الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشاهد أقرب و أبعد

سليم البيك

2007 / 4 / 11
القضية الفلسطينية


(حين تزدحم الحرب بتفاصيل لاجئ)

كنت جالساً ألاحق الأخبار، أستنطقها من أفواه المذيعين. بلدتي تقصف ثانية، باغتني ذات الشعور الذي صاحب القصف السابق.. الأول، الأول منذ عام 48، حين لم تكن أمي قد وُلدت بعد. و في الفرق بين القصفين أجدني باسماً، كم جميلٌ أن تداعب الكاتيوشا ترشيحا.

سُجلت الكثير من المشاهد، شهداء يتعثرون ببعضهم في الجنوب اللبناني، دمار يصبح و يمسي على ضاحية بيروت الجنوبية، دم مبعثر على كل الأشياء و الأشلاء، أُرشفت هذه المشاهد و غيرها، أُحكم القفل عليها في برادات الموتى، لتُدفن فوق الركام، و نبش القبور حرام. لا وقت أصلاً لنبشها، فالمشاهد تتكاثر و الموتى يتوالدون.. و يتساقطون.. فيتوالدون.

مشاهد أخرى، لفلسطينيين في الجليل. مشاهد تُترك لتنزف حتى الموت، لا برادات و لا قبور و لا من يحزنون و لا حتى من يعلمون. مشاهد تُبث صدفة أو عن طريق الخطأ. مشاهد تموت على السكت، فآذاننا مبتورة و التراب المعبأة به كان خصباً لينبت الشعر عليه. عن هناك، حيث يسكن قريني في عكا و حيفا و الناصرة و صفد، تلقفت ما بُث صدفةً، مشاهد لبلاد ليست كالبلاد، لأناس خلف أسلاك و أسوار، لي بينهم من تثير شهوتي لعودتي.

جاءت المشاهد مُعمدة بترشيحا و تفاصيلها، و كنت وحدي في الغرفة، لم أناد أحداً، فمشاهد كهذه بالكاد تكفيني، أردتها لي وحدي، أعيشها في الغرفة بعيداً عن سذاجة الأسئلة. نعم، كنت أنانياً حينها. و هناك من لديها فكرة جيدة عن أنانيتي الطفولية إذا ما تعلق الأمر بها، اسألوها.. هناك خلف الأسوار، أو خذوني عندها، أسألها لكم.

رأيت عشب ترشيحا، رأيت سياج حديقة خشبي بدأ دهانه رحلة التقشر منذ فترة أقدرها بتسعة و خمسين عاماً، يبلغ طول السياج حوالي خمسة و عشرين ربيعاً، أو سنتمتراً، لم أعد أذكر. لمحت طحالباً تتمدد متوسعة من زوايا السياج إلى حوافه. كان الخشب رطباً و كان لمزيج رائحته مع رائحة التراب ميزة عجزت عن إقحام كلمات عنها، لو تعلمون كم هي جميلة الأسيجة في الجليل!

رأيت شجرة، لم أر مثلها من قبل، لم أر من قبل شجرة تراني أراها.

رأيت سماءً زرقاء. لا أدري إن كانت أول مرة أرى فيها السماء زرقاء، أم أن الزرقة كانت مختلفة، أم أن السماء نفسها مختلفة، و لكني أعلم تماماً بأن شيئاً كان مختلفاً، بأنها على الأقل ليست السماء ذاتها التي أمضي شتاتي تحت ناظرها و قبضتيها الواطئتين، و لا حتى إحدى امتداداتها. كانت وجنتاها مزرقّة اشتياقاً للاجئين بعيدين عنها، كانت، بالشامة الصفراء على رقبتها، تحن على من تبقى من ناسها و تحضنهم بنور بسماتها محاولةً إسعادهم. كانت تتجمل لهم مساءً لتهون عليهم فراق العشّاق في السهر، يغفو شال أسود على كتفيها ليريح نورهما قليلاً، و أقراطها الفلسطينية تغمز من بعيد و لسان حالها يقول: سأبقى جميلة، لن تتغير ملامحي، سيعودون و أكون جميلة.

رأيت دَرَجاً بُني له بيت و أرفق بحديقة. كان بثلاث درجات، الزاوية اليمنى لأعلاها مبتورة، فتبدو الأرض مائلة هنا، كلمة "سيعودون" محفورة بأكثر من دبوس شعر تفوح من آخرهم، و ربما كلهم، رائحة أنثوية جليلية لامرأة اغتسلت بماء بارد ماتزال آثاره على جسدها، محفورة على الجنب الأيسر لذات الدرجة، و هذا ما يزيد من ميلان الأرض نحو اليسار. على الدرجة الوسطى كانت شعرة حمراء لصبية، أظن بأنها كانت تهوى الرقص على الدرجات، و أنها للتو انتهت من رقصة كانت في معظمها على الدرجة الوسطى، فالمساحات التي مُحي منها الغبار بأصابع قدميها النضرتين تكثر على تلك الدرجة. أما الدرجة التي تقل عن سابقتيها قرباً من الله فقد بُني على نقاط التقائها مع الأرض أوطاناً للنمل، أوطاناً لم تحتلها إسرائيل بعد.

رأيتني، نعم، كنت هناك أزاحم الناس الأمكنة، كثيراً ما أكون هناك. اسألوها.. هناك خلف الأسوار، فقد سألَتني مرة عمّا كنت أفعل على إحدى التلال هناك، حين كانت في طريقها من عكا إلى الناصرة، لم أذكر عن أي مرة كانت تتكلم، و لكنني تركتها تتكلم، فكم أحب أن تراني هناك و تذكّرني بما كنت أفعل حين تدّعي هي بأنها تعرف، و أنسى أنا. و أنا كثيراً ما أتسلل إلى تلال الجليل لأكون في المنفى بعد ساعة.

رأتني مرة أنتظرها، أذكر هذه القصة تماماً، كان يوم الأربعاء و كنت أمارس طقوس الانتظار بإتقان و لهفة، كما حدثني بحر عكا الذي أعلن لي صمتُه المفاجئ قدومها. هي تسكن في منطقة السينما القديمة، و كانت في طريقها إلى عمتها في البلد القديمة، إلى حي الفاخورة. رأتني هناك، من طقوسي عرفت بأني أنتظرها كالعادة، بدون أي اتفاق أو موعد مسبق. و كالعادة، لا تتركني أنتظر كثيراً. نزلتْ عند شارع البحر كما تسميه. كان الليل يتأهب للحلول بتلهف حين ارتأينا له. نزلت لتفي بموعدنا الذي كان قبل الاتفاق على هيئته، فكان اتفاقنا على المكان و الزمان بعد اللقاء. تفاجأتْ مثلي بالشرشف الأزرق، فهي تعلم جيداً ألا شرشف أزرق لدي، شرشف أعده البحر لنا و رمته موجة على الرمل قبل الموعد بقليل. أضاءت شمعتين تكفيان لإظهار أحدنا للآخر، فلا حاجة لأكثر من ذلك. أعدّ لنا البحر شيئاً لنشربه، لم يخل من ملوحة مسكرة. قبل أن أنسى.. كانت ترتدي شالاً أسوداً تتخلله خيوطٌ حمراء، و أقراط فلسطينية بخرزات زرقاء.. كانت كسماء فلسطين ليلاً.

و رأتني مرة تحت زيتونة، و في أخرى على صخرة، و كنت أنتظرها، و حين...

أحتفظ بهذه القصة لنفسينا، ففيها لنا من خصوصيات ما في فلسطين لنا من نكبات.

تُركتْ هذه المشاهد لتتزاحم على مداخل شتاتي، لتنزف فيّ، تنزف حتى العودة، لا مكان للموت بينها، فالعودة أقرب إليها من الموت و أبعد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا