الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفسير غير تآمري للتعديلات الدستورية المصرية

مهدي بندق

2007 / 4 / 5
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


دعنا نتخيل أن القطار الذي حمل لينين من سويسرا إلي روسيا عبر ألمانيا عشية الثورة البلشفية,اتخذ الطريق المعاكس إلي الحجاز عبر ألمانيا فتركيا. فبغداد تري هل كان ممكناً لهذا المنظّر والمنظم الماركسي الفذ أن ينقل مجتمع الحجاز ولو خطوة علي طريق التحديث بله الثورة ؟
بالطبع لم يكن هذا ممكناً, ذلك لأن الظروف الموضوعية للحجاز كانت تفتقر إلي العناصر التي توفرت لروسيا في ذلك الوقت, فليس ثمة رأسمالية ولا بروليتاريا ولا حتي إصلاحات شبيهة بتلك التي جرت في عهد القيصر الاسكندري الثاني(1855 إلي 1881) بمقتضيات التطور الصناعي حيث حٌرم الرق ,وأنشئت الحكومات الذاتية في الأقاليم,ومٌدت خطوط السكك الحديدية,ووضع نظام متطور للتعليم....إلخ. فكانت تلك كلها إصلاحات نقلت بالفعل روسيا المتخلفة إلي مشارف الدولة الحديثة.وأما بالنسبة للحجاز,فلم يكن شيء من هذا قد حدث إطلاقاً,فماذا كان علي لينين أن يفعله؟
والمغزى أن الظروف الموضوعية,والتي تتمثل في الواقع االديموجرافي ودرجة التطور الإنتاجي وبالتالي الإجتماعي والسياسي, هي التي تسمح أو لا تسمح للأفراد- أيا كان شأنهم- أن يحققوا من خلالها مشاريعهم وأمانيهم.
فإذا صحت هذه الرؤية للأحداث التاريخية الكبري- وهي صحيحة من وجهة نظر علم الإجتماع- لانتفت نظرية المؤامرة التي تتبناها اتجاهات ما قبل الحداثة Pre-Modernism إذ تتغلب عندها العوامل الذاتية علي ما هو موضوعي هيكلي.
ومن هنا يصبح قول القائلين بأن التعديلات الدستورية الأخيرة ليست إلا تمهيداً لمبدأ توريث السلطة, محض تخمينات, أو علي الأكثر مجرد مناورات سياسية هدفها نقل الخصم السياسي إلي خنادق الدفاع , وفي نفس الوقت تغدو بمثابة تبرئة للذمة من التقاعس عن العمل الجاد لإستثمار الظرف المتاح تحقيقاً لأهداف تاريخية ممكنة. و الحق أن حركة التاريخ في مصر, كما قد تبدو للرائي غير المدقق. تكاد أن تكون جامدة جمود ما يعرف بـ "النمط الآسيوي للإنتاج" المعبر سياسياً عن أشكال الحياة في مجتمعات الزراعة علي حوض النهر الواحد,أو حتي الحوضين,إذ يحتاج الناس لدواعي الإنتاج واستقراره إلي حكومة مركزية قوية, ما تلبث حتي تتحول إلي دولة شاملة , وتنبثق عن شموليتها فكرة ألوهية الحاكم ومعصوميته مقابل هامشية المحكوم ورضوخه القانع.
والحق ايضاً أن هذا النمط لا غرو متسبب في طبع الجميع بطابعه التراتبي ابتداء برأس الدولة وحتي رأس العائلة أو الأسرة, فالكل مستريح إلي وضعه ولا يحبذ غيره بديلا. هكذا ظلت مصر خاضعة للفراعنة ثم للإغريق فالرومان فالعرب الولاة والسلاطين, مكتسية بثقافة الجمود المغفلة بشعار "الإستقرار خير من الفوضي".
بيد ان الغائب في تلك الرؤية التي تكرس " الثوابت" وتأبي الإعتراف بالمتغيرات,أن المجتمعات الإنسانية ليست نظماً مغلقة علي ذاتها, فحتي الصخور تتغير علي سطح الأرض و في باطنها. وآية ذلك أنه منذ ولدت الرأسمالية مع مشارف القرن السادس عشر,راح التغيير يكتسح النظم في أوربا حتي أطاح بها تماماً, ليس النظم فحسب بل وثقافتها أيضاً. ومع الرأسمالية انطلقت حركة الاستعمار تفتح الأسواق في كل مكان علي الأرض, وكان طبيعياً أن تنشيء تلك الحركة صناعات معينة في بلدان المواد الخام ذاتها, جنباً إلي جنب لجوء هذه البلدان إلي إقامة صروح خاصة بها, لكي تلحق بركب التطور الذي أبصرته يمر أمام أعينها مرور الضوء في الظلام.
وفي ذلك السياق قام محمد علي والي مصر بـ" تصنيع الأرض الزراعية" من خلال زراعة القطن,فنشأت حاجة البلاد إلي أسواق لتصدير منتجات النسيج, ولعل هذا أن يفسر الأسباب لصدام محمد علي مع انجلترا في النصف الأول من القرن 19 بينما أدت الهزيمة إلي انكفاء مصر علي نفسها لعقود تالية,تلعق فيها جراحها وتحاول الخروج من الأزمة المالية الطاحنة جراء الإنفاق العسكري علي الحروب العديدة, وأيضاً جراء إغلاق الأسواق الخارجية في وجه المنتج المصري الوليد.
هنا لم يكن أمام الدولة من سبيل سوي أن تقلص من احتكارها لملكية الأرض الزراعية ببيع جزء كبير منها للأعيان وللتجار وكبار الموظفين وضباط الجيش, ومن أجل ذلك صدرت اللائحة السعيدية عام 1852 وقانون المقابلة عام 1857 لتظهر بعدهما طبقة ملاك زراعيين, سرعان ما طالبت بالمشاركة في السلطة, بل وعمدت بالتحالف مع الضباط" المصريين" إلي انتزاعها بالفعل فيما يعرف بالثورة العرابية, وهكذا أصدر مجلس النواب المصري أول دستور للبلاد عام 1882 أساسه إرادة الأمة, ومبناه الحياة الديمقراطية. ولكن ,ومع فشل الثورة ووقوع البلاد في قبضة الإحتلال البريطاني تم حل هذا المجلس وتعطيل ذلك الدستور.
وبالرغم من هذا, بل وبسببه اندفع المصريون وراء طبقة بورجوازية ولدت في خضم الصراع الدولي بين القوي الرأسمالية في العالمية الأولي, كان هدفها تصنيع ورسملة البلاد, والمساومة من خلال الثورة للحصول علي موطأ في سوق التجارة العالمية,فكانت ثورة 1919 تأكيداً لإرتباط التغيير في الواقع الإنتاجي بالتغيرات السياسية, حيث أجبر الملك فؤاد علي إصدار دستور ديمقراطي حقيقي عام 1923 تمخضت عنه حياة حزبية وسياسية شديدة الثراء.
فإذا انتقلنا إلي مرحلة ما بعد 23 يوليو 1952 لرأينا كيف استطاعت الدولة أن تستعيد كامل هيمنتها علي البلاد, وذلك من خلال قيامها بتأميم الشركات الصناعية والبنوك والتجارة الخارجية, مستعيدة بذلك هيئة الفرعون الأب البونابرتي المسئول وحده عن أبنائه الرعايا, وكان ذلك من شأنه أن يؤدي إلي الهزيمة العسكرية أولاً, ثم للمرة الثانية إلي اضطرار الدولة للتخلي عن ملكيتها (القطاع العام) سداداً لاستحقاقات الحرب من ناحية, ومن أخري استجابة لضغوط الطبقات الرأسمالية الجديدة, والمرتبطة بالغرب ولو في صورة الوكلاء التجاريين. وكان ذلك كله خليقاً بمولد حياة سياسياً مختلفة حلت فيها الأحزاب محل التنظيم الواحد, وانتقلت بها الدولة من موقع المهيمن الأوحد إلي موضع المتصارع مع من أطلقوا علي أنفسهم اسم اللبراليين الجدد!
وبقدر ما عكس دستور 1971 حقائق الصراع بين هذه القوي جميعاً, بقدر ما جاءت تعديلات 2007 معبرة عن مرحلة جديدة من مراحل التغيير الإجتماعي بالداخل, ومحاولة التوافق مع القوي العالمية ذات المصالح بالخارج. فالمادة الأولي مثلا ًتشير إلي قرب اندماج الأقباط في العمل السياسي, وبالموازاة تستحث الإضافة الواردة بالمادة الخامسة الأخوان "المسلمين" للتغير في اتجاه النموذج التركي, في حين تمثل تعديلات المادة الرابعة والمادة الرابعة العشرين وإلغاء المادة 59 انعتاق الدولة و المجتمع من فلسفة النظم الشمولية المسماة خطأ بالاشتراكية, وفي هذا إلماح لمقاربة لاغش فيها مع النظام العالمي بما يزيل ما بقي من حواجز البيروقراطية أمام تدفق الاستثمارات المالية ونقل التكنولوجيا المتطورة إلي البلاد , باستعداد لتحمل مغارم هذه الفاتورة الضرورية والخطرة في آن.
ويبقي القول بأن القراءة العميقة لما هو مسكوت عنه في تضاعيف النصوص إنما تؤكد علي أن الفاعلين الإجتماعيين- وعلي رأسهم الدولة طبعاً- هم الذين أنتجوا تلك النصوص من واقع توازن القوي بينهم, انعكاساً لما أسميناه في بداية المقال" الظرف الموضوعي" وهو ظرف تتغير عناصره بسرعة غير منكورة, بما يسمح للقوي السياسية أن تتحرك أكثر نشاطاً عن ذي قبل وبما لا يقاس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصور المفبركة.. سلاح جديد في حرب الإعلام بين حزب الله وإسرا


.. الجيش الإسرائيلي يؤكد مقتل حسن نصر الله وقياديين آخرين في حز




.. اللبنانيون ينصبون خياما وسط بيروت هربا من قصف إسرائيلي مكثف


.. هل شاركت الولايات المتحدة في العملية الإسرائيلية ببيروت؟ وزي




.. عاجل | رئيس الأركان الإسرائيلي يكشف كيف تم اتخاذ قرار اغتيال