الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية مع الماغوط

نادر قريط

2007 / 4 / 5
سيرة ذاتية


قبيل انعطاف الألفية، وبينما كانت طائرات الناتو (تنشر الديمقراطية) في بلاد الصرب، التقيته في مدينة (ليالي الأنس)... الماغوط بلحمه وشحمه وعينيه الزرقاوين، وصوته الأجش، ووشم الغزال(البدائي) علي يده، ومحفظته الجلدية التي تأبطها كتلميذ...ومثل باقي النكرات في هذا العالم، عرفته بنفسي، فلمحت في وجهه انزعاجا وتململا..مما اضطرني إلي تقديم شهادة خلوّ من الأمراض السارية (الإخوان) وكذلك براءة من إفك (جماعات حقوق الإنسان المشاغبة) كي أهدئ من روعه !! لا أنكر أنها طريق وعرة، تلك التي بدأت..فما هكذا يكون رثاء الشعراء؟ لكن ما العمل إذا كنت مملوكا بإرادة الفوضي واللا أدرية...وقول كل مالا تحمد عقباه؟ ما العمل إذا كانت الذكري قد حفرت في مخيّلتي، كالحروف المسمارية....هذه هي الحقيقة العارية التي رأيت.... فالشاعر بدا لي مسكونا بالريبة والتوجس..لكنه كأي شاميّ حاذق (لا يرمي كل الجمرات بل يحتفظ بإحداها بين ملابسه، أملا في صفقة ما مع إبليس) وكانت الصفقة، وأصبحت ضمن ثلة ضيقة أحاطت به، ورافقته كعكازه الذي يتكيء عليه.
خلال تلك الأيام المعدودات، كنت أذهب يوميا لاصطحابه هنا وهناك.. قال لي: لا أحب الطبيعة والغابات ولا الجبال، لأنها غبية بكماء.. أفضّل الأرصفة المكتظة بالناس... وقال أمام الجمهور: أدونيس... هو عديلي علي مضض..لكنه أضاف (فيما بعد) أحب فيه روحه الكريمة وثابته ومتحوله (حتي وإن كان مدعوما من الفاتيكان!!)
في إحدي الأماسي، لبي دعوة أقامها علي شرفه بعض السفراء العرب، بحضور الكاتب المنفي نصر حامد أبو زيد، ويبدو أن السهرة لم ترق له..فعاد إلي عش (الصعاليك) حيث أكمل السهرة بالتندر علي أحد السفراء (كان للصدفة شاعرا لوذعيا، دوّخه بما فاضت قريحته من قصائد عصماء)....وكما أسلفت، كان الماغوط متوترا مرتابا ومتوجساً، كقروي يدخل مدينة لأوّل مرة..وما أثار دهشتي نفوره من المعارضة...لماذا لا تعودون إلي الوطن؟يهمس أحيانا: هل هؤلاء من الإخوان؟ في الحقيقة لم أكن أتخيّل أن شاعرا بقامته، يخشي عاقبة الأمور، واحمرار عيون الدولة وغضبها عليه.. وكأنه يقول إن بلادنا المحكومة بطارئ القوانين قد لا ترحم شيخوختي !!! فهمت ذلك، لكن الذي أثار حزني فيما بعد نصّه الذي تعرض لذكر مدينة فيينا، وكيف أن المظاهرة الوحيدة التي شارك فيها (سهوا)، ورقص، ولوّح بعصاه، كانت مؤيّدة لأمريكا، مما اضطره في اليوم التالي لمغادرة تلك المدينة؟؟؟؟في هذا النص تحوّل الماغوط إلي(أبو سيّاف الزهور)...لأن المظاهرة التي شاركته فيها (مع صديق كردي) حدثت بالفعل أمام الهوفبورغ (المقر الإمبراطوري السابق لعائلة الهابسبورغ الشهيرة) وبالفعل لوّح الماغوط بعصاه، وسط حشد من الصرب..الذين رفعوا أعلام بلادهم، احتجاجا علي قصف الناتو...بعد هذا الرثاء (المفعم بقلة الوفاء والحياء) أعود لألملم الموضوع !! فالماغوط ليس بحاجة لشهادتي، لأنه كقمم الجبال التي لا يمكن أن تحجبها أصابع اليد...يكفيه أنه روّض النثر العربي وصيّره شعرا..يكفيه أنه حوّل الحياة المنقوعة بالحزن والجوع إلي صور مدهشة..وسالت لغته كصمغ الأشجار الاستوائية...الشاعر الذي خان وطنه (في مجموعته سأخون وطني) فقلده الناس أرفع الأوسمة..إنه تلك الروح المشاكسة، التي تبحث في ركام البؤس والهزيمة، عن صدمة شعرية فذة...وترسم علي الورق دخان البيوت، والارصفة والشوارع، والسعال والبصاق، كوطن هائم يتسع للخبز والكرامة والحرية....وفي أتعس نوباته الشعرية، تراه يقود جموع البؤساء في عالمنا العربي، ويضع قدمه علي قبر بلفور، شاكيا من المحرقة العربية، ومطالبا بوطن قومي (وإن كان علي مزبلة)....هذا هو الماغوط كما في حياته وأدبه، رجل يكره المنطق والجدل، فتراه يغرف صوره وأحلامه من هارفرد (الرصيف) وسوربون (السجن)، هناك صقل موهبته في إبداع الصورة (التي كانت دوما سر أصالته)....هو الذي وصف العجز بخنفساء مقلوبة علي ظهرها..وشبه الهزيمة بجيش يجلس القرفصاء...هو من طالب الغيوم بالرحيل، فأرصفتنا ليست جديرة (حتي بالوحل).........كان يرتدي البيجاما، ويدور في تلك الشقة الصغيرة..علي الطاولة وضع صحنا، فيه بعض قطع الطماطم، وفي يده كأس مترعة دائما وأبدا، وبين أصابعه سيكارة تكاد لا تنطفئ.. وقبيل الخروج، تعّود أن يقف أمام المرآة، وينظر مليا في هيئته، ويوازن قبعته... قال له مضيفه: هذه جاكيت من الحرير الخالص (قدمت له هدية).. أجابه: أنا أفضّل الجنفيص الخالص..صديقي التونسي لم يفهم ما قصده، فتطوعت مترجما (الجنفيص، من خيوط القنب، تصنع منه الأكياس)........ومما لا ينسي أبدا، علاقته الغريبة برجال الدين، فهو لا يخفي مقته للحكم الديني (مع العسكر يمكنك أن تشرب كأساً وتتفاهم، مع رجال الدين لا كأس ولا تفاهم). وأضاف: في إحدي المرات، دعيت لحضور مهرجان انتخابي (حضره لفيف من الوجهاء) وكان من سوء طالعي أن أجلس بجانب مفتي الجمهورية، الذي لم يخف تبرمه وتأففه...باغتني بعد برهة قائلا: سمعت أن شاعرنا أصبح يثقل في الشراب...أجبته: أجل...حتي استطيع انتخاب هذه الوجوه المقيتة... ولن أنسي القصة التي ذكرها أكثر من مرة، ومفادها أن إحدي المحطات (لا أدري إذاعية أم تلفزية) اتصلت به مهنئة إياه بحلول شهر رمضان.... وعندما سألته المذيعة، عما يفعله الشاعر الكبير في هذا الشهر الفضيل. اجابها: (عم بسكر) أي أشرب الخمرة، مما سبب قطع المقابلة... أضاف: قطعوا الخط، ولم يعتذروا...عمي بقلبهم...هل يريدون أن أكذب عليهم؟؟ ولا أدري إن كنت قد كذبت عليكم؟؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نواكشوط تعلن اقتناء جيشها مسيرات وأسلحة متطورة، لماذا؟


.. مندوبة بريطانيا بمجلس الأمن: نحن فى أشد الحاجة لتلبية الحاجا




.. الجيش الإسرائيلي ينشر مقطعا لعملية تحرير 3 رهائن من غزة| #عا


.. عاجل | مجلس الأمن يتبنى قرارا أمريكيا يدعو لوقف إطلاق النار




.. نتنياهو يلتقي وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في القدس