الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتماء - ما قبل - الوطني

عصام عبدالله

2007 / 4 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كانت الدولة القومية قد حلت محل الإقطاع منذ نحو خمسة قرون، تحل الشركات المتعددة الجنسيات والعابرة للقوميات محل الدولة، والسبب في الحالتين واحد: التفوق التقني وزيادة الإنتاجية والحاجة إلى أسواق أوسع. فلم تعد حدود الدول القومية هي حدود السوق الجديد بل أصبح العالم كله مجال التسويق: ولتحقيق ذلك كانت الشركات تنشر أفكارًا تساعد على تحطيم موضوع الولاء القديم وهو الوطن والأمة وإحلال ولاءات جديدة محله وأفكار من نوع «نهاية الأيديولوجيا» ونهاية التاريخ و«القرية العالمية» و «الاعتماد المتبادل» … إلخ مما يصطلح استخدامه مع جميع الأمم.
بيد أن الخط الفاصل بين «الوطنية» و «القومية»، مهما كانت الشاكلة التي يفهم بها المرء كلا من اللفظتين، واضح من الناحية النظرية؛ فالأولى منها (وجدان ذاتي)، والثانية: «موقف» يمكن إدراكه إدراكًا موضوعيًا. على أنه في حالة التطبيق، غالبًا ما يكون ترسم الخط الفارق بينهما من أعسر الأمور، حسب «هويزنجا».
واللفظة اليونانية الدالة على «الوطن» هي Patris، أو «أرض الآباء»، وتقع في الكتاب الخامس من «الإلياذة»، حيث يقول «بناداروس لاينياس»: «عندما أعود إلى بلدي ثانية القي بصري على أرض مولدي وزوجتي وبيتي المرتفع…».
أما كلمة «الوطنية» فقد ظهرت فجأة - لأول مرة - في القرن الثامن عشر، بينما لم تظهر لفظة «القومية» إلا في القرن التاسع عشر «ففي اللغة الفرنسية، يعثر على لفظة - Nationalsime أي القومية مرة واحدة في عام 1812، على حين أن أقدم أمثلة «القومية» في الإنجليزية يرجع تاريخها إلى عام 1836. ومن العجب أن ذلك لا يكون إلا مرتبطًا بمعنى لاهوتي، أي في حالة الإشارة إلى المبدأ القائل بأن أممًا معينة قد اختارها الله.».
وليس معنى أن الكلمتين ومفهوميهما حديثا الوجود، أن ظاهرتي الوطنية والقومية حديثتا الوجود أيضًا. ففي عصر النهضة الأوروبية أو الرنيسانس - Renaissance، شجعت البروتستانتية بتأكيدها على الجوانية والفردية، الشعور القومي الناشئ بطريقة تفضل أحيانًا «دين الدولة»، وهي الفكرة التي استحضرها ميكافيللي من الماضي الوثني، كما عمقت بروتستانتية هنري الثامن، على سبيل المثال، من وطنية الإنجليز بشكل بالغ، وهو ما انتهى إلى تثبيت فكرة الأمة أو الدولة.
أضف إلى ذلك أن انتشار الحروب السياسية والأطماع الاستعمارية بين الممالك الأوروبية ساعد على تأصيل النزعة القومية. «وأصبح الخيار المطروح أمام الأوروبي العادي، هو خيار بين الأخوة في الدين كما كانت تبشر الكنيسة الكاثوليكية، أو الأخوة في الوطن كما كان يبشر أكثر مفكري النهضة، وحسم هذا الخيار في حالة حرب المائة عام، من القرن الخامس عشر وحتى القرن السادس عشر، بين إنجلترا وفرنسا، بانفصال كل منهما عن الأخرى بوصفهما دولتين، ولغتين متمايزتين».

بيد أنه في القرن الثامن عشر، نشأ توتر بين المفاهيم السياسية العملية لكل من «الدولة» و «الأمة» من ناحية، وبين المثل الأعلى العام لحب الإنسانية والمواطنة العالمية من ناحية أخرى، إذ لاح لفلاسفة التنوير أنه قدر للأمة وللوطن أن يدخلا في كيان انسجام الأسرة البشرية ووحدتها.
وهكذا اجتمعت في روح العصر الذي أخذ يهوى مسرعًا نحو الثورة الكبرى - كما يقول هويزنجا - فكرتان حاولتا التصدر: الأخوة الإنسانية والميل القوي نحو كل شيء يتعلق بأرض المرء وشعبه. ثم جاءت الثورة الفرنسية فانحازت للوطن الأمة، إذ لم يحدث قط أن بلغ عاملا الوطن والأمة من النفوذ الشديد ما بلغا في السنوات من 1789 - 1796.
وعلى الرغم من أن الجمعية الوطنية الفرنسية جعلت همها الأول أن تصوغ «إعلانًا بحقوق الإنسان والمواطن»، بمعنى أن الإنسان يأتي أولاً على حين يتأخر المواطن، فإن المرء ما يكاد أن يشرع في صياغة حقوق الإنسان حتى يتجلى له أن الأمر يحتاج إلى «الدولة» لتصير إطارًا لمجتمعه. فكأنه ليس من الممكن بداهة أن تتخذ الإنسانية مطية أو وسيلة تحمل عليها الحرية المرغوبة، إذ أن مقرها هو «الوطن» وموضوعها هو «الشعب»، من هنا يتبين أن الثورة الفرنسية قامت منذ البداية بتنشيط الوطنية والقومية».
وتولى الفيلسوف الألماني «هردر» Herder (1744 - 1803) تغذية فكرة «الأمة» و «الوطن»، وزود الناس بجميع عناصرها، كما أسهم أكثر من أي شخص آخر في تشكيل مفاهيم مثل «الطابع القومي» والروح القومية - Volkstum ، رغم أنه كان أبعد الناس عن التفكير على أساس الجنس والعنصر.
على أن زعيمي التفكير الاجتماعي في عصر الثورة الفرنسية كانا «روسو» Jean-Jacques Rousseau (1712 - 1778) و«مونتسكيو»؛ الأول وضع «البرنامج» لإنشاء أية سياسية قومية حقيقية في رسالته «تأملات حول الحكومة البولندية» عام 1772، وفيها أعتبر أن هدف القانون خلق روح شعبية ذات وعي قومي، وهدف التربية والتعليم المحافظة على الأخلاق والتقاليد القومية حية في قلوب الشعوب.
وفي كتابه الأشهر «العقد الاجتماعي» - Contrat social، وضع أساس نشوء المجتمع المدني في الدولة العلمانية الحديثة، وهو الأساس المنطقي لنشوء «الدولة» أو «هيئة السيادة» بتعبير روسو. ففي العقد الاجتماعي ينزل الأفراد عن بعض من حريتهم في سبيل نفعهم جميعًا: «فغاية العقد الاجتماعي هي النفع العام».
وبهذا العقد بين أحرار متساويين ينتقل الأفراد من الحق الطبيعي الذي قال به كل من «هوبز» و «جروتيوس»، منطلقين من عدم المساواة الطبيعية التي قال بها من قبل «أرسطو» و «كاليجولا»، إلى الحقوق المدنية والحقوق السياسية، وباختصار إلى المساواة السياسية.

أما «مونتسكيو» - Montesquieu (1689 - 1755) فقد عالج موضوع «المواطنة» ومفهوم «الوطنية» بالتفصيل وذلك في كتابه «روح القوانين» أو الشرائع - Esprit des Lois وسمى حب الوطن والمساواة بالفضيلة السياسية.
إن مفهوم الوطن يقترن عنده بمفهوم المساواة، المساواة في الحقوق، والمساواة أمام القانون، أو قل «المساواة السياسية»، ولذلك كان حب الوطن أو حب المساواة فضيلة سياسية. أي أن المساواة السياسية بهذا المعنى مقدمة لازمة وشرط ضروري للمساواة الاجتماعية.
لقد جعل «الوطنية» صفة للدولة وتحديد ذاتي لمواطنيها، وهي على الصعيد القانوني ترادف «الجنسية» - Nationality، وحسب «حنا أرندت» الفيلسوفة المعاصرة فإن الجنسية هي «الحق في أن يكون لك حقوق» إذ أن جميع من يحملون جنسية دولة معينة هم مواطنوها، بغض النظر عن انتماءاتهم الأثنية أو اللغوية أو الثقافية أو الدينية أو المذهبية، وبصرف النظر عن اتجاهاتهم وميولهم الفكرية والأيديولوجية والسياسية.
ويمكن القول أن الوطنية هي التحديد الأخير لمواطن دولة ما، وهو تحديد لا ينفي أو يلغي عن هذا المواطن انتماءه الأثني أو اللغوي أو الديني أو المذهبي … ولكنه ينفي أن يكون هذا الانتماء «ما قبل الوطني» هو ما يحدد علاقته بالدولة، ويعين من ثم حقوقه التي هي واجبات الدولة، وواجباته بما هي حقوق الدولة وحقوق المجتمع.
غير أن هذه «الدولة» لم تعد - بفعل الضغوط المتزايدة والمتسارعة للعولمة - كيانًا يستنفر الخضوع والتضحية والحب، كما ذهب كل من روسو ومونتسكيو وكتيبة الفلاسفة الاجتماعيين، وإنما أصبحت مكانًا للتفاوض المستمر، حيث يقيس كل شخص بصورة حادة ودائمة ما يقدمه للدولة وما يحصل عليه منها.
هذا من جهة، من جهة أخرى، فقد أدى الضغف البنيوي للدولة، وعدم حمايتها لمواطنيها من فوضى العولمة، إلى اندفاع مجموعات ومناطق عديدة للتحرر منها بالهجرة والتدويل والانفصال، أو على الأقل التلويح بالتهديد بذلك. على أن أخطر ما في الأمر هو انتعاش الانتماء «ما قبل الوطني» من جديد، والذي أصبح يهدد ما بقى من كيان الدولة الوطنية أو القومية الحديثة في الصميم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي يحذر من خطورة عمليات إسرائيل في رفح| #مراسلو_سكاي


.. حزب الله يسقط أكبر وأغلى مسيرة إسرائيلية جنوبي لبنان




.. أمير الكويت يعيّن وليا للعهد


.. وزير الدفاع التركي: لن نسحب قواتنا من شمال سوريا إلا بعد ضما




.. كيف ستتعامل حماس مع المقترح الذي أعلن عنه بايدن في خطابه؟