الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الحزام الكبير إلى الأحزمة الناسفة

عبد الرحيم الوالي

2007 / 4 / 18
الارهاب, الحرب والسلام


شارع الحزام الكبير، الذي كان في ما قبل منتصف السبعينيات من أكبر الشوارع بالدار البيضاء، هو الشارع الذي كان آنذاك يفصل بين درب ميلان (حي عمر بن الخطاب حالياً) و حي الفرح. و في حي الفرح بالذات كانت تقع المقاطعة العاشرة في ذلك الوقت إلى حدود تقسيم الدار البيضاء إلى خمس عمالات عقب انتفاضة 20 يونيو 1981، حيث تغير رقم المقاطعة. و من المقاطعة العاشرة كانت تنطلق دوريات مدججة بالهراوات من عناصر القوات المساعدة و الويل لكل من صادفته في طريقها.
كان نطاق عمل هذه الدوريات واسعا جدا من الناحية الترابية و يشمل عدة أحياء من المدينة بما فيها درب ميلان وجزء من حي الصفيح بإبن امسيك و سيدي محمد. و كنا آنذاك لا نزال أطفالا. لكن ذاكرتنا البريئة ـ آنذاك! ـ كانت تتغذى بشكل يومي بكل أشكال التنكيل بالمواطنين في الشارع العام من طرف الدوريات المذكورة و بمواجهات هوليودية بين عناصر تلك الدوريات و مجرمي ذلك الزمان الذين كانوا يزاوجون بين الإجرام و الشهامة. و ظل الوضع بالنسبة لنا هكذا إلى أن حصل الانفراج السياسي في البلاد مع بداية عقد التسعينيات رغم أن درب ميلان صار إسمه حي عمر بن الخطاب و رغم أن المقاطعة العاشرة غيرت هي الأخرى رقمها و لم تعد أقبيتُها تعني ما كانت تعنيه آنذاك.
الذي بعث في ذاكرتي هذه الصور من جديد هو ما شهده حي الفرح يوم 10 أبريل الجاري من عمليات إرهابية أوقعت قتلى و جرحى و خلفت مصابين بالهلع و متظاهرين بذلك أمام الكاميرا أيضا. ففي تلك الأزقة التي نقلت صورها وسائل الإعلام يوجد مسجد كنا و نحن تلاميذ يافعون نقصده لصلاة الجمعة. و اختيارنا لذلك المسجد بالضبط كان هو الدعاية القوية لشخصية خطيب ذلك المسجد الذي كان يهاجم كل الفكر الإنساني، و الدولة، و الأحزاب، و غير ذلك باسم الدين الإسلامي. و مع مرور الوقت اتضح لنا أن التطرف و الانغلاق و التزمت و تكلس الفكر و اختزال كل شيء في الدين ليس أمرا صائباً. و لأننا آنذاك كنا نحظى بالتأطير اللازم سواء في المدرسة أو في دور الشباب فقد اخترنا ألا نذهب في ذلك الطريق و غيرنا وجهتنا لصلاة الجمعة إلى مسجد عمر بن الخطاب في الزنقة 13 في درب ميلان آنذاك، و الذي لم يكن بنفس البناء الذي هو عليه اليوم و لم يكن يحمل أي إسم و يسمى فقط مسجد الزنقة 13 في اللغة اليومية للناس. و مع توالي السنوات تفرقت بنا السبل، و منا مَنْ أهمل القيام بالفرائض، و من واظب عليها، و لم ينتم أحد من زملائي في الدراسة إلى جماعة دينية متطرفة رغم أننا كنا و لا نزال متشبعين وفخورين بديننا و ثقافتنا.
آنذاك، كان حي الفرح مرتعاً لصداقات مثمرة بين تلاميذ و طلبة و ناشطين جمعويين و فرق موسيقية شرقية و غربية و مغربية و طاقات و كفاءات هائلة في أنواع عديدة من الرياضات. كان هناك واقع اجتماعي لم يكن أحد منا راضياً عنه أو متصالحاً معه. كان هناك قمع يومي لم نسلم منه سواء في الشارع أو في المدرسة أو غيرهما. لكن وسائل ردنا كشباب على كل ذلك كان هو الرياضة و الكلمة و النغمة و الريشة حتى أن ذلك المحيط المكون من حي الصفيح و درب ميلان و حي الفرح و الإدريسية كان يشكل خزانا هائلا من المواهب و الطاقات. أين ذهب كل ذلك الآن؟
عندما عدت في رمضان الماضي إلى مقر المقاطعة العاشرة، الذي منه أسحب شهادة ميلادي، و تجولت قليلا في أزقة حي الفرح و درب ميلان شعرت بمرارة كبيرة. الزنقة 7، أي الزقاق السابع حتى يفهم القارئ غير المغربي، بدرب ميلان فقد كثيرا من بريقه و الحركة الدائبة التي كان يعرفها أيام كان رافدا مهما من روافد شارع الحزام الكبير. ظللت لعدة دقائق أتطلع إلى حيث كانت أول مدرسة درست بها التعليم الأولي فوجدت أن المدرسة قد انقرضت و لم أستطع أن أتعرف على البناية التي كانت توجد بها. هكذا ضاعت مدرستي الأولى، و التي كان إسمها ـ و يا للصدفة! ـ "مدرسة الحياة". الصيدلية الشهيرة في الجانب الآخر لا تزال في مكانها رغم أنها فقدت وجه ذلك الصيدلي الذي اشتهر بين الناس بالسي أحمد و الذي كان ـ رحمه الله ـ معروفا بسلوكه الحسن و المساعدات التي كان يقدمها للمرضى. أستوديو الأزهر، الذي كان من أقدم استديوهات التصوير بالزقاق، كان في ذلك اليوم مغلقا أو ربما لم يعد موجودا هو الآخر. باختصار فالزقاق لم يعد هو الزقاق و إنما أضحى يحثك على مغادرته فوراً. و لذلك عرجت على الزقاق 35، الذي يربط الزقاق 7 بالزقاق 13 حيث مسجد عمر بن الخطاب حالياً، فكانت الكارثة أكبر: الأزبال منتشرة في كل مكان. و مثلما حصل لي في الزقاق 7 مع مدرستي الأولى ذهبت عيناي تبحثان عن المكتبة التي منها كنا نقتني كتبنا و لوازمنا المدرسية و التي كان إسمها "مكتبة العصر الحديث". لم أجد لها هي الأخرى أثراً و لا لصاحبها، ذلك الرجل قصير القامة، برأسه الأشيب، الذي كان لا يكتفي ببيع الكتب و إنما كان يقرأها بنهم قبل أن يشرع في بيعها. و كلما احتجنا إلى مرجع في موضوع معين كنا نقصده فيزودنا بما يوافق حاجياتنا بالضبط. و كنا نتبارى و نتسابق في اقتناء الكتب و تنظيم عمليات تبادل بيننا حتى يقرأ كل واحد منا جميع الكتب الموجودة بحوزتنا. و كان أساتذتنا يشجعوننا على إلقاء عروض و إجراء أبحاث و استعمال تلك المراجع المختلفة. و بذلك كانت فصول الدراسة أوراشا حقيقية للتربية و التأطير و تكوين ملكة الفكر النقدي لدى الفرد.
بدل تلك المكتبة التي ربما كانت ستشكل تراثا لنا صار الزقاق 35 مكتظا بباعة الخضر و الأزبال و الحمير. و عند نهايته وجدت أن الزقاق 13، الذي يوجد به مسجد عمر بن الخطاب، قد لقي أيضا نفس المصير، أي باعة خضر و أزبال و حمير. التفت يساراً إلى حيث كانت سينما الحسنية، و التي فيها كان أول لقاء لنا ـ و نحن أطفال ـ مع الشاشة الكبرى، فواجهتني مظاهرة كبرى للحمير التي تجر عربات الباعة. أما سينما الحسنية فهي قد انقرضت منذ زمن و تحولت إلى قيسارية.
في المغرب تنقرض المدارس و المكتبات و استوديوهات التصوير و قاعات السينما و يكثر الباعة المتجولون و الأزبال و العربات و الحمير. ينقرض شارع كان يعرف رواجا تجاريا مهما في السبعينيات قبل إنشاء الطريق السيار، هو شارع الحزام الكبير، و تتوالد أحياء الصفيح و البناء العشوائي و غير القانوني. تنقرض الرياضة و الكلمة و النغمة و الريشة و يتزايد عدد الانتحاريين و الأحزمة الناسفة. و أغلب هؤلاء الانتحاريين ـ إن لم يكن كلهم ـ لم يجد مقعدا في مدرسة، أو لم يفلح في ملازمته، أو يقيم في حي من أحياء الصفيح أو البناء العشوائي، أو كان بائعا متجولا بعربة سواء بحمار أو بدونه، و لم يجد بالتأكيد مكتبات مثل "مكتبة العصر الحديث". و أغلبهم أيضا ـ إن لم يكن كلهم ـ ولد في الفترة التي بدأ فيها الهجوم على المدرسة و المكتبة و دار الشباب لإفراغها جميعا من محتواها، و إفشاء ثقافة التهافت وراء المال أيا كان مصدره، و الإعراض عن الكلمة و الريشة و النغمة و الرياضة لأن كل ذلك لا يفضي في المغرب إلى الحياة الرغيدة. و أغلبهم ـ إن لم يكن كلهم! ـ نشأ في الفترة التي كان فيها الهجوم على قوى الحداثة و الديموقراطية بواسطة قوى التطرف الديني.
نعم، هؤلاء هم الذين يستغلهم اليوم الإرهاب العالمي لضرب المغرب. و هؤلاء جميعا هم نتاج لصناعة سياسية قامت بها الدولة المغربية في تلك الفترة بعناية كبيرة و اجتهد في تنفيذها المقدم و الشيخ و القائد و العامل و الوزير و العميد و العقيد و كل مَنْ هو في صناعة التضبيع و التمييع ضليع و عتيد. لماذا لم تفكر الدولة في "إعادة هيكلة الحقل الديني" عندما بدأ خطاب التطرف ينتشر في السبعينيات و الثمانينيات؟ لماذا ظلت تنتظر أول ضربة إرهابية في 16 ماي 2003 لتعلن مشروعها ل"إعادة هيكلة الحقل الديني"؟
لم تكن الدولة لتفعل آنذاك شيئا من هذا لأنها كانت في حاجة إلى تنظيمات دينية متطرفة تكسر آخر ما تبقى من قوى الديموقراطية و الحداثة. و في سياق ذلك اختطف مناضلون ديموقراطيون و حداثيون من الجامعات و أخضعتهم الجماعات المتطرفة ل"المحاكمة" و أنزلت بهم حكم "الإعدام" بطرق همجية مثل تقطيع الشرايين ببعض الأدوات الحِرَفية. و مع ذلك لم يتحدث أحد عن الإرهاب و لا عن قانون لمكافحة الإرهاب وقتذاك و لم تصنف الجماعات المسؤولة عن هذه الجرائم كجماعات إرهابية و الذين ارتكبوها لا يزالون إلى اليوم يدافعون عما فعلوا عبر الأنترنت زاعمين أنهم هم الضحايا رغم أنهم أحياء بينما خصومهم في القبور منذ 16 سنة. هل الإرهاب يكون فقط عندما تستعمل المتفجرات و الأسلحة النارية أم كلما لجأت جماعة مذهبية ما إلى فرض رأيها بالعنف على المجتمع مهما كانت الوسائل و الأدوات المستعملة في هذا العنف؟
الإجابة الأقرب إلى الواقع هي أن الإرهاب بدأ عندما أتيحت الفرصة للتطرف الديني كي ينتشر و هيئت له التربة بتضييق الخناق اجتماعياً و تفشي الفقر و البطالة المقنعة حتى حل الباعة المتجولون و العربات و الأزبال و الحمير محل مدارس التعليم الأولي و المكتبات و قاعات السينما و استديوهات التصوير، و أبيد شارع الحزام الكبير، و "الله يدير شي تاويل ديالْ الخير".
آمين يا رب العالمين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أوكرانيا: حسابات روسيا في خاركيف؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. بوتين يُبعد شويغو من وزارة الدفاع.. تأكيد للفتور بين الحليفي




.. كيف باتت رفح عقدة في العلاقات الإسرائيلية - الأمريكية؟


.. النازحون من رفح يشكون من انعدام المواصلات أو الارتفاع الكبير




.. معلومات استخباراتية أميركية وإسرائيلية ترجح أن يحيى السنوار