الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية النفس والمعرفة في الفكر اليوناني

عامر عبد زيد

2007 / 4 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


إشكالية النفس والمعرفة في الفكر اليوناني
د-عامرعبدزيد
1- الحدث الطبيعي ( الموت ) والمتون المثولوجية :

لقد أوجدت الثقافة اليونانية نظرة محددة للكون ، ومارست تطبيقها على النفس بوصفها إشكالية على مستوى الممارسة والتنظير وهذه النظرية الفلسفية يمكن إن ترشدنا إلى الأتي :
أولا – إن الحدث الأهم الذي يفرض نفسه ، ولا يمكن تجنبه هو " الموت " فهو بمثابة المشكلة التي واجهها الإنسان والتي دفعته إلى الدهشة والتساؤل وهو طريق يؤدي بنا إلى البحث في النفس ومصيرها إما الموت فكان يصور في هيأة شاب يحمل شعلة منكسة إذ كان هذا التصور هو الذي أوحى بفكرة التصالح مع واقعة الموت في اليونان القديمة إذ أكد " كونفورد" ذلك بقوله : " إن الوعي الكاسح بالفناء يشيع العتمة في التيار الرئيسي للفكر الإغريقي بأسره ويوافقه " برنت " قائلا : " تأثر الايونيون .. بعمق بالطابع الزائل للأشياء وفي الحقيقة كانت هناك نزعة أساسية نحو التشاؤم في نظرتهم للحياة (1)

نحن هنا نبدأ بالحدث الطبيعي وهو هنا حادثة الموت اليومي الذي يتعرض له الإنسان وكيف شكل هذا الحدث المحفز في إنتاج تلك المنظومة الثقافية التي تحاول إيجاد حل أو تقديم تعليل له هكذا لو نظرنا إلى الموقف اليوناني في مجال المعرفة والنفس فإننا نقف عند الجانب الطبولوجي الذي الكامل التالي لهذه الرؤية وذلك المنهج اللذان هما انعكاس للبيئة وتحدياتها ( فكل منتمي إلى بيئة محددة يتصور عالما لصيقا لها ، هو فردوسه المفقود الذي يبحث عنه ) (2) أي إن البيئة تؤثر في حث الإنسان على الاستجابة لتحدياتها وهي الحد الذي يضع عالمه المنتمى أو المشتهى بموازاته وكيف يظهر هذا التحدي من الناحية الطبولوجية ( إن كل هذه الخطوات في السلسلة ما تزال موجودة وتعطي بالتالي نموذجا موثقا عن تحول الطبيعة إلى أسطورة ، تحول الأسطورة على شكل رموز وأقوال مأثورة غاية في التفصيل وأخيرا تحول الأقوال المأثورة إلى مفاهيم ميتافيزيقية ) (3) .

أي إن البحث في ظاهرة المعرفة وفي النفس واصلها هو جزء من سلسلة طويلة تبدأ بالحدث الطبيعي اليومي وهو الموت ومرورا بأساطير والأقوال التي تغدو جزء من التجارب الحياتية وتكتسب الطابع الأخلاقي وصولا إلى التأمل والتجريد الميتافيزيقي أي نحن بين الحدث الطبيعي والتأمل الميتافيزيقي الذي يحاول إخضاع الفكرة للتأمل العقلي التجريدي .

وقد ظهر في الفكر اليوناني خطابان هما :
الخطاب الأول : وهو يعكس التصورات الرسمية التي مثلتها الديانة الهوميروسية الرسمية التي تحيلنا إلى مرجعيات رافدينية ، فعند هوميروس كلمة " Psukhe " والتي تعتمد " النفس " أو مبدأ الحياة ، وهو الذي يخرج عند الخوف – فهو مرتبط بالنفس ، الذي عند الموت أو بالدم تجري الحياة مع جريانه ، إما ما يبقى بعد الموت فانه يمثل بقايا الإنسان الذي سيفتقد إلى الجسمية والى وجود النفس ، فليس هو إلا خيال يتشابه لاشك من الخارج مع الكائن الحي ولكنه لا يمكن ألامساك به ، ضعيف كالظل واخرس (4) أي هذا هو حال الإنسان بعد الموت يفقد جسده ولا يبقى منه سوى حالة شبيهة بالظل الأخرس . وهذا تأمل في حدث الموت نجده في أول مراحله في التصور الأسطوري عند " هيرميروس " يجعل ظل " أخيل " يعبر عن وجهة النظر السائدة قائلا : أناشدك يا اودبسيوس الشهير إلا تتحدث برفق عن الموت ، فلئن تعيش على الأرض عبدا لأخر .. خير من إن تحكم كملك لا ينازعه احد في مملكة الأشباح اللاجسدية (5) والنحو الذي توجد عليه هذه الخيالات يقابل وجود الموجودات في هايدس حيث تفتقد إلى الحياة تماما . إن ما يبقى من الإنسان بعد الموت هو العدم ، وان لا يمكن الحديث عن حياة حقيقية وقد وجدت العصور القديمة اليونانية سلواها في الشهرة (6) وفي نيل منحة الخلود من الآلهة . حيث نظر أنصار المثل الأعلى البطولي إلى الموت بوصفه ذروة الحياة وقمة اكتمالها وبوصفه أخر المحن التي يتعرض لها الإنسان والاختبار الحقيقي لقيمته وعلى هذا فقد تمتع الإغريق بحس رفيع بالواجب نحو المدينة والاستعداد للتضحية بالحياة من اجل رخائها . لكن البطل إنما كان يحظى بالتشريف والتمجيد على وجه الدقة لأنه كان استثناء من القاعدة وهو بالاستغناء عن الحياة في عمل رائع من إعمال البطولة ، وفضلا عن جانب الشهرة فهناك جانب أخر في هذه الديانة هو منحة الخلود من الآلهة . والى جانب هاديس هناك منطقة مخصصة للسعداء وهم ليسوا مجرد ظلال لا كيان لها ، بل هم البشر أنفسهم الذين يكفرون عن ذنوبهم أو يجازون خير جزاء عن الحياة قويمة مجيدة (7) .كان قد ذكر هذا هوميروس في تأملاته الميثولوجية ذات أهداف تعليلية وسياسية إذ ( يروي هوميروس في الاوديسية ( الكتاب الرابع عشر ) ورأى الإبطال الموتى وتحادث معهم ومنهم أخيل ، وباتروكل ، وهرقل واجاممنون الخ وهي الأرض الخضراء المزهرة وفي العالم السفلي ( هاديس) " (8)

لاشك إن هذه الأفكار تعود إلى مرجعيات ثقافية متداخلة في الشرق ولاشك أنها المرجعية الرافدينية وهناك تناصات كانت وليدة تأثير ثقافي إذ موقف الاثنان من الموت بوصفه حدث طبيعي جاء التأمل الميثالوجي الرافديدني في ما يتعلق في الموت عبر ملحمة جلجامش بالاتي :
- إلى مسكن أراكلا ( اسم العالم السفلي )
- إلى البيت الذي لا يرجع منه من دخله
- إلى الطريق الذي لا رجعة لسالكه
- إلى البيت الذي حرم ساكنوه من النور
- حيث التراب طعامهم والطين قوتهم
- يعيشون في ظلام لا يرون نورا (9)

وارض الخلود هي التي تشير إليها الملحمة حيث " اوتونابشتم " والخلود عبر الشهرة هو الذي مثله جلجامش عبر الشهرة التي حازها في أذهان شعب أورك .

الخطاب الثاني : وهو الذي مثلته الرؤية التي تنتمي إلى الديانة غير الرسمية التي دأبت على ممارستها الجماعات الاورفية والتي تقارب جذورها فيما يبدو من عبادة " ديونيزوس" الأكثر قدما وقد اختلفت هذه الديانة عن تلك الديانة الرسمية إذ كان لكل مدينة يونانية ألهتها ، وكانت الآلهة تعد بناة المدينة وحماتها ، فكان تكريمهم واجبا وطنيا ، وكان الإلحاد في حقهم خيانة للوطن ،غير إن خطابا دينيا ثانيا ظهر ويسعى إلى تجاوز حدود المدينة والى دعوة الناس جميعا ، إلى روحية أسمى وأقوى . فبدا لهم انه قد يكون بالا مكان إيجاد علاقة بالآلهة غير علاقة العبد بالسيد ، علاقة تقترب من الاتحاد الذي يكفل الإنسان المشاركة في السعادة الإلهية ، ووجدوا عند الشرقيين غذاء لهذه النزعة . فنشأت ( أسرار ) ونحل سرية تعلل مريديها بالنجاة من مصائب هذه الحياة وبالسعادة في الأخر واللحاق بالآلهة . وهي بذلك عكس الديانة الرسمية التي ترى إن حياة الإنسان ظل زائل ، واشهر هذه النحل السرية الوسيس والأسرار الاورفية نحلة الو سس تعبد " ريمتر " التي كانت آلهة الحرب عند هوميروس فصارت عندها آلهة العمل .

إما الاورفية فتعبد " ديونيسيوس " الذي كان عند هوميروس اله ترف الإشراف فصار عندها اله التضحية وعبادة ديونيسيوس معروفة منذ عهد قديم وقد وضع لهذا قواعد تقوم على التالي :
1- تدور حول أسرار ولا يدخلها الأعضاء الجدد إلا بعد تكريس ، وعلى درجات .
2- الفكرة الرئيسية الخلاص ، الخلاص من الشر والبؤس والظلم ، وفكرة الخلاص تستتبع فكرة الخلود بعد الموت ، الخلود في عيش هنيء مع الآلهة .
3- يحتفل بأعياد الآلهة في أوائل الربيع عندما تعود الحياة إلى الأرض بعودة الإله الميت في العالم السفلي .
4- من مراسيم العبادة إقامة وليمة مقدسة يذبحون لها حيوانا يشتركون بأكل لحمه رمزا لاتحادهم بالإله ،
5- وكان يرافق أعيادهم نوع من الزواج المقدس (0)
وقد زعم إتباع الأسرار الاورفية أنهم يمتلكون معرفة سرية بالعلم الروحي ، وذهبوا يكررون القول بخلود النفس ، ويؤكدون إن الموت هو الباب المفضي إلى حياة أفضل أخرى (11)

2- التأمل الفلسفي الميتافيزيقي : في مجال الموت والنفس إننا هنا نقف عند مرحلة أخرى في التفكير ينتقل فيها التفكير في الحدث الطبيعي ( الموت ) من إطاره الأسطوري إلى الميتافيزيقي الذي يعتمد ضمنا الأفكار الأسطورية ويتعامل بها عبر مساحة التفكير العقلي – الحسي .
فلقد شقت النظرة الاورفية للموت طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس ( 572 – 497 ق. م ) الذي علم تلاميذه تناسخ الروح وان الروح تسجن في الجسم وتغادره عند الموت ، بعد مدة من التظهير تدخل الجسم مرة أخرى ، وهذه العملية تكرر نفسها عدة مرات ، ولكن يتعين على الإنسان للتيقن من انه مع كل وجود جديد تحتفظ الروح بنقائها وتصبح أفضل واشد نقاء ، وبالتالي تقترب أكثر من المرحلة النهائية التي يتم فيها التوحيد مع الله – يتعين لتحقيق هذا إن يتبع الإنسان نظاما إذ وفق رؤية فيثاغورس أصبحت الفلسفة طريق حياة تؤكد الخلاص (13)

وهكذا تم الانتقال من الفكر الاورفي ألطرقي الأسطوري إلى فكر فيثاغوري أيضا طرقي سيقوم على التأمل الميتافيزيقي بوصفه كائنا حيا – حيوانا كبيرا – يستوعب بالتنفس خلاء لا متناهيا هو عبارة عن هواء غاية في اللطافة ضروري للفصل بين الأشياء ومنعها من إن تتصل فتكون شيئا واحدا وجعل إتباعه الأشياء تحدث بالتكاثف والتخلخل ، إما النفس فيذكر أفلاطون رأيا لبعضهم يقول إن النفس نوع من النغم ومعنى ذلك إن الحي مركب من كيفيات متضادة : الحار والبارد واليابس والرطب ، أو النغم هو توافق الامتداد وتناسبها بحيث تدور الحياة ما دام هذا النغم موجودا وتنعدم بانعدامه على إن أرسطو يذكر هذه النظرية ولا يعزوها للفيثاغوريين . ولكنه يضيف صراحة قولين : الواحد فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائما حتى عند سكون الهواء فكان أصحاب هذا الرأي أرادوا إن يفسروا الحركة الذاتية في الحيوان فاعتقدوا إن هذه الذرات المتحركة دائما تدخل جسمه وتحركه ، ولعلهم ظنوا إن هذا التصور يفسر أيضا كون المولود يجد ساعة ميلاده نفسا تحل فيه . وهم على كل حال يتابعون معاصريهم فيتصورون النفس مادية ولان جعلوها مادة لطيفة جدا (13)

نجد في بالمقابل هناك تصور أخر يقدم تصور للموت يقوم على التضحية بالطابع الفردي مقابل بقاء الكل وهذا ما نجده
1- -طاليس " Tales" الذي يقول :" إن الماء هو اصل الأشياء ) فانه يعبر عن رؤية تقوم على إن " الأشياء جميعا واحدة " وبالنتيجة يغدو " الموت " اقل تطرفا عبر الواحدة الجوهرية فالماء ( هو المبدأ الذي لا يهرم ولا يموت " و " العالم هو كيان حي " أي التضحية بالفردي والجزئي مقابل الكلي الحيوي .

2-إما انكسما ندر Anaximander ( 610 – 547 ق .م ) فانه أيضا يمضي في ذات الطريق .الذي قدم له طاليس فناء الجزء مقابل خلود الأصول ، مؤكدا ( إن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت عنها على وفق ما جرى به القضاء (..) ورؤيته للموت تتضمن القبول بالموت مقابل إن تعلق الآمال على الدوام " الكل " الذي لا يمكن فيه إن يكون فناء بغير معنى (14)

3- اماهير اقليطس Heraclites ( 533 – 475 ) فيرى ( إننا ننزل ولا ننزل في الأنهار ذاتها ، إننا موجودون وغير موجودين ) أي إن الصيرورة نزاع وان الامتداد في قلب هذا النزاع تشكل وحده على نحو ما يفعل قطب المغناطيس ، فكل ما يقصد بهوية الحياة والموت هو إن الفرد يفنى لكن النوع يبقى فان أجابته ستكون استباقا لما قدمه وعلم الأحياء فيما بعد لمشكلة الموت وإثناء كل هذا اكتشف اللوغوس " Logos" العقل ( أو الكلمة ) المبدأ يحكم العالم وان هناك وحدة بين العقل الإلهي والعقل الإنساني (15) انه يحاول هنا إن يعود بالمتناقضات الموت / الحياة الجزئي / الكلي إلى وحده رغم الاختلاف وهو يستمد هذه الوحدة من الطبيعة فيرى ( إن العالم وحدة ، ولكنها وحدة نتجت عن تباين) (16) وانه يصل إلى إقرار مبدأ يحكم هذه الطبيعة وهو نتيجة تأملية لحركتها حيث يقرر " التغير " بوصفه ذلك المبدأ "إن القانون العام الذي ينظم الوجود وهو التغير ولا يوجد شيء باق على الإطلاق ) (17) وهكذا يغدو الموت أمر طبيعي تفرضه طبيعة التغير التي تحكم الوجود لكن هذ ه الطبيعة لا تعدم عقل يسبغ عليها النظام وهكذا يصبح هناك ثبات لكل مقابل تغير وفناء الجزء .

4-إما بارمنيدس Porenides (515 – ق.م ) نحن إزاء رأي أخر هو وليد نقد لأراء السابقة ومنها رأي هيراقليطس على وجه الخصوص حيث يرفض فكرة " التغير " فالوجود لكي يتحرك لابد من خلاء تحدث فيه الحركة (18) ومن جهة أخرى فالوجود يملا جميع أنحاء المكان إما العدم فهو ( المكان المحض ) بالفراغ المطلق ، وهذا العدم يستحيل إن يوجد وبناء على هذه المقدمة يذهب بارمنيدس : إلى إن العالم ينبغي إن يكون واحد ومحدودا وبالتالي ينبغي إن يملأ المكان كله (19)
غياب العدم وغياب الحركة يعني إن ( الموت بمعنى الاختفاء من الوجود يغدو أمرا مستحيلا ) (20)

5- امباقليس Empedocles (495 – 435 ق . م ) .
إن التصورات التي قدمها للوجود والموت على وجه الخصوص نجده تقترب من ( بارمنيدس ) فالوجود لديه ( لا يقبل التغير ) وذلك لان التغير هو إما إلى فساد وإما إلى كون ، ولما كان الوجود واحدا فلا يمكن إن يكون هناك كون ، لان تصور إن يضاف شيء إلى الوجود من حيث إن الوجود هو الكل وليس غير الوجود شيء (21) .

وفيما يتعلق بالإنسان تجده يمزج بين الجانب الفيثاغوري وطابعه الصوفي بقوله بالخلود الذي قال فيثاغورس وبين الجانب العلمي في قصيدته الأولى ( التطهر ) يقول بالتناسخ الروح واصلها الإلهي وقوله في قصيدته الثانية ( الطبيعة ) بقوله إن القوى النفسية ليست سوى وظائف مادية والفكر لا يعدو إن يكون الدم لذي يحيط بالقلب وتنشأ الكائنات الحية من خليط من عناصر أربعة تنحل إليها مرة أخرى عند الموت (22) .
6- اناكساجوراس Anaxagoras ( 500 – 428 ق .م ) .
إن (Nous) هوا لذي يخلع النظام على الكون وهو سبب الأشياء كافة والحركات جميعا وقد استخف بالموت فهو يراه تحللا كاملا ويطهر ذلك من خلال قوله بثلاث قضايا كبرى هي :
أولا- إن الأشياء متباينة بالذات .
ثانيا – إن لا يخرج الوجود من اللاوجود.
ثالثا – إن الكل يتولد الكل ( أو إن أي شيء يتولد من أي شيء ) فالكون هو ظهور عن كمون والفساد كمون بعد ظهور (23) وبمكن عرض تصوره للكون .

إن العالم في الأصل مزيج من كل الأضداد ومن ذرات غير متناهية وان هذه الذرات لا تحتوي على مبادىء حركتها إنما هي متحركة بفعل المباين للمادة ، وان هذا العقل عارف بكل شيء وقادر على كل شيء وانه اللامتناهي القائم بذاته الموجود بذاته وانه ليس كمثله شيء انه القوي بذاته وانه مصدر قوة الأشياء جميعا وبدأت حركة العالم بفعل سيطرة العقل عليه منظم العقل حركة كلما كان وكل ماهو كائن وكل ما سيكون . إما الأصل التكويني لمحتويات العالم فهو الذرات التي هي خالدة أبدية لا تغنى وأنها لا متناهية في العدد ومتباينة تباينا لا تشابه به ذرة ذرة أخرى وان كل ذرة تحتوي على جميع الخصائص والأضداد (24) .
هكذا يغدو الموت حالة تغير على المظاهراما الذرات خالدة والعقل خالدا أيضا مما يجعل الموت حالة تغير يأتي بفعل العقل على الذرات التي بطبيعتها خالدة . مما يجعل للموت دور ثانوي .

7- لوقبيوس (Leucippus- 440 ق . م )
كان ممثلا للمدرسة الذرية نجد إن الذرات هي إعلاء وهي الوجود وان الذرات المادية لكل ما في المادة المحسوسة في معنى جسم رياضي له طول وعرض (25) . ومن هنا قال إن الحيوانات لدى الموت تنحل إلى ذرات (aloms ) ، ولكن ماهو أكثر أهمية بالنسبة لتكوين مثل هذا الموقف يتمثل في ظهور النظرة إلى الموت بوصفها تغيرا ضروريا وطبيعيا (26) .

لان الموت جزء مهم من فاعلية الحركة التي افترض وجودها فهي في الخلاء والثانية خاصة بحركة الذرات من اجل تكوين العالم (27) .
هكذا كان الموت الحدث الطبيعي الذي تناولته التأملات الفلسفية التي تجمع بين الجانب الروحي القائد إلى الفيثاغورية وبين الجانب العلمي والطبي الذي ترك إثره في تأملات الميتافيزيقية لدى الفلاسفة التي توزعت بين الخلود الفردي وبين القول بالبقاء للنوع واختفاء للفرد :

ب – النفس في تصورات الفلاسفة :
إننا هنا نحاول عرض التصورات الميتافيزيقية للمفهوم النفسي وهي صدى لتلك المرجعيات الدينية ذات السمة الأسطورية حيث كان لحدث الموت اثر في البحث في مفهوم النفس إذ تم التطرق إلى العلاقة بين النفس والجسد عبر التأمل في حدث الموت والآراء التي تناول البحث في الخلود الفردي أو البقاء للنوع ، ومفهوم المعاد الأخروي الجسد أو الظل ألشبحي " Shadow" ثم الوظيفة التي أنيطت بالنفس .

لايمكن إهمال الخطابات الميتافيزيقية الذي ظهر في الفلسفة الأيونية هي اتسمت بالنسق العملي وهي النظرة الجديدة للعالم التي ظهرت بتأثير سيطرة الرجل الفني على الطبيعة ذلك الرجل الذي كان عضوا في مجتمع حرفي إذ هناك تماثل بين العمليات الطبيعية والعمليات الفنية هو مفتاح هذه الفترة (29) إما الخطاب الثاني الذي مثلته الفيثاغورية وامتداداتها فقد كان يتصف انه تخيلي انفعالي سيكون أساسا للدين والفلسفة والعادات والأخلاق وهو يعتمد اللغة بوصفها وسيلة لتجريد فعالة ،( فكانت أداة للانفصال عن العالم الواقعي عبر فعالية التجريد التي تبتعد عن الواقع مكتفية بذاتها )(30) .

وقد عرضنا لمواقف كلا الخطابين إما في مجال النفس فإننا نحاول إن نعرض لتصورات أفلاطون وأرسطو حيث عندهما يقف التصور اليوناني للنفس .
1- أفلاطون :
يمكن تحديد ملامح موقف أفلاطون في الأتي :
الأول : حيث بدا واضحا تأثره بالرؤية التجريدية الرياضية التي تعتمد على اللغة والمنطق بوصفه منهج إذ كان يرى : " لكل شيء طبيعة أو ماهية هي حقيقة يكشفها العقل وراء الأعراض المحسوسة ، وبعبر عنها الحد ، وان غاية العلم إدراك الماهيات ، أي تكوين معان تامة الجد . ولقد كان لاكتشافه الحد والماهية اكبر الأثر قي مصير الفلسفة ، فقد ميز بصفة نهائية بين موضوع العقل وموضوع الحس ، وغير روح العلم تغييرا تاما لأنه جعل الحد شرطا له ، قضى عليه إن يكون مجموعه ماهية ، ونقلة من مقولة الكمية حيث استيطان الطبيعيون إلى مقولة الكيف فهو موجد ( فلسفة المعاني ) أو الماهيات المتجلية عند أفلاطون وأرسطو والتي ترى في الوجود مجموعة أشياء عقلية (31) . ثم سبغ عليها الشرعية عندما جعلها ( صورة من القوانين العادلة غير مكتوبة رسمتها الآلهة في قلوب البشر) (32) . فانه بذلك تجعلها لازما نية ثابتة حتى يسبغ الشرعية على الوضع الاجتماعي الثابت ( فثمة أولئك الذين يفكرون وفي القطب الأخر أولئك الذين ينفذون الأشغال ماديا ، وبين الطرفين الجيش الذي يضمن طاعة المنفذين (33) . وقد طغت تلك الرؤية على وظيفة النفس لديه فهي ( مبدأ الحياة أي مبدأ حركات منظمة وموجهة نحو غاية معينة ) إلا انه لا يفترض إن تكون الروح ماثلة في كل أجزاء الأجسام الحية بالنسبة ذاتها بل يجعلها جزئين الجزء العلوي ، وهو الذي لا يموت ، صوره الصانع نفسه ليودعها بعد ذلك في أيد الآلهة الثانوية المكلفة بصوغ الأجسام الحية ، وهذا المبدأ الغريب عن البدن مع ذلك سيتحكم في بنياته (34 )

إما الجزء السفلي فهو " الأرواح السفلى " وهي من صنع آلهة الثانوية ، وقد اولجوها في كل الجسم من الرقبة فما دون .
النفس الأولى : يمكن موقعها في الصدر فوق الغشاء الحاجز ، وهي مقر الغضب ، والحماسة الحربية (35) وهي تماثل الجيش في المجتمع .
النفس الثانية : روح التغذية في مفصولة أتم الفصل بحاجب الحاجز عن الروحين العلويتين )(36) . وهنا تظهر تلك النظرة الاجتماعية المماثلة لتركب الدولة التي وصفها " بالجمهورية " الحاكم> يقابله و وهي العلوية من خلق الصانع .
والثانية < الحراس > ويمثلها الجيش المدافع عن المدينة وتقابلها القوة الطبيعية < الشجاعة > وهي أول الأرواح السفلى ثم < الغذاء > تقابله القوة < الشهوة> وهي ثاني الأرواح السفلى وهو يجعل الجزء العلوي يقابل " العقل " فيما الجزء السفلى يقابل " الانفعال " (33) ومن كل هذا يستدل على إن النفس هي مصدر الحركة ( إن من يستمر في تحريك ذاته دائما لابد إن يكون خالدا في حيث الذي يحرك غيره فانه إنما يتحرك بغيره (38) .

ثانيها تأثره بالرؤية الدينية القائمة على التخيل وهي تUود إلى النظرة الاورفية التي شقت طريقها إلى الفلسفة على يد فيثاغورس القائلة بالتناسخ وان الروح تسجن في الجسم وتغادر الجسد بعد الموت والقائلة بالتطهير وجدت تلك الأفكار طريقها إلى أفلاطون الذي أقام تصوره بخلود النفس فهي مستقلة عن الجسم تهب الحياة له ، وتمثل النفس في المركب البشري العنصر الدائم الإلهي الذي لا يتغير بينما يمثل الجسم العابر المتغير الفاني فالنفس تجدد نفسها تدريجيا من الجسم عن طريق الفلسفة وتمت بإرادتها المادة حتى يخلصها موت الجسم تماما من المادة ويتركها حرة تتأمل المثل (29) .

إذا كان ذلك بما يتعلق بالنفس ومصيرها وطبيعتها فان أفلاطون حدد موقفه من الفردية وذلك انطلاقا من تلك الكليات الماهيات العقلية وداخل التجريد العقلي جعل من الكل هو الوجود الحقيقي مقابل الوجود الفردي الجزئي متغير فهو عالم الظلال مقابل الكلي عالم الحقيقة .


2- أرسطو :
تلميذ أفلاطون واحد أهم النقاد الذين نقدوا مشروع أفلاطون الفلسفي في جوانب كثيرة لقد انطلق من الواقع بالمقارنة باهتمام أفلاطون بعالم يجاوز أفلاطون ،لقد كان أرسطو رغم انه داخل الإشكالية نفسها بفعل الكتابان الاورفية والفيثاغورية والبارمنيدية ، إلا انه يمثل اتجاه داخل هذا النموذج الكبير الذي تهيمن عليه المفاهيم المجردة بوصفيها ماهيات بارمنيدية ، ومثل افلاطونية وصور ارسطية (40) فقد ألف عندما كان عضو في الأكاديمية محاورات له ضاعت بأسرها (41) بعنوان اوريموس "Eudemos " لا بتابع أفلاطون في موضوع خلود النفس فحسب ، وإنما هو يؤكد كذلك على وجود النفس السابقة على البدن وانتقال النفس من جسم إلى أخر وقد كان أرسطو جزء من إشكالية الفكر الافلاطوني ( إلا انه لم يعد يسمح للمادة والصور بوجود منفصل عن الكون على وجه العموم كذلك في الإنسان ، لم يعد ينظر إلى النفس على أنها زائر غريب سجين مؤقتا في الجسد إن النفس والجسد صارا جانبين لشيء واحد (42) أرسطو يجعل دراسة النفس جزءا من العلم الطبيعي من خلال إيجاد ثنائيا جديدا هو الصور والمادة ، القوة والفعل ، الفاعل والمنفعل (43) ثم انه نظر إلى النفس على أنها مبدأ الكائن الحي ( أي مبدأ الحياة ) أنها المحل الأول مصدر الحركة الحية في كل كائن .. فإذا كانت الطبيعة تمزج بعض العناصر بالبعض الأخر لتجعل الحياة وهي مرتبطة به ارتباط قوة القطع بالسكين . إن النفس كانت لدى فيثاغورس وأفلاطون كائنا شخصيا مفارقا للجسم رحال تنتقل من جسم إلى جسم ولكنها في الجسم كالنظر بالعين توجد وتختفي معه ويجذر أرسطو هذا البحث مستفيد من معنى النفس Psyche" فهو يعني باليونانية : شيء قريب من لفظ " شعور " وفي الكتابات الفلسفية فانه يدرك على ما يجب إن تسميه " مبدأ الحياة " (45) وتغدو النفس لدى أرسطو هي : كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة (46) وأرسطو مختلف عن أفلاطون إذ أصبحت لديه المادة والصورة يظهران معا بوصفهما جانبين للوجود ، فكان يرى بين النفس والجسد علاقة كعلاقة الصورة بالمادة على عكس ما قاله أفلاطون الذي كان يراها كعلاقة الربان بالسفينة .

وهذا يعود إلى تصور أرسطو للعلاقة بوصفها قائمة على وحدة جوهرية للإنسان لان النفس والجسد ليس جوهرين منفصلين وإنما هما عنصران لا ينفصل الواحد منهما عن الأخر (45)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الهوامش

1-جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ترجمة : كامل يوسف ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ، الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، ص 35 .
2- إبراهيم محمود ، أئمة وسحرة
3- بيتر مونز ، حين ينكسر الغصن الذهبي ، ترجمة : صبار سعدون السعدون ، سلسلة المائة كتاب ،دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد ، 1986 ، ص 75 .
4- أولف جيجن ، المشكلات الكبرى ، ترجمة : ، ص 365 .
5- جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 36
6- أولف جيجن ، المشكلات الكبرى ، ص 345.
7- المرجع السابق ، ص 348
8- إمام عبد الفتاح إمام ،معجم ديانات وأساطير العالم ، المجلد الأول ،مكتبة كدبولي ، القاهرة ( د.ت) ، ص 131
9- طه باقر ،ملحمة جلجامش ،دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ط5 ، 1986 ، ص123 .
10- أنيس فريحة ، دراسات في التاريخ ، ص 34 ، وانظر مارتن لرنال ، اثينة السوداء ، ترجمة : لفيف من المترجمين ، المشروع القومي للترجمة ، 1985
11- جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 52 ، وانظر حسام محي الدين الالوسي ، من الميثولوجيا إلى الفلسفة أو بواكير الفلسفة قبل طاليس ، بغداد ، 1986 ، ص 126 .
12- المرجع السابق ، ص 52 .
13- أرسطو طاليس ، كتاب النفس ، ترجمة : احمد فؤاد الاهواني ، ط 2 ، القاهرة ، 1962 ، ص 10 -11 .
14- جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 38 – 39 .
15- جاك شورون ، المرجع السابق ، ص 41 – 42 ..
16- رسل ، تاريخ الفلسفة الغربية ، عالم المعرفة ،ج 1 ، الكويت ، ص 83 .
17- أبو ريان ، تاريخ الفكر الفلسفي ، ج 1 ، ص 8 ، وانظر علي سامي النشار وجماعته ، هيراقليطس فيلسوف التغير وإثره في الفكر الفلسفي ، ط 1 ، القاهرة ، 1969 ، ص39 .
18- البير ريفو ، الفلسفة اليونانية ، ترجمة : عبد الحليم محمود وزميله ، القاهرة ، (د.ت) ، ج1، ص91 ، وانظر احمد فؤاد الاهواني ، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط ، ط1 ، القاهرة ، 1954 ، ص 133.
19-حسن مجيد العبيدي ، نظرية المكان في فلسفة ابن سينا ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، 1987 ، ص 23 .
20- يوسف كرم ، تاريخ الفلسفة اليونانية ، ص 28 – 29 وانظر جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 23 – 24 .
21- رسل ، حكمة الغرب ، ج 1 ، ص 80 .
22- جاك شورون ، المرجع السابق ، ص 45 .
23- يوسف كرم ،تاريخ الفلسفة اليونانية، ص 37 .
24- مدني صالح ، بداية التأسيس الفلسفي ( الأساطير من طاليس إلى سقراط ، مجلة أفاق عربية ، العدد 10 حزيران ، 1977 ، ص 67 .
25 – احمد فؤاد الاهواني ، فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط ، ص 201 .
26- جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 45 .
27- عبد الرحمن بدوي ،ربيع الفكر اليوناني ،ط4 ، القاهرة ، 1969 ، ص 154 .
28- جاك شورون ، الموت في الفكر الغربي ، ص 35 .، وانظر أولف جيجن ،المشكلات الكبرى ، ص 345 .
29- انظر يوسف كرم ، المرجع السابق ، ص 10 ، وانظر أمير حلمي مطر ، دراسات في الفلسفة اليونانية ، دار الثقافة ، القاهرة ، 1980 ، ص 7 .
30- بينام فافتن ، العلم الإغريقي ، ص 47 ،95 .
31- اثيان جلسون ، ص 235
32- يوسف كرم ، المرجع السابق ، ص 53 -5ق4 .
33 – حسام الدين الالوسي ، ص 96 .
34- أفلاطون ، طيماوس ، ص 125
35- أولف جيجن ، المرجع السابق ، ص 2354
36-
37 - المرجع نفسه ، ص 254 .
38- جلسن طيماوس ، ص 234 .
39- جلسون ، ص 33ق5 .
40- العلم الإغريقي ، ج ، ص 149
41- الموت ، ص 58
42- العلم الإغريقي ،ج ، ص 149
43- أرسطو ، النفس ، ص 18
44- أرسطو ، النفس ، ص 23.
45 –جلسون ، ص 238 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تساؤل بالإعلام الإسرائيلي عن أسباب أخر الحكومة في تشكيل لجنة


.. تشييع جثامين فلسطينيين استشهدوا خلال مداهمات إسرائيلية بالضف




.. صحف عالمية: إسرائيل تحاول تغيير المنطقة لكن الأمر ليس سهلا


.. روسيا: لن نقبل بالحلول المؤقتة في أوكرانيا.. هذا ما يريده بو




.. الجيش الإسرائيلي: مقتل رائد وإصابة ضابط وجندي بجروح خطيرة بم