الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما أضيق السجن لولا فسحة الأمل

علي جرادات

2007 / 4 / 17
أوراق كتبت في وعن السجن


غدا السابع عشر مِن نيسان، هو يوم أحد عشر ألف أسير فلسطيني، والأهل والوطن لهم ينتظرون. ويلحون بالسؤال: متى يعودون؟!!! ومتى يكفّ السجن عن التمسك بهم؟!!!. غادرتُهم منذ عامين، ولكن بعضي، إن لم يكن كلي مازال عندهم!!!. غادرتُهم وما زالوا يسألون: كيف لنا أن نحيا ضِيق السجن ولا نسمح له أن يحيا فينا؟!!! إنه سؤال حيرة مَن "ألقيَ في الجبِّ وقيل له إياك إياك أن تبتل بالماء"!!!.
السجن في أحد أهم معانيه هو الضِيق وتجسيده الأقسى. إنه ضِيق متعدد الأوجه لا يعرف الرحمة.......لا يحس بمرارات فقدانها إلا من عاش السجن لسنوات وسنوات.
السجن ضَيِّقٌ ومَفْرَخَةٌ للضيق، ضَيِّق بحيزه الجغرافي، وما يخلقه من ضِيق نفسي، ضَيِّقٌ بضيق حيز "البُرْش، وما يولده للسجين من نكد تفاصيل العيش اليومي كاسئلة: أين، وكيف بإمكاني أن أضع ملابسي؟!!! كيف لي أن أتحرك بيسرٍ دون ان أُزعج زملائي؟!!! وكيف....وكيف....الخ.
السجن ضيِّقٌ بروتينه يلد تواظباً للعقل لا يقوى السجين على تجنبه إلا بالترفع عن هذا الروتين. السجن ضيِّق في إهتماماته، وما يخلقه مِن تَدنٍ لسلَّم اولويات البشر. السجن ضَيِّقٌ في نوافذ الإطلال على رحابة خارجه، وما يخلقه من ضيقٍ للافق لا ينجي السجين منه إلا الإنشداد إلى كبير الإهتمامات. السجن ضَيِّقٌ في ندرة امكانياته وشُحِّها، وما يولّده مِن تنافس لا يتجاوزه السجين إلا بالتنظيم وروح عيش الجماعة. السجن ضَيِّقٌ بضيقِ محدداتِ عقلِ حُرَّاسِه وحرفية التزامهم بتنفيذ ما يُعطى لهم من أوامر وتوجيهات، وكل ما يفرزه ذلك من صور القهر اليومي للسجين، لا يَحُولُ دون إستسلامه لها إلا إرادة خوض المعارك مع السجان لتقليص المسلوب مِن حريته، وزيادة المُسترد منها له كإنسان. وللمرء أن يتخيل عمق ما تنتجه هذه المعارك اليومية من كراهية متبادلة بين السجين والسجان. السجن ضَيِّقٌ بضيق فتحة مفتاح الزنزانة، لا يدور لفتح قفلها الا وفق المُعَدِّ المُبَرْمَجِ من قواعد "الأمن"، ومزاج الحارس في تنفيذها، كما لا يدور الا في اطار سُلَّمِ تراتب صلاحيات الحُراس. السجن ضَيِّقٌ بضيق ما يملك السجين مِن عوامل القوة الفيزيائية قبالة ضخامتها لدى السجان. وهذا ما يفرض أن يستنفر السجين عواملَ قوته المعنوية والأخلاقية كالإمتناع عن تناول الطعام والدواء، ورفض زيارة الأهل والمتاح من نزهة (فورة) يومية. السجن ضَيِّقٌ بضيق أن حياته مُبَرمَجة ومُعَدَّة ومُخَطَّطة من خارج السجين. فلا يأكل السجين إلا ما يريده له السجان ان يأكله، وفي الوقت الذي يحدده السجان؛ ولا يصحو أو ينام إلا في مواعيد يحدّدها السجان؛ ولا يتنقل في حيز السجن الضيق اصلا الا بمشيئة السجان؛ ولا يرى أهله إلا في مواعيد متباعدة يحدّدها السجان، تلك المواعيد القابلة للالغاء والتقليص كإجراء عقابي على عدم "حسن السلوك"؛ ولا يقرأُ الا ما يسمح به مقص السجان الرقيب. السجن ضَيِّقٌ بضيق ما يُتاح للسجين من خصوصية كمقيمٍ مع مئات مِن الزملاء في حيز جغرافي ضَيِّق، بما يستدعيه ذلك من ضرورة مراعاة قواعد عيش الجماعة، والتي لا ينفع معها الا تنازلات الأفراد المتبادلة عن مساحة واسعة من حيز الخصوصية، فالكل مكشوف للكل على مدار الساعة، ما يفرض حَذَر السلوك وإحتراس التصرف. ولا ينفع في تخفيف ذلك ما إبتكره الأسرى مِن تغطية "برش" كل سجين بقطعة قماش تحجب السجين عن أعين زملائه اثناء النوم والمطالعة، فهذه قطعة قماش تحجب الرؤية لكنها لا تحجب الصوت، ولا يمكن للسجين أن يحتجب من خلالها أربعا وعشرين ساعة، وذلك لضرورات الحياة، ولكي لا يشار له كانعزالي. إن طاقة هذه القطعة من القماش محدودة في توفير ما يتوق له السجين من الخصوصية. السجن ضَيِّقٌ بضيق جدل مفردات واقعه وتفاصيله.
السجن ضيِّق بضيق فتحات "شبك" زيارة الأهل لا تسمح لأصبعِ طفل بملامسة أصبع أمهِ أو أبيه. السجن ضيِّق بضيق عقل ضابط أمن يعتقد أن بمقدور العصا تغيير عفوية قناعة البشر بحريتهم. السجن ضيِّق بضيق أيدولوجية تحاول تحطيم "الآخر" بالقوة العارية. ولكن الغالبية العظمى من الاسرى الفلسطينيين واصلوا المشوار خارج أسوار السجن، وقلة نادرة فقط لم تواصل.
مرارات ضِيق السجن تلك ذاقها سبعمائة ألف هم الأسرى الفلسطينيين حتى الآن، وما زال أحد عشر ألف منهم يعيشونها، وينزفون بفعلها نبضا حياتيا هائلا يذوي الجسد والروح، نبضا يسكبونه على حساب حياتهم المجتمعية العامة، وعلى حساب بناء سعادتهم الأُسرية الخاصة.
أجل، نبض حياتي يبذله أحد عشر ألف أسير هناك في مرارات ضيق السجن ومقارعة السجان، بدل بذله في التعليم والتعلم في دفء الجامعة والمدرسة، وبدل بذله في العمل المنتج في كنف المزرعة والمصنع والورشة، وبدل بذله في سعادة إنسانية تدرّها حميمية علاقات الأُمومة والأُبوة والأُخوة والزوجية، وكل علاقات القرابة والصداقة والجيرة.
هناك في ضيق السجن يبذل كل هذه الجهود البشرية أحد عشر ألف شاب وشيخ وشبل فلسطيني المذكّر منهم والمؤنث، وينزفون كل هذا النبض الحياتي طوعا، وعن طيب خاطر، لتبقى قضية شعبهم العادلة وتنتصر، وكمساهمة فلسطينية كبيرة للدفاع عن قيم الحرية والتحرر الإنسانية السامية.
وهذا ما يستدعي منا نحن الفلسطينيين كتّابا وصحافيين وأدباء ومبدعين عموما، أن نبدع المزيد من النصوص عن هذه الملحمة الأسطورية للشباب والشابات الفلسطينيات، إذ صحيح أن ما كُتِبَ عن هذه الملحمة كثير، غير أن استطالتها، وغناها لا يسمح بمزيد تناولها فقط، بل يستدعيه ويستوجبه أيضا، خاصة وأن العديد من أبعاد هذه التجربة الأسطورية لم يحظَ بما يستحق من تركيز؛ فالبعد الإنساني المضمر، في بعدها الوطني (مثلا)، قليلا ما تم تناوله بفعل إنشغال العديد ممن كتبوا عنها بتناولها كملحمة وطنية. وهي قطعا كذلك بامتياز، فمجرد سعتها واستطالتها يؤكد ما فيها من بطولة وطنية عظيمة قلّ نظيرها، لكن ذلك لا يغني عن تناولها كتجربة إنسانية. ففي خضمها ترقد حالات لا حصر لها من صور البطولة والمعاناة الإنسانية، التي قبل وصفها التجريدي بالمعاناة والبطولة، هي نبض حياتي حسي ملموس هائل لمئات الآلاف مِن البشر، وتختزن صورا لبطولات ومعانيات فردية، لا تقوى لغة التجريد والتعميم والأرقام الإحصائية الجامدة على إظهار فرادتها وندرتها لحظة حدوثها.
إن مِن شأن الغوص في ملموس هذه الملحمة الوطنية الإنسانية للأسرى الفلسطينيين، أن يبرز المعاناة والبطولة عينها، وليس توصيفها التجريدي العام. فبهذا الغوص المبدع نعرض صورها الواقعية بما دبَّ فيها من حياة تعج باليناعة والطراوة والحرارة قبل تيبس شرايينها وتصلب عروقها لدى تحويلها إلى تعميمٍ وأرقام إحصائية صماء جامدة.
الفرق بين نقل صور هذه الملحمة في ملموس حدوثها وحسّه، وفي نادر عيش حالاتها الفردية بغرض "تحسيس" العالم بها، وبين نقلها بتجريدها وتعميمها، كالفرق بين أن تشهد معركة حيث تشاهد الموت وتتوقعه وبين أن تقرأ عن هذه المعركة في كتب التاريخ.
إظهار هذه الملحمة بالطريقة التي دعونا إليها، هو أكثر تأثيرا على النفس البشرية وعقلها وضميرها، وأقدر على كسب تعاطفها مع السؤال الفلسطيني الكبير والمشروع: إلى متى يبقى السجن ملازما للفلسطيني كاسمه؟!!! وهل يعقل أن يقف العالم ولا يقعد مطالبا بفك أسر أسير إسرائيلي واحد (شاليط)، ولا يرمش لهذا العالم جفن على مرارات وعذابات أحد عشر ألف أسير فلسطيني، كثير منهم مضى على أسرهم عقود؟!!! وإلى متى تستمر عذابات هؤلاء الأسرى ومراراتهم.....مرارات لم نأتِ إلا على غيض مِن فيضها؟!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رغم بدء تشغيل الرصيف العائم.. الوضع الإنساني في قطاع غزة إلى


.. تغطية خاصة | تعرّض مروحية رئيسي لهبوط صعب في أذربيجان الشرقي




.. إحباط محاولة انقلاب في الكونغو.. مقتل واعتقال عدد من المدبري


.. شاهد: -نعيش في ذل وتعب-.. معاناة دائمة للفلسطينيين النازحين




.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل