الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمام الإكراهات الداخلية والإخفاقات الخارجية: أي مستقبل للإمبراطورية الأمريكية؟

إدريس لكريني
كاتب وباحث جامعي

(Driss Lagrini)

2007 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


يشهد التاريخ البشري على أن مختلف الإمبراطوريات العالمية الكبرى؛ عادة ما كانت تؤول نحو الانحدار والتراجع والانهيار أحيانا؛ بعد فترة من الرقي والازدهار؛ نتيجة لمجموعة من العوامل الداخلية أو الخارجية.
وضمن هذا السياق ونتيجة لسقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وما نتج عنه من غياب منافس قوي وعنيد، خلا الجو للولايات المتحدة الأمريكية لكي تبسط هيمنتها على الشؤون العالمية؛ وتعلن قيادتها وزعامتها لهذا العالم المتغير.
ولم تكد تمر سوى سنوات قليلة؛ حتى وضعت هذه الزعامة محل تساؤل العديد من الباحثين والمهتمين؛ وحول مدى قدرة هذه الدولة على الصمود باتجاه تثبيت وتدعيم زعامتها أمام بروز مجموعة من التحديات والإكراهات.
أولا: مقومات استثنائية واستراتيجيات منحرفة
عرف مفهوم القوة في حقل العلاقات الدولية تطورا كبيرا؛ بالموازاة مع مختلف التحولات والتطورات شهدها العالم، فبعد أن كان يقتصر على العامل العسكري والبشري، ثم الاقتصادي في مرحلة لاحقة، انضافت إليه عوامل أخرى أكثر حيوية وأهمية من قبيل اعتماد التكنولوجيا الحديثة والحضور الدبلوماسي الدولي، وفعالية المؤسسات السياسية..
والظاهر أن هناك إمكانيات ومقومات فريدة؛ عسكرية وسياسية وثقافية واقتصادية مدعمة بقدرات تكنولوجية هائلة وإمكانيات بشرية مدربة ومتطورة؛ مستندة إلى مؤسسات سياسية وقانونية داخلية قوية وفعالة، بالإضافة إلى إمكانيات إعلامية واسعة ومؤثرة، اجتمعت لدى الولايات المتحدة بشكل استثنائي؛ مما أسهم بشكل جلي في حضورها الدولي الفاعل واستفرادها بالشؤون الدولية بمختلف تجلياتها.
وضمن هذا السياق، وباستحضار العامل العسكري؛ تخصص هذه الدولة ميزانية سنوية كبيرة لاستثمارها في هذا المجال؛ وقد استطاعت بذلك أن تراكم ترسانة عسكرية ضخمة كما ونوعا؛ بدءا بالأسلحة التقليدية ثم النووية؛ وصولا إلى الأنظمة الدفاعية المتطورة؛ مما أهلها لتكون أكبر قوة عسكرية في العالم.
ومعلوم أن أهمية العنصر العسكري كمقوم للزعامة وبسط الهيمنة؛ لا يتأتى من خلال امتلاك هذه الإمكانيات فقط؛ ولكن من خلال القدرة على توظيف هذه القدرات العسكرية في تدبير قضايا وأزمات دولية وإقليمية بشكل مباشر أو غير مباشر (عبر سياسة الردع) خدمة للمصالح الوطنية و"القومية"، وهو ما تنفرد به الولايات المتحدة الأمريكية لحد الآن؛ ذلك أن امتلاك روسيا مثلا لإمكانيات عسكرية كبيرة؛ لا يعني بالضرورة أنها أضحت طرفا مركزيا في العلاقات الدولية قادرا على تحقيق التوازن الدولي..
وعلى الصعيد الاقتصادي، فهذه الدولة التي تملك إمكانيات فلاحية وصناعية وخدماتية كبيرة..، توظف شركاتها العملاقة، وتستثمر بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تسيطر عليها كمنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي..، في تدعيم وتفعيل مواقفها وسياساتها على الصعيد الدولي في مختلف المجالات.
وعلى مستوى الحضور الدبلوماسي والسياسي على امتداد مناطق مختلفة من العالم؛ فهو حضور فعال منذ نهاية الحرب الباردة، تعزز مع حرب الخليج الثانية؛ وتأكد في عدة أزمات وقضايا دولية عديدة أخرى.
ومنذ زوال القطبية الثنائية؛ حرصت هذه الدولة على المحافظة "النظام الدولي الجديد" الذي بشرت به في بداية التسعينيات؛ باعتباره يضمن لها تبوء مركز القيادة فيه، مستثمرة في ذلك كل هذه الإمكانيات.
وقد أسهم الغياب الملحوظ لمنافسين أقوياء، في تزايد تكريس هذه الزعامة ميدانيا، فاليابان الذي لم يستطع التخلص بعد من مشاكله الاقتصادية والمالية المتنامية، اعتبر البعض أن التوسع الذي يشهده هذا البلد على المستوى الاقتصادي تشوبه اللاشرعية في نظر الغرب؛ بحيث لا يسانده مشروع سياسي يرتكز على قيم عالمية الاستخدام. فيما يلاحظ أن الصين لا زالت منشغلة بقضايا داخلية واستراتيجية أكثر أهمية وأولوية من فرض قطبيتها حاليا. أما الاتحاد الأوربي وعلى الرغم من إنجازاته الكبرى، لم يتمكن بعد من بلورة سياسة خارجية موحدة إزاء قضايا دولية وجهوية عديدة.. فيما لا تزال روسيا منشغلة بالمشاكل التي أفرزتها المرحلة الانتقالية؛ بمختلف مظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية..
ثانيا: ريادة وسط التحديات
رغم توافر مجموعة من المؤهلات التي تمنح للولايات المتحدة مكانة متميزة ورائدة في المجتمع الدولي، فإن هناك العديد من الإكراهات والتحديات التي تواجهها بشكل جدي.
فعلى الصعيد الداخلي، بدأت تعتري الاقتصاد الأمريكي في السنوات الأخيرة صعوبات عدة من بينها الركود، بالإضافة إلى الخطر الذي يفرضه تحدي نضوب مصادر الطاقة بهذا البلد، كما تراجعت نسبة ما قدمته هذه الدولة من معارف وتكنولوجيا جديدة في العالم من 75 بالمائة سنة 1945 إلى 36 بالمائـة عام 1996؛ وتشهد المدارس والجامعات الأمريكية حالات من التدهور يبرزها تراجع طلابها أمام نظرائهم الأجانب في مختلف العلوم والتخصصات.
أما على الصعيد الخارجي؛ فقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن هناك سعيا حثيثا لليابان نحو تأكيد تواجدها الدولي، حيث أصبحت تهتم بالشؤون الدولية وتشارك أحيانا ضمن عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام.
فيما يعرف الاتحاد الأوربي تطورا كبيرا على المستوى الاقتصادي والمالي والإستراتيجي، وإقدامه بعض أطرافه (كفرنسا وألمانيا..) على الدخول في بعض المواجهات مع الولايات المتحدة بخصوص بعض السياسات الزراعية والثقافية والقضايا الدولية الكبرى(احتلال العراق، القضية الفلسطينية..).
وتعرف الصين تطورا اقتصاديا مهما تشهد عليه معدلات النمو القياسية التي فاقت كل التوقعات، ومما لاشك فيه أن هذه الدولة لا تريد المجازفة حاليا بالدخول في منافسة استراتيجية وسياسية مع الولايات المتحدة قد تكلفها الكثير وتستنزف قدراتها، مستفيدة في ذلك من التجربة السوفيتية في هذا الشأن؛ ولذلك فهي تفضل المهادنة والمرونة والاتزان في هذه الفترة بالذات على الأقل.
وعلى الجانب العسكري؛ تزايدت التحديات أيضا، فهناك العديد من الدول التي تمتلك ترسانة عسكرية هامة ومتطورة تؤهلها لخلق نوع من التوازن الإستراتيجي مع الولايات المتحدة كروسيا التي عبرت غير ما مرة عن معارضتها للسياسة الأمريكية جهويا (منطقة شرق أوربا) وعالميا، فيما نجد العديد من الدول اخترقت النادي النووي كالهند وباكستان وكوريا الشمالية؛ وأخرى تسعى بإصرار نحو امتلاك وتطوير ترسانتها التقليدية والإستراتيجية (أنظمة الصواريخ المتطورة، الأسلحة النووية...) إيران..
وعموما فالترسانة العسكرية التي تعتز الولايات المتحدة بامتلاكها، لم تكن في يوم ما كفيلة بحماية الدول والإمبراطوريات من مخاطر الانهيار وضامنة لبقائها، ولنا في النموذج السوفيتي دليلا قويا على ذلك.
وعلى الصعيد السياسي والدبلوماسي، فإن إقدام هذه الدولة على ممارسة مختلف الأشكال الترهيبية في مواجهة الأمم الأخرى بشكل متكرر، واستغلال مجلس الأمن بشكل مبالغ فيه؛ بغية تحقيق أهداف خاصة، وعدم التوقيع على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية المرتبطة بمجالات هامة؛ خدمة لمصالحها الضيقة (نذكر ضمن هذا السياق: عدم التوقيع على بروتوكول "كيوتو"، معارضة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الدائمة وكذا الانسحاب من مؤتمر "دوربان" حول التمييز العنصري..)، ناهيك عن استعمال حق الاعتراض والتهديد باستعماله في مجلس الأمن بكيفية تعسفية؛ تتناقض ومبادئ الشرعية الدولية وأهداف الأمم المتحدة، تشكل مجتمعة عوامل حقيقية تؤجج الشعور الدولي بالحقد تجاه سياسات هذا البلد الذي يجمع بين مقومات القوة من جهة وافتقاد الشرعية الأخلاقية، بالشكل الذي يجعله من ضمن أسوء الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ البشري؛ ويعجل بانهيارها.
ومعلوم أنه إذا كانت غالبية الدول الضعيفة تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها الدولية، فإن ذلك يظل رهينا بتدفق المساعدات الاقتصادية والمالية إليها في غالب الأحوال، والواقع أنه مهما بلغت قوة الولايات المتحدة اقتصاديا؛ فلن تستطيع مع مرور الوقت تحمل هذه الأعباء، خصوصا إذا ما تساءل الشعب الأمريكي بحزم وجدية حول مدى مشروعية وسلامة صرف أمواله في هذا المجال.
ثالثا: تداعيات أحداث 11 شتنبر واحتلال العراق
جاءت أحداث 11 شتنبر 2001 لتزيد من حدة التساؤلات حول مستقبل هذه الزعامة، بعد أن كشفت عن هشاشة الجانب الأمني والوقائي لهذا البلد.
فالقوة العسكرية والمخابراتية والتكنولوجية والاقتصادية إضافة إلى المحيطان الهادي والأطلسي؛ كلها عوامل لم تعد كافية لحماية التراب الأمريكي من المخاطر،
كما أنها وضعت السياسة الخارجية الأمريكية ومدى مسؤولياتها في الأحداث محل تساؤل العديد من الأمريكيين، الذين طالبوا بتبني سياسة الانعزال، والتوقف عن إهدار أموال الشعب في قضايا ومشاكل دولية لم تجلب سوى الكراهية والدمار والعداء لهذا البلد وشعبه.
وإذا كان البعض قد اعتبر أن الأحداث شكلت مناسبة مكنت الولايات المتحدة من تعزيز قبضتها على دواليب الشؤون الدولية وتكريس زعامتها، فإن سلسلة إخفاقاتها على مستوى مكافحة "الإرهاب" وتعسفاتها في مواجهة العديد من الدول، وتنامي تضييقاتها على الحقوق والحريات الإنسانية محليا ودوليا في أعقاب هذه الأحداث، تجسد في العمق بداية لنهاية محتومة ستستغرق بعض الوقت.
أما فيما يخص احتلال العراق، فقد كان من ضمن أحد أهدافه الرئيسية هو تأكيد وتثبيت هذه الزعامة؛ ومحاولة الثورة على النظام الدولي الذي تأسس مع نهاية الحرب العالمية الثانية وإنشاء الأمم المتحدة، كما شكل مدخلا لاستفزاز الأقطاب الدولية الصاعدة؛ وتجريب مدى قدرتها على المناورة والتحدي؛ ومحاولة دفعها للكشف عن أوراقها ونواياها.. مع توجيه رسالة تحذيرية إلى كل الأنظمة التي قد تفكر في تحدي زعامتها وهيمنتها.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار خطورة هذا العدوان وما تلاه من احتلال؛ والظرفية الدولية المتميزة التي جاء فيها والمرتبطة بتداعيات أحداث 11 شتنبر 2001 والتحدي الذي رفعته في وجه دول العالم، يظهر أنها انتقلت من مرحلة التبشير ب"نظام دولي جديد" ومحاولة تكريسه ديبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا إلى مرحلة فرضه وبلورته بالقوة العسكرية، ولعل الرفض الذي قابلت به معظم القوى الدولية الكبرى هذه السياسات؛ ينم عن تفهمها وتنبهها لهذه الخلفيات التي تعني بكل تأكيد تهميشا لها والتأثير في أدوارها الدولية المستقبلية.
ولعل الارتجال والعشوائية التي تميز بها تدبير الملف العراقي؛ وما نتج عنه من دمار وفوضى لحقت به؛ على عكس التباشير المرتبطة بنشر الديموقراطية والرفاه.. بالإضافة إلى الخسائر الأمريكية المتزايدة (اقتصاديا؛ عسكريا؛ بشريا..) في العراق، زيادة على العوامل السابقة؛ تؤكد أن هذه الزعامة التي أعلنتها الولايات المتحدة من جانب واحد وفرضت منطقها ونتائجها بالترغيب والترهيب على أعضاء المجتمع الدولي؛ الذي قبلها على مضض، تظل مسألة وقت؛ وذلك في غياب ضمانات واضحة وصريحة من هذا الأخير للاستمرار في قبوله بها وبتداعياتها مستقبلا، ومادام التعدد القطبي يعد أحد الضمانات الرئيسية الكفيلة بتحقيق التوازن العالمي والأمن والسلام لكافة شعوب العالم.
http://www.drisslagrini.fr.nf








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوكرانيا تقر قانونا يسمح لسجنائها بالقتال في صفوف قواتها الم


.. دول الاتحاد الأوروبي تتفق على استخدام أرباح أصول روسيا المجم




.. باريس سان جيرمان.. 3 أسباب أدت للفشل الأوروبي منها كيليان مب


.. هيئة البث الإسرائيلية: نقاشات في إسرائيل بشأن بدائل إدارة مع




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: المهمة لم تكتمل في الشمال والصيف ربم