. الظلام هو منبع الرؤية الخارقة للميت. كانت الرؤية دوما مضمارا حاسما لإثبات القوة. لا نرى الله والملائكة، لا نرى الأشباح ولا الشياطين، حتى في أساطير العصر الحديث، لا نرى كائنات الكواكب الأخرى، كل هؤلاء يبثون إشارات لا رؤية كاملة. الموتي يلقون إلينا بنبوءات في الأحلام. الأشباح نسمع أصواتهم ونظل طوال حياتنا غير متيقنين من وجودهم. من هنا نزف الميت إلى العالم الذي صار من الآن فصاعدا عالمه، عالم الذين يروننا من عل، إلى الحياة الأخرى. نمهره بكونه صار كائنا مختلفا، فوق بشري، عبر إغلاق عينيه. إغلاق عيني الميت هو ثاني فعل نلمس به جلده، بعد الفعل الأول الذي نوقن فيه، بأثر ارتجاعي، أنه قد مات وانتهى الأمر، الفعل الذي نسمع به نبضاته، ملامسة قلبه أو كفه، بعد هذا مباشرة نغلق عينيه. كنت أنا من أغمضت عيني أمي بنفسي، وهي مسجاة على الرصيف أمامي. ظننتها حية. كانت عيناها مفتوحتين وكانت تبتسم. أغمضت لها عينيها فأقفلتا على الفور. هذا هو الفعل الدرامي الأول الذي يصور الموت في المسلسلات العربية: يهز الحي الجسد الميت فيسقط على الفور. الارتخاء التام، طواعية الجسد الكاملة لأصابعنا، غياب الدافع الخاص بداخله والذي يوجهه عكس ما يريده له الآخرون. الجسد هنا في كامل شيئيته، في كامل جسديته، متخلصا من كل أثر للروح وأوهامها الرومانتيكية، الجسد الميت هو الشيء بشكل مطلق، لا شيء يحرفه عن طاقته العظمى في أن يكون جمادا، في أن يكون جوالا أو برتقالة أو علبة سجائر. مفارقتنا هنا، أن جميع المتغنين بالجسد، والذين يعلونه دوما على الروح، لم يصلوا أبدا في تصورهم إلى تلك الحالة. تغنوا بشهوات الجسد، أي بحياته، أي، وبالعودة إلى الرومانسية، بروحه. لم يتغن أحد منهم بالجسد مطلق الجسدية، الجسد الميت.
في جلسات تحضير الأرواح تحضر روح الميت. الروح فقط هي التي تحضر. تتكلم داخل الوسيط، الشخص الذي يتلقى الروح داخل جسده. يتحول جسد الوسيط إلى عبد مطيع للروح القادمة بجبروتها من العالم الآخر. يتحول جسد الوسيط هنا، الذي كان منذ دقائق مفعما بالحياة، إلى آنية لا أكثر، وعاء تفور داخله روح غريبة، تشكله على هواها، مثلما نشكل نحن بأصابعنا جسد الميت بعد موته. مثلما، في تغسيله، يتمكن المغسل حتى من إخراج بقايا براز الميت ليموت طاهرا، بشكل قريب من هذا، يتحدث الجني داخل روح الشخص الذي تلبّسه. يتحدث جني ذكر بصوت ذكوري داخل جسد أنثى. يقول أنه يحبها. نعذب نحن الجسد الأنثوي. نضربه. نؤلمه بلا رحمة. لأننا نوقن أن الألم ليس من نصيب الجسد، الذي غدا جمادا، وإنما الروح بداخله. كانت هذه هي أختي، وقد حاول شيخ مسجدنا القريب علاجها من جني تلبسها.

5
كان على الموت تطويع الزفاف تحت جناحه. الشهيد هو عروس السماء، والملائكة يزفونه إلى الجنة. أمي، بعد موتها، وبعد أن شاهدها ابن عمها في المشرحة، يصف وجهها لأبي، بأنه وجه عروس. والنعش يركض ركضا في جنازته. كذلك يطوي الموت الميلاد تحت جناحه. الموت ميلاد جديد. هكذا واست البشرية نفسها، باختراع العالم الآخر، بالربط بين الموت وبين الحدثين الأساسيين للحياة، الميلاد والزواج. ولكنها فعلت الشيء ونقيضه في نفس الوقت.
في النكتة المروية قبل قليل يستنكف البطل من مضاجعة المرأة المشوهة والعرجاء ومبتورة الساق ليفاجأ بأن من ضاجعها هي الميتة. نضحك نحن على مفاجأته المقززة. يسألني أبي إن لم أكن قد قرفت وأنا أقبل وجنة جدتي الميتة والمسجاة على الفراش. الميت عريس السماء، هذا صحيح، ولكنه مقزز. أو بالأحرى أن جثته هي المقززة، جسده البارد. توقيره هو توقير ظاهري. ودفنه، تغطيته بكفن، واحترام جثته، كل هذا يخفي قرفنا منه. في ميدان الإيروتيك تتصارع الرغبتان، الاحترام الظاهري والقرف الدفين، عرس السماء، الجنازة/ الزفاف، يتجهان بالميت، في نعشه الراكض، نحو الممارسة الجسدية للحب، نحو مضاجعة الحوريات، ولكننا نرى، تقبيل الوجنة يستدعي القرف. مضاجعة الموتى غير موجودة إلا في قصص الرعب. ينهي كورتاثر قصته بمضاجعة البطل للمرأة الغريقة، نكتشف نحن أنها غريقة وميتة، يعوض هذا الاكتشاف حيلته التقليدية التي يضعها في نهاية قصصه. أي أنه هنا تكمن لذوعة القصة: القرف، الاتصال الشاذ، بين الجسد الحي وأخيه الميت.
لا اتصال بين الأحياء والأموات، الميت عريس السماء وليس الأرض، الموتي يزوروننا في ميادينهم: الأحلام، أوهام المتوحدين، تفسيرات القدر. ولكن في ميدان الملامسة المباشرة، ينتقم الأحياء لعجزهم، ينتقمون لرؤيتهم الأرضية والنسبية، يحولون الميت، ذا الهيبة المطلقة، ذا الرؤية النافذة وممثل روح القدر، إلى مجرد جسد مقزز، جسد ملقى لا يطيق ملامسته أحد.
في أثناء الاحتلال الأمريكي للعراق، مثّل متمردون عراقيون بجثث عدد من الأمريكيين، قام في إثر هذا حصار الفلوجة. كان من المثير وقتها رؤية الأمريكيين وهم تحركهم نفس القيم الميتافيزيقية التي حركت العراقيين المتمردين. التمثيل بالجثة، إهانة الجسد الميت، يقتضي قتل الكثيرين من الأحياء. للميت حرمته، وهذه الحرمة هي، بغض النظر عن كونها نابعة من الاحترام، هي نابعة أيضا من مناعة الجسد الميت ضد اللمس، اخترعت الشعوب الحرمة لتبرر نفسها تحصين الجسد الميت، دفنه داخل كفن أو داخل تابوت داخل قبر في عمق الأرض. وحدها الديدان يمكنها الوصول إليه. تكفيه كائنات العالم الآخر التي يتصل بها ليلا ونهارا. تكفيه الملائكة والأشباح والشياطين والحالمون.


6
الموت بوابة الحياة. بهذا المعنى ليس من ممر واصل بينهما، الحجرتان مفتوحتان على بعضهما بشكل مطلق. لنتذكر أن البرزخ هو واحد من الأمور الذي عانت الأديان في شرحه للمؤمنين، البرزخ، ذلك الممر الواصل بين الحجرتين، يعمل ضد الوعي المطلق للمؤمنين: الموت نقيض الحياة وكفى. لم يفهم المسلمون إلا بصعوبة حالة السكتة الدماغية. واضطر الفقهاء حينها لإصدار الفتاوى باعتبارها حياة. فلا يمكن الوصول إلى حالة ثالثة بين الموت والحياة، مثلما لا يمكن للاتصال الجسدي أن يحدث بينهما. هكذا فغرت الشعوب العربية عيونها وهي تتابع تأخر موت الملك حسين يوما واحدا بعد موته إكلينيكيا. غير أن القدر كان يلعب لعبة خبيثة. كان يعد الشعوب العربية، يطهوها على نار المفاجأة الخافتة، ليضعها في النهاية أمام أكثر حالات الموت إشكالية: انهيار الجسد الهائل لشارون.
تسبب شارون في مذبحة صبرا وشاتيلا. بهذا المعنى فقد تسبب في كتابة رواية "الحب في المنفى" لبهاء طاهر، والتي تدور في فصول كثيرة منها حول بيروت 1982. في مشهد من الرواية يصف صديق البطل المجزرة، يقول إن السيدات مبتورات الصدر ذبيحات في الشارع والذباب يأكل من دمائهن المتجلطة. يضطر البطل المستمع لكتم صوت تقيؤه. هنا تفيض مشاعرصديقه فيبكي. الذبابة، هذا الكائن الحقير، في هذه الرواية، تفيض بالحياة، في مقابل الجسد الميت الملقى بلا حول ولا قوة، للإنسان، ذاك الكائن الجليل. الذبابة تأكل من الجسد، من جسد المرأة، من مكان ثديها المبتور بالأحرى، كل الدلالات الإيرتيكية متوافرة هنا، المزج بين اللعق والمضاجعة، مص الحلمة والرضاعة من دمها، كلاهما يؤديان دورا في ذلك الاتصال بين الجسد الحي والجسد الميت.
لدى عبوره البرزخ العلماني، لدى سقوطه في الغيبوبة الدماغية الطويلة، وزع الكثير من الفلسطينيين الحلوى انتقاما لأنفسهم من شارون، شارون الذي ذبحهم في 1982 ومنذ 2001 فصاعدا. هكذا ينتقم الله منه. شيئا فشيئا، ومع استمرار سقوطه في الموت الذي ليس بموت، بدأ المشهد يأخذ أبعاده السريالية: شارون يعبر أطول نفق يفصل بين الموت والحياة، هذا النفق العبثي، هذا النفق/ العقاب، الذي تمنى كثيرون أن يطول لكي يستمر الألم. الراحة متوافرة في الحجرتين، حجرة الموت والحياة، أما البرزخ، فهو، بسبب عدم منطقيته، بسبب غرائبيته أولا وأخيرا، فهو الجحيم الحقيقي. بهذا المعنى كفر المؤمنون بالعالم الآخر. قيل أنه لو مات سيستريح، تم التغاضي عن إمكانية العقاب في العالم الآخر، تم إبعاد جهنم من الوعي العام، نسيت وأهملت. وحده النفق العبثي الكابوسي، النفق الذي يلامس بين الموت والحياة، هو ما بدا خارجا عن قواعد المنطق، هو ما بدا شيئا جحيميا بامتياز، هو ما بدا العقاب الذي يستحقه شارون، شارون الذي تمت تحت إشرافه مذبحة صبرا وشاتيلا، المذبحة التي رفض فيها دفن أجساد الموتى، رفض تحصينها ضد لمسات الأحياء، إلى أن امتلأت شوارع المخيمات بها وفاحت روائحها لتزكم أنوفهم، أنوف الأحياء.

7
أنا نائم على السرير. مريض بالتهاب الكبد الوبائي منذ أشهر عديدة. خالي يعالج في المستشفى علاجا مكثفا. مريض هو الآخر. تليفون يصل بيتنا في صباح بارد. ابن خالي. تصرخ أمي: لا. ثم تنهي المكالمة. تخرج. قبل أن تخرج تسر لي بأن خالي قد مات.
برغم مرضي، و برغم أن أمي كانت تعلم جيدا أن مريض التهاب الكبد الوبائي يحتاج الراحة التامة على السرير، حملت لي عيناها نظرة لوم على عدم حضوري عزاء خالي. فيما بعد، في شجار بيننا، ستظهر النظرة على هيئة كلمات. سأفهم حينها أنها غير مقتنعة بأن مرضي كان عائقا جديا أمام عدم الحضور، ستهمهم همهمة ساخرة ترد بها على حججي.
أرادتني أمي بقوة في وداع الجسد الراحل. كنت شبيها لخالي على كل المستويات. كنت ابنا له وليس لأبي. هل رأت أمي في مرضي شيئا ما، شيئا يواصل سلسلة موت خالي، بعد موت جدتي بسنوات قليلة؟ الميت المستقبلي، أنا، ينعي الميت الحالي، خالي. الجسد الممدد ولكنه مازال يحوي بعضا من الحياة، يحمل الجسد الذي استلقى إلى الأبد، إلى الأبدية. قالت لي أنه كان بإمكاني القدوم بتاكسي إلى العزاء و العودة في نفس الوقت.
هكذا تخيلتني أمي وقتها: مريضا وواهنا وبطيء السير أقدم واجب العزاء، وقد هبط وزني كثيرا أثناء المرض. حفل للموتي هو. الجالسون في العزاء هم أنصاف مومياوات، ليسوا حزانى. ليس الحزن هو العامل المشترك في العزاءات، وإنما الحكمة، الشيخوخة، السير الوئيد نحو الموت. نلبس قناع الأموات لنحاكي الجسد الميت في وداعه. مرة ثانية، الأحياء لا يتصلون بالأموات. لا يتعايشون معهم، تعايشهم سويا هو أمر كارثي، هذا ما يمكننا تعلمه أيضا من حوارات فيلم "الآخرون" لإليجاندرو أمينابار وتأملات رواية "كل الأسماء" لساراماجو. كانت أمي قد قضت قبل هذا بشهر تقريبا ليلة كاملة تبكي وهي تقول أنني أموت شيئا فشيئا، بسبب نتائج تحاليل الدم الآخذة في الانحدار. كان لديها ميتان، أحدهما تام والآخر افتراضي. الحي يتصل بالحي والميت بالميت، ونحن، أنا وخالي، شبيهان في الاثنين، في الموت والحياة.
بعد موت أمي بيوم، ارتكب أخي عملا جنونيا وثوريا. أقاربنا جالسون في بيتنا. لا أحد يتحدث عن الانتحار. هذا سر تواطأ الجميع على كتمانه. يرشفون القهوة بإيقاع منتظم. يفتح أخي التليفزيون. موسيقى تنبعث منه. يتطلع إليه الجميع. هو يخرق بهذا التواطؤ المتفق عليه بين الموتى والأحياء في أن يشبه كل منهما الآخر في هذه اللحظات. لا يثور في وجهه أحد من الحاضرين. فقط يطلب منه قريب عجوز باستياء أن يغلق التليفزيون لأن "احنا ف إيه ولا ف إيه". لم يكن رد فعل القريب عنيفا وإنما مستاء بهدوء، كالأموات بالضبط. الموتى لا يثورون وإنما يعنفون بقوة صارمة وهادئة، في نظرات أعينهم، في الأحلام وفي الصور المعلقة لهم على الجدران. نحن الأن في الموت، نزور مملكة الموت، وعلينا أن نلبس قناع الموت حتى نعود. وما يفعله أخي ينتمي إلى الحياة، إلى اللامبالاة، إلى السطح وعدم الاستغراق، باختصار، إلى كل ما هو خارج القبر.
هل لهذا منعت جدتي أمي، في حلم الأخيرة، من الدخول وراءها إلى البيت الذي يفترض أن يكون مقصورا عليها؟ ليس فقط لإشفاقها عليها، ويقينها بأن ابنتها ستعيش طويلا بعدها، وهو ما لم يتحقق، ولكن أيضا لأن هذا البيت يفترض أن يكون مغلقا على من يعيشون فيه، لا يسمح للغريب أن يرى ما بالداخل. هو مطبخ كبير لما يحدث في العالم الذي يتجاوز رؤيتها وتصوراتها، مطبخ غير متعين يتنقل مكانه دوما، وفي الرواية الواحدة، ما بين عمق القبر ورحابة السماء.

8
العيش سويا، اللمسة الممتدة من الجسد الحي إلى الجسد الميت، ليس نهايتها الموت، وإنما ما هو أفظع: الرعب.
__________
www.naelaltoukhy.blogspot.com

عنوان المقال مأخوذ من عنوان مجموعة الكاتب المصري مصطفى ذكري "لمسة من عالم غريب"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي