الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم الديمقراطية وعزلة النخب

كاظم الواسطي

2007 / 4 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


ليست الديمقراطية معطى نهائيا أو مفهوما منجزا في ذهن النخبة ، يمكن التأسيس عليه ، اجتماعيا وسياسيا ، عبر لافتات وشعارات تؤدلج لفكرة مازالت مجردّة في حياة المواطن ، ومجرّد يوتوبيا في ثقافة النخبة المعزولة عن الوقائع والمعطيات الاجتماعية . كما أن ثقافة الديقراطية لا يمكن أن تتحقق بقفزة واحدة ، وبقرار سياسي يصوغه طرف ما من القوى السياسية ،بل هي بناء يحتاج إلى تدرج ومخاض قد يستغرق وقتا طويلا في التكون والنمو. إن الصعوبات التي تواجه بناء الديمقراطية وثقافتها ناتج عن مسبقاتنا السياسية والثقافية التي تشكلت عبرعهود طويلة ، وشكلّت بتأثيراتها البنوية ملامح حياتنا ، وأطرمجتمعاتنا التي ضغطتنا على مقاسات معينة لا تسمح لنا بالخروج عليها ، أو انتهاك ترسيماتها الاجتماعية والأخلاقية . وظلت تلك المسبقات الثقافية والاجتماعية تعمل على تشكيل طبيعة تفكيرنا ، ونوعية سلوكنا ، وتتحكم بهما من مكمنها السري في ذاكرتنا الجمعية . وهي بذلك تعمل على جعلنا مجرد استطالات لتكويناتها الأولى ، مكملة لها ، ومتماهية معها . ولكي نضع حدا ، وهو نسبي ، لمثل هذا التحكم السلبي بحاضرنا ، نحتاج إلى مراجعة نقدية ، وإعادة قراءة لتاريخنا وثقافتنا على ضوء ما يستجد من منظومات معرفية ، وأدوات عمل حضارية ، أصبح الاستغناء عن استخداها مسألة مستحيلة في حياتنا الحالية ، وفي مستقبلنا المشروط بنوعية علاقتنا مع العالم .
إن عقل المواطن المعتقل بمفاهيم الاستبداد ورموز ( السلف الصالح )، لقرون طويلة، والذي تعرّض للغسل والسحق في مختبرات الدكتاتورية لأكثر من ثلاثة عقود ، لم يشهد التاريخ لها مثيلا في الترويع ، وتشويه معالم الأشياء والبشر ، ليس هينّا عليه وقع التجارب والمفاهيم الجديدة . ويوم خرج المواطن العراقي ، الذي كان فاقدا لشروط المواطنة ، من ذلك القاع المظلم ، مباركا سقوط الصنم ، ومعانقا ساعة الخلاص والإعتاق من أسر الطغيان والخوف ، لم يفكر بسوادٍ يمكن أن يحجب شمسا طال انتظاره لها . وقبل أن يبدأ مهرجان فرحه ، الذي نذر له سنينا طويلة من عمره، إذا لم نقل العمر كله ، حتى فاجأته مخلوقات العدم والموت المنطلقة من كهوف التاريخ ، وأنقاض الجغرافيا ، بأشكال من الترويع والقتل ، أشد فتكا وتدميرا ، كأنما الفناء يتناسل أجيالا في بلاد السواد . مخلوقات تسللّت، بحاسة الضباع ورذائلها ، إلى الجسد الجريح ، لتجهز على ما فلت من أنياب الدكتاتورية بمخالب الإرهاب الأسود . لقد أرادت هذه المخلوقات ، الفاقدة الصلة بالحياة ، أن تكمل حلقة الدكتاتورية التي انكسرت في ذلك اليوم ، لتمنع انطلاق العراقيين منها إلى فسحة الحرية والأمان .
كان على القادمين للإنقاذ أو " التحرير" أن يفكروا بشكل آخر ، وأن تحسب عقولهم جيدا لما هو محتجب عن عقل المواطن المعتقل بأسلاك الاستبداد ، وأن يحموا مساحات فرحه الطارئ ، ودروب حريته التي لم يألفها من قبل ، من قوى النظام المتربصة في خنادقها الخفية الجديدة ، ومن قوى الظلام المتسللة من الحدود المفتوحة بلا رقابة أو رقيب. وبدلا من حماية تلك المساحات والدروب التي لم تبدأ خطوات العراقيين بالسيرالمتوازن عليها ، نشطت الكثير من الخلايا التي كانت نائمة، وبدأت انشطاراتها السرطانية فوق ذات المساحات والدروب ، وبدأت تلتهم الأعضاء السليمة من الجسد الواهن ، على مرأى من أولئك القادمين ببرامج التحرروالحرية ! ، الذين تعذّر عليهم أن يثبتوا صدق ما وعدوا به من هناك ، بعد أن أثبتت مجريات الأمور قصور ما كانوا عارفين به ، بعد غياب طويل ، عما يجري هنا، وما ستؤول إليه حال الأوضاع بعد إنهيار الدكتاتورية ،خاصة ما قد تخبئه القوى الرافضة للتغيير، والكارهة للحرية في الداخل وفي دول الجوار .
ولا أريد أن أتحدث ، هنا ، عن خلايا الموت القادمة من وراء الحدود ، وما قامت به من دمار وتخريب في البلاد . لأن هذه الخلايا ما كان لها أن توجد ، وتنتشر بهذا الحجم ، لولا حاضنات الجريمة التي خلفتها الدكتاتورية على أرضنا ، والتي آوت كل أشكال الموت ، وأساليب الترهيب ، دون أن تتدخل قوى التغييرالجديدة في تفكيك بنيتها الفاسدة، ومعالجة طفيلياتها الزاحفة في بيئة لم يتم تغييرها بشكل صحيح ،مما جعلها تتكاثر، وتنشط في كل الاتجاهات .
قد يتساءل القارئ عن علاقة هذا المشهد بوهم الديمقراطية وعزلة النخب . إن ما أقصده بالنخب هنا ، هي القوى التي تبنت وتزعمت مشروع التغيير الديمقراطي بعد عهود تميّزت بحرائق الدكتاتورية التي خلّفت كل هذا الرماد القابع في أعماق أجيال لم تذق طعما للحرية ، ولا معنى للحياة . ومن هنا ، تتضح أهمية أن يكون هذا المشروع ، بمستوى الواقع البنيوي الصعب والمعقّد لحياة هذه الأجيال ، خاصة وأن صدمات الإرهاب المروّعة ، التي لم تتح لها فرصة الابتهاج بالتغيير، قد خلقت الكثير من الإشكاليات والمتاعب ، تحتاج ، لتجاوزها ، أداء نوعيا من النخب ، يتجسد في علاقة تواصلية تعنى بالجوانب الأساسية من حاجات هذه الأجيال الروحية والمادية. علاقة من نوع جديد ، تقدم مثالا حيّا وملموسا على صدق ما تطرحه قوى هذه النخب من أفكار ومفاهيم تؤسس بها لحياة جديدة , ومختلفة ، يشعر فيها المواطن بحقيقة التغيير ، ويتذوق طعم الحرية كضرورة لبناءمستقبله بعد عهود طويلة من الاسبداد . عندها يعرف هذا المواطن مكانه الحقيقي في التجربة الجديدة ، ويلمس بالوقائع ، فوائد الديمقراطية ، وأهمية أن يستوعب ثقافتها ،ليكون الأقرب إلى من يدعو إليها ويمارسها كنظام للحكم وتنظيم المجتمع وسلوك في التبادل والمشاركة في ظل وجود مؤسسات تحمي ذلك ، وتدافع عنه .
ولكن أن تتزعم النخب الجديدة موضوعة الديقراطية إعلاميا ، ولا تستطيع مدّ جذور حقيقية لها في المجتمع ، تغذي حاجات المواطن المختلفة ، وتتغذّى من معاناته اليومية ، ويستمر المواطن بالعيش وسط مشهد يومي يتكرر فيه الموت وتتسع دوائره السوداء، ويستمر البعض من هذه القوى في خطاباتهم المنبرية على شاشات الفضائيات أو على منابرخطب الجمعة ، يدعون ، مثلما تريد وتعمل قوى الإرهاب والتكفير، إلى مفاهيم طائفية ومذهبية عبر دفاعات موتورة عن هذه الطائفة أو تلك ، يعني اتساع الفجوات السوداء في جسد المجتمع العراقي ،وإضعاف الولاء للوطن في نفوس العراقيين . وعند استمرار مثل هذه الأوضاع ، سيكون الحديث عن الديمقراطية ، وثقافة الديمقراطية ، نوعا من الوهم أو السراب في أذهان الناس ، ومجرد يوتوبيا في ذهن النخب تزيدها عزلة عن المجتمع . إن عمل القوى المعادية لمسيرة التحول في العراق ، ومحاولاتها المستمرة على تغيير طبيعة الصراع السياسي باتجاه تعميق الفرقة الطائفية ، ودفع مكونات المجتمع العراقي الأساسية إلى الاحتراب الأهلي ، هو نتيجة طبيعة لفشل خياراتها السياسية والدينية التي تريد إعادة العراق إلى قلعة الاستبداد التي جرّب الشعب العراقي فواجعها ومقابرها وحروبها الدموية لأكثر من ثلاثة عقود ، أو تشكيل إمارة " طالبانية " جديدة بمباركة ودعم أيتام النظام الاستبدادي وعناصر الجريمة المنظمة ، الباحثين عن الفوضى والخراب لتحقيق مكاسب وغنائم جرائمهم بلا عقاب . ويعرف العالم جيدا ، ومنهم الشعب العراقي ، ماسببته هذه الجماعات من أضرار فادحة في بنية المجتمع الإفغاني ، وما تركته من ندوبٍ في نفوس أبنائه ، وتخريب لمستقلهم يحتاج عقودا من العمل المتواصل ، والتضحيات الكبيرة لتجاوزه ووضع بدائل البناء الصحيحة له .
إن الترويج للخطاب الطائفي ، هنا أوهناك ، ومأسسة التمثيل الكاذب لبعض القوى مناطقيا ، وطائفيا ، والتحدث بالنيابة ، المنتزعة قسرا ، عن جماعة دون غيرها أو ضد الجماعات الأخرى ، يعني نشر ثقافة ( الكانتونات) السياسية والطائفية المغلقة ، وخلق تعدديات إحتراب ونزاع ، لا تعددية شراكة وحوار يتطلبها المشروع الديمقراطي المرتجى . وجلّ ما نخشاه ، وهذا ليس تشاؤما ، بل تحذيرا وصرخة ضمير ، أن تكون لنا قلاع للعصبيات والقبليات والمذاهب ، تدير فيها النخب السياسية والدينية طواحين دماء لا ( طواحين هواء ) لفرسان كلامٍ سيزول مجدهم حالما يبدأ صوت الرصاص . وعندها ، لن تشفع لنا المفاهيم والمقولات ومنابر الخطابة الطائفية ، بل ستصنع لنا بلادا بنهر ثالث ، ينزف من الشمال إلى الجنوب ، على إيقاع طبول الحشّاشين ، والمشعوذين ، و المنبوذين من المجتمع. ولن يكون هناك أحد بمنأى عن طوفانه العشوائي الجارف . وعلى كل القوى السياسية والدبنية في العراق أن تراجع التجارب المشابهة التي مرت بها الشعوب الأخرى ، وتتعلم من النتائج الكارثية التي فرزتها هذه التجارب ، وكيف أثرت على القوى التي ساهمت في صنعها ، وعلى حياة الشعوب التي عانت من ويلاتها ، وما دفعته من أثمان باهضة لتجاوز بعض نتائجها ، وليس كلها . كما أن لهذه القوى في تاريخ العراق الحديث نفسه ، خاصة في فترة الصراعات والحروب الايرانية – العثمانية ، دروسا أكثر أهمية ، حيث جرت تلك الصراعات والحروب على أرض العراق ، وكان لطابعها الطائفي تأثير كبير على بنية المجتمع العراقي وتمزيق نسيج وحدته ، بدعم الاصطفاف الطائفي في المجتمع لكل طرف ، وتشجيع قيام نزاعات أهلية بين مكونات هذا المجتمع ، أسست ، فيما بعد ، للكثير من الفجوات والعزلات بين المناطق والمدن ، ساعدت على نمو عناصر الريبة ، وعدم الثقة المتبادلة فيما بينها ، وخاصة بين الطائفة السنية والشيعية ، اللتين كانتا مركزي استقطاب لصراع الدولتين آنذاك . ودائما ما تتحرك خلايا تلك النزاعات عند ضعف الحكومة وعدم وجود مؤسسات دولة قوية ، بالاضافة ، وهذا برايي هو الأهم ، إلى غياب المشروع النهضوي في العراق الذي كان من الممكن أن يؤسس إلى ثقافة اجتماعية تنويرية ، تساعد على ردم تلك الفجوات والعزلات ، وتنقل المجتمع إلى مرحلة مدنية لا تسمح بالتخندق في حدود الطائفة أو القبيلة ، والتعكز عليهما في وقت الأزمات والاضطرابات .
واليوم ، ونحن نعيش واحدا من أهم وأخطر أزمنة التحول والتغيير في حياتنا ، وأكثر أوقات النزاع والصراع خطورة على مستقبل العراقيين ، فليس لأبناء النهرين من خيار سوى إيقاف جريان الدم على أرضهم ، ونبذ خيار التخندق وراء القبيلة أو الطائفة الواحدة ،الذي تعمقّه اليوم قوى لم ولن تقبل بأقل من هذا الدم العراقي المسفوح بلا توقف . وأن يكون العراق لهم سقفا لا بديل سواه ، ومساحة يتعايشون عليها بروح المشاركة والتفاهم بشكل يتناسب مع حجم المسؤولية المواطنية الحقة تجاه الوطن ، وعدم تجزئة الولاء له . وبدون ذلك سنفقد كل شيء ، وسيكون الوطن مجرد شظايا نحرق بها أيامنا القادمة . عندها ، لن ينفع ندم ، ولا عويل ، فوق الرماد الذي يصيره هذا الوطن ، بل سنكون نحن من لا يستحق .. حتى هذا الرماد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحة وقمر - قمر الطائي تبدع في تجهيز أكلة مقلقل اللحم السعودي


.. حفل زفاف لمؤثرة عراقية في القصر العباسي يثير الجدل بين العرا




.. نتنياهو و-الفخ الأميركي- في صفقة الهدنة..


.. نووي إيران إلى الواجهة.. فهل اقتربت من امتلاك القنبلة النووي




.. أسامة حمدان: الكرة الآن في ملعب نتنياهو أركان حكومته المتطرف