الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حصاد السنين

سعدون محسن ضمد

2007 / 4 / 4
حقوق الانسان


في ميزان الربح والخسارة لا توجد كفتان فقط، بل ثلاثة... نعم، ثلاثة.. واحدة للربحان والثانية للخسران أما الثالثة فـ(للبطران). والبطران هو الذي يَعْلَم سلفاً بأنه ممنوع عن امتيازات الرابحين ومع ذلك يكد أكثر من كدهم.
تسمية كفة للبطران في معادلة الربح والخسارة، فكرة رادوتني وأنا استمع لصديقي مزهر جاسم الساعدي، وهو يروي لي تفاصيل لقائه بالبروفسور متعب مناف جاسم. كان مزهر على موعد معه لغرض استلام دراسة مكتوبة لصالح مجلة مدارك. مزهر جاسم كان مسروراً جداً وهو يحدثني عن متانة الدراسة التي حصلنا عليها من هذا المفكر الرائع، وغنى مادتها، وأهمية نشرها بمجلتنا. لكنه سرعان ما قطب عن حاجبيه فجأة، ما أن سألته عن صحة الدكتور متعب، وراح يسرد لي بحزن بالغ كيف أن هذا الرجل الذي أنهكته سنين الدراسة والتدريس والبحث، مهمل جداً ومتعب إلى أبعد الحدود. يعاني المخاوف وهو يعيش بأشد مناطق بغداد خطورة. أنا حقاً لم أصدقه وهو يقول لي بأن د. متعب جاء إلى الموعد سير على قدميه.. طبعاً الرجل فعل ذلك، احتراماً لموعده مع المجلة وأيضاً احتراماً لالتزامه مع الجامعة، ذات الجامعة التي تهمله الآن، وأهملت قبل ذلك أستاذه المفكر الكبير الدكتور علي الوردي وبخلت عليه حتى بالألقاب العلمية، الألقاب التي كانت تبعثرها يمينا وشمالاً.
يا إلهي سيراً على الأقدام؟!! (سألت مزهر).
دهشتي من هذا الموقف لم تقتصر على ما يشكله جهد المشي من خطورة على صحة هذا المفكر، لكن على أمنه الشخصي، وفي بلد مثل العراق، يغرق بجنون قتل العلماء، كيف يمكن لمتعب مناف أن يخاطر بالسير على قدميه، ويخترق أكثر المناطق احتراقاً بجنون الاغتيالات.
اللعنة على بلد لا يحتضن مفكريه، ولا يجمع بأحضانه الدافئة غير القذرين والوصوليين والتوافه المنافقين... اللعنة على مجتمع لا يحسن إلا ذبح مبدعيه.
في المناطق الخضراء الآمنة ثمة الكثير من البيوت الفارهة المحروسة بإحكام، ومع ذلك هجرها سكنتها من النواب والساسة، وتركوها فارغة، وتركوا قبلها واجباتهم معطلة. وفي المناطق الساخنة ثمة الكثير من العراقيين ممن يرفضون أن يتخلوا عن واجباتهم، بل قل عن قيمهم، ويتنعموا بفنادق دول الجوار. متعب مناف يسكن بمنطقة أقل ما يقال عنها أنها ساخنة، ومع ذلك لا يتخلف عن دروسه قط. يعيش جنون التفخيخ والتهجير لحظة بلحظة. ولا يتوقف له قلم قط، بينما برلمانيوا العراق يعيشون بمناطق محمية لدرجة أن لا يستطيع اختراقها حتى عزرائيل بجنوده، وهم مع ذلك يتذرعون بالأخطار ويعطلون كل شيء في هذا البلد. لماذا لم تنقلب هذه المعادلة؟ لماذا لم يجلس أمثال متعب على مقاعد البرلمان؟
إن المقارنة (المهزلة) بين نائب في البرلمان لا يعرف له تاريخ، أو يعرف له تاريخ غير مشرف، ومع ذلك يحصل على كل الامتيازات المتاحة لإنسان، وبين مفكر تحرمه نزاهته من كل امتيازاته وفي كل سنين عمره. ابتداء من سنين الدولة التي أعدمها صدام ووصولاً لسنين الدولة التي أعدمت صدام.
أقول إن هذه المقارنة هي التي كشفت لي عن وجود الكفة الثالثة في ميزان الربح والخسارة.. نعم كفة الـ(بطران). فنائب البرلمان لا يمكن أن يكون خسراناً بكل الحسابات، المادية منها والمعنوية، فهو من جهة معنوية؛ مجاهد، وسيحصل على أعلى مراتب الجنان، وهو من جهة أخرى، كفاءة سياسية، ومن حقه أن يتمتع بأرفع الامتيازات الدنيوية. والمفكر مثل متعب مناف، لا يمكن أن يكون (ربحان) أيضاً بكل الحسابات.. فلا هو متمتع بالمعنويات، ولا هو غارق بالماديات، ولأنه لا يصدق عليه أنه خسران؛ على الأقل لأنه لا يعترف بالخسارة؛ احتراماً لنفسه وعلمه. فهو إذاً لا (خسران) ولا (ربحان).
وأنا إذ أقدم احترامي وإجلالي لمفكر بطران يسعى على قدمين متعبتين ليستمر بخدمة مجتمع لا يثمن خدمته، أقدم بذات الوقت عدم احترامي لهذا المجتمع، الذي يكافئ أبناءه بالذبح والخطف، أو في أحسن الأحوال بالإهمال.
علي الوردي الذي عانى ما عانى أيام حياته، كان على فراش الموت يوم أقيم حفل تكريمي له، فما كان منه غير أن أرسل رسوله للمحتفلين لينقل لهم عن لسانه هذا البيت الشعري:
أتت وحياض الموت بيني وبينها... وجادت بوصل حيث لا ينفع الوصل
علي الوردي اعتبر بأن الحفل التكريمي الذي يقام له وهو على فراش الموت غير نافع، إذ كان الأولى أن يتمتع بهذا الامتياز قبل ذلك بكثير، بالتالي فإن كل الاحتفاء الذي أحيط به هذا الاسم الْعَلَم بعد وفاته، هو احتفاء زائف، يقوم به مجتمع يغرق بالزيف. وعلى هذا الأساس فإنني أكاد أجزم بأن علي الوردي عرف أخيراً ـ وهو يتمثل بالبيت السالف ـ بأنه محكوم عليه بأحكام الكفة الثالثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا


.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ




.. الجنائية الدولية.. مذكرتا اعتقال بحق مسؤولَين روسيين | #غرفة


.. خطر المجاعة لا يزال قائما في أنحاء قطاع غزة




.. ما الأسباب وراء تصاعد الجدل في مصر بشأن اللاجئين السودانيين؟