الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


.زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني

شريف مليكة

2007 / 4 / 20
الادب والفن



اللقاء
أول طريقى ف الحياة.. شجاع وجسور
وفوق شعاع الشمس طاير.. ووياكى يادنيا بادور
جاى للأمل.. م انا مش بطل.. ولاشيخ طريقه!!
ده انا إللى جايلك أسايرك.. عابر جبال وبحور..

مرت أيام وظهر المقال فى عدد من الصحف وجاءتنى عشرات من الردود, وتعليقات كثيرة من إطراء لفضح ذلك السر, ومن إستغراب الى إستهجان ولكن لم يلفت نظرى بجد سوى تعليق جاءنى عبر البريد الإلكترونى من شخص يدعى "سامى إبراهيم" يعبر فيه بإقتضاب عن إستغرابه لوضع يدى على هذه الوثائق الخطيرة وعن خطورة موقفى بعد نشر هذه الحقائق من ناحية, وعن يقينه بصحة تلك المعلومات بدون أى ذرة من الشك, من ناحية أخرى, لأنه ببساطة أحد سكان "الجزيرة".. وقد أبلغنى عن عزمه لزيارة "نيويورك" فى وقت لاحق, لم يحدده بعد, وإن كان سوف يعلمنى به إذا كنت مهتمـًا لمتابعة الموضوع.. وعلى الفور رددت على رسالته بأننى مهتمٌ جدًا للقاءه, إذا تفضل هو وأعلمنى قبل موعد وصوله بزمن كاف يتيح لى السفر لنيويورك للقائه وتركت له رقم التليفون الشخصى..

وفى بدايات شهر مايو حين تتسلل الحرارة بإصرار لتنتزع الريادة من برودة أيام الربيع الأولى, المتسللة إليه من بعد سقيع الشتاء الممتد على الساحل الشمالى الشرقى للولايات المتحدة الأمريكية, وحين تبدو الدنيا وكأنها فى حالة "فرح" فتزدان الأشجار بأوراقها الشديدة الخضار, بينما تكتسى الشوارع بالأزهار الملونة بعد أن تفتحت براعمها وأورقت وتخصبت فوق أغصانها, ثم تطايرت لتكسو وجه الأرض بألوانها الزاهية وعطرها الفواح, معلنة للبشر عن بدء موسم العشق والمرح.. فى وسط هذا المهرجان من الجمال كنت أقود سيارتى متجهًا لعملى ذات صباح حين جاءتنى مكالمة تليفونية أعادتنى من هذا الإحتفال الرائع الى دنيا الواقع..
"آلو.. أيوه أنا.. مين حضرتك؟.. أيوه طبعـًا فاكرك ياسامى.. أيوه.. إمتى؟.. طيب هايل.. أنا لازم هاشوفك إن شاءالله.. أتصل بيك إزاى؟.. نفس النمرة دى؟..أوكى.. مع السلامة.."
أعادتنى المكالمة التليفونية الى "الجزيرة" و"سامى إبراهيم" وأيقظت من جديد فتيلة المغامرة, تتمايل فى داخلى بفعل نسمات مايو الدافئة.. وفكرت أنه جيد أن أتقابل معه فى نيويورك فى أحد المطاعم هناك, بعد أن أكون قد زرت أبى المقيم بأحد بيوت المسنين بقرب أمى وبقية العائلة..

لست أدرى بوضوح لمَ إعترانى لحظتها شعور بالبهجة وحب الحياة, ففتحت زجاج أبواب السيارة الأربعة وأدرت مؤشر الراديو لمحطة الموسيقى وأرسلت النغمات صاخبة عبر نوافذ السيارة المفتوحة لتضفى بعدًا جديدًا على سيمفونية الجمال المحيطة بى.. ولكن وعلى ما يبدو لم يوافقنى الجميع فى إختياراتى الموسيقية الشخصية, فتلقيت بعض الشذرات من قائدى السيارات الأخرى التى مررت بها, ولكنى تعمدت أن أتلافى المواجهة فأدرت رأسى بعيدًا لأننى ـ لأنانيتى وقتها ـ لم أكن على أى إستعداد لأن أضحى بأى من مقومات تلك الإحتفالية المنظومة من أجلى فى هذا اليوم الذى بدأت فيه رحلتى لإستكشاف تلك "الجزيرة"..

وترجلت وأنا أنظر الى كل هذا الجمال المحيط بى, إنحنيت ومددت يدى ألتقط حفنة من أوراق الزهور المتناثرة فوق الأسفلت من حولى.. هل كل هذا حقيقى؟ نعم أعرف أنه حقيقى لأنى أراه أمامى, وأمد يدى فألمسه, وأستنشق عبيره الفواح.. ولكن يبقى السؤال يتردد.. هل كل ما أراه الآن أو ألمسه وأستنشقه هو فعلا ً الحقيقة, أم أنه مجرد وجود حقيقى لدفء شمس, وورق لأشجار, أو عطر لأزهار تحيط بى وبحواسى, فأشعر بها وبوجودها الحقيقى من حولى, أو بوجودى أنا فى وسطها, فأظنها هى الحقيقة بعينها, كما ظن هؤلاء المهاجرون يومًا أنهم هاجروا إلى أمريكا! مأساة حقيقية لو أن ما حدث يومًا لسامى ولآلاف غيره, يكون قد حدث لى أنا أيضًا معهم!! ماذا أملك من دليل على أننى أعيش اليوم فوق سطح "الجزيرة" أو فى أمريكا؟.. وإبتسمت متفكرًا: "جزيرة أكبر من الأولى على أية حال"..

ومرت سحب غطت بريق الشمس الساطعة فانتابتنى موجة خفيفة من الكآبة بنفس السرعة التى غمرتنى فيها الفرحة قبل لحظات.. وإنغمرتُ فى لجة العمل وتسرسبت الساعات, وغابت الشمس وعادت بضعة مرات.. ووجدتنى يومًا أدفع بيدى الباب الدوَّار الزجاجى المصقول بإطاره النحاسى الثقيل الوزن, الذى يفصل الشارع الخامس عن بهو الـ "والدروف أند أستوريا هوتيل" فى قلب نيويورك.. كان الإكتئاب مازال يعترينى بعد زيارتى لأبى فى بيت العجزة والمسنين, ولاتزال تحاصرنى إبتسامته الحانية ونظراته المترجية تلاحقنى بإستعطاف ألا أتركه وأبتعد .. ولكن حالته الصحية لا تسمح بالإقامة وسطنا دون رقابة مستمرة.. لقد سقط عدة مرات فى منزله عندما حاول ترك الفراش بمفرده دون مساعدة.. وإحتاج لإجراء عمليتين لإزالة تجمع دموى فى الدماغ كاد أن يقضى بعد إحداهما.. هموم الحياة..

دخلت مع جموع الداخلين من السياح والنزلاء المنمقين بثيابهم المنشاة وأحذيتهم اللامعة تخطو برفق فوق أرضيات رخامية مترامية بديعة الألوان لا يفوقها جمالا ً إلا السجاد العجمى العتيق الملقى فوقها بزهو أنيق.. وطافت عيناى بعيون ملونة منتشرة هنا وهناك مختلطة بعيون شاخصة فى لوحات مرسومة معلقة على جدران البهو الفسيح بحوائطه الفارهة, بينما تنامت فى المكان همهمات الناس تتخللها ضحكة هنا أو هناك, ممزوجة بدقات عازف بيانو يقبع فى ركن من البهو غائصًا خلف آلته العملاقة, مكبرة بأصداء لكل تلك الأصوات معًا فوق الأرض الرخامية وعبر الجدران المترامية, فأضفت على منظر البهو صوتـًا للحياة بجنباته, ممتزجًا بعطور شتى ورائحة سيجار آتية من ركن بعيد, ربما من ناحية البار عند الناحية الأخرى من الصالة.. ونظرت لساعتى, عشر دقائق قبل الميعاد, على غير العادة!.. مددت يدى بعفوية لأعدل ياقة القميص, وأنا أدور بعينى حول المكان أبحث عن "سامى إبراهيم".. ربما من الأفضل أن أطلبه بالتليفون الآن لأخبره بأننى سأنتظره عند البار.. آه.. ولكنى أكره رائحة السيجار.. ما علينا, هى دقائق ثم نمضى خارجًا..

"واحد فودكا مارتينى لو سمحت مع حبتين أو ثلاثة من الزيتون الأخضر".. مشروب مناسب لتذويب القلق والإكتئاب, تفكرت فى نفسى.. "إجعلهم إثنين لو تسمح" جاء صوته من فوق كتفى الأيسر وأنا جالس قبالة البارمان.. فأدرت عنقى لليسار وإلتقطتنى عيناه العسليتان الكبيرتان أكثر من اللازم, المحاطتان بحاجبين كثيفين ونظراتهما الوقحة غير المريحة, لا.. ربما أنه أنفه الضخم الذى برز من وجهه كالورم, بنتوءات صغيرة تحيط بجلده مع إحمرار واضح.. وبإبتسامة ساخرة مد يمناه قائلا:
ـ "سامى إبراهيم"..
لست أدرى سر عدم الإرتياح الذى إجتاحنى, بالرغم من شدة ولعى الشخصى بالبشرـ بل وبمقابلة إنسانية جديدة بالذات ـ لما تثيره لدى فى العادة من فضول.. مال بجزعه الملتوى, وإرتكز بساعده الأيسر عند حافة البار ليجلس بالمقعد المجاور لى دون أن تفارقنى عيناه..
ـ "مصرى؟" قالها بإبتسامته اللزجة..
ـ "نعم.. وأنت؟"
ـ "كنت.."
ـ "كنت؟ .. ودلوقت؟"
ـ "ما أنا لسه بافكر فى الموضوع.. يعنى أمريكى.. مصرى .. منياوى .. مش ح تفرق .."
ـ "يعنى إنت من المنيا؟"
قلت ملاحظـًا الآن لكنته الصعيدية, التى يحاول إخفاءها, ومحاولا ً أن أضفى صبغة دافئة على الحوار..
ـ "كنت.."
ـ "لأ دى بقى مافيهاش كنت.. تقدر تفكر إنت إيه النهاردة, أو ح تكون فين بكره.. لكن إمبارح.. خلاص مش بتاعك .. مافيش فيه أفكر.. ولا فيه كنت" ..
وأطرق بعينيه نحو زجاجات الخمور المرصوصة أمامنا فوق الجدار الخلفى للبار, وشرد بعيدًا, وكانت تلك أول مرة تبتعد عنى تلك العينان العسليتان الكبيرتان أكثر من اللازم, فشعرت ببعض الإرتياح..

رفع كأس المارتينى ورشف منه ثم وضعه ثانيًا, ومد يده الى جيب قميصه وأخرج علبة سجائر وولاعة رخيصة, وبدون أن يحول عينيه سحب سيجارة وأشعلها تلقائيًا, وسحب نفسًا من الدخان وأطلقه أمامه بزفرة أعادته من حيث كان , فرسم الإبتسامة فوق شفتيه من جديد وإستدار نحوى قائلا:
ـ "سنين طويلة.. عمر.."
ثم مد أصابعه ملتقطًا الخنجر البلاستيك المارق ببدن ثلاث زيتونات خضراء غاطسة فى كأس المارتينى, ورفعها نحو شفتيه ملتقطـًا أقربها إليه وقضمها, ثم أعاد الباقيات الى الكأس, ورشف قليلا ً من السائل بتلذذ واضح, وسأل:
ـ "وأنت كم سنة قضيت فى أمريكا؟"
ـ "أكثر من عشرين سنة.. قل لى ماذا دفعك لأن تكاتبنى عن موضوع الجزيرة؟ أليس هذا بعد مشروع مصنف (سرِّى) أم أنه أصبح مشاعًا بعد حكاية السفينة اليونانية وهروب الثلاث عمال العرب؟"
قلتها وأنا أبتغى أن أدخل فى صلب الموضوع, كعادتى لاأضيع وقتـًا فى اللف والدوران حول أى شئ أهتم به, حتى أبدو فى بعض الأحيان مباغتـًا أكثر من اللازم مما قد ينفر البعض منى.. إزدادت إبتسامته لزوجة , مما عظم إحساسى بعدم الإرتياح نحوه..

لم أضع يدى بعد عند مصدر ذلك الإحساس الذى إعترانى منذ قابلته.. ولكنه شعور مؤكد بالريبة يدفعنى الآن لتوخى الحذر أكثر من ذى قبل.. فعلا, ما الذى دفعه لعرضه لمقابلتى؟ ماذا له أن يجنى من وراء تلك المقابلة لأنه هو الذى يمتلك كل المعلومات عن الجزيرة, فى حين لا أملك أنا بأى شئ أدفع به فى المقابل.. أدفع؟؟ أيبتغى نقودًا مثلا ً فى مقابل المعلومات التى يمتلكها؟ أم أن الأمربالنسبة له تسلية أو فضول لمقابلتى, وقتل بعض الوقت أثناء زيارته لنيويورك؟.. رد قائلا:
ـ "معك حق.. أنا نفسى تساءلت عن هذا الشئ بعينه.. أعتقد أن مقالتك شدتنى لما إحتوت من إحساس واضح بالشغف الشخصى لإظهار الحقيقة, أعنى من الناحية الإنسانية, وليس من أجل خبطة صحفية تفرقع مثلا, أو من أجل إجترار بعض المال, أو الترويج لإحراج جهاز المخابرات أو الحكومة الأمريكية أو أشياء من ذلك القبيل.. يعنى أحسست أنك ما تؤاخذنيش مجرد هاوى.."
ـ "ولكن ماهو دافعك أنت لمقابلتى؟ أنا أفهم دافعى وهو معلوماتك عن الجزيرة, الذى من أجله سافرت أكثر من مائتى ميل لمقابلتك, وأنت؟"
خفــَّت فجاجة إبتسامته قليلا ً وقال مقدمًا أنفه العظيم فى تكبر حاول أن يخفيه قائلا:
ـ "مجرد فضول.." صمت برهة ثم أضاف:
ـ "سنين طويلة مرَّت ونحن نعيش بالجزيرة, ولا يدرى بنا أحد, ولا نعرف نحن على وجه الدقة أين نحيا, فوق أى أرض, تحت أى علم, لاجيران لنا أو سائحين مثلا ً يزورون بلدنا فنرى العالم من خلالهم, لا شئ.. نفس الوجوه ونفس الأماكن, وتتسرسب الأيام والسنون, ونحيا ونموت, ونحن لا ندرى أى شئ عن العالم من حولنا.. حتى حدث موضوع العمال الثلاثة.. عرفنا بعدها.. بعد أن تسلل الخبر من شخص الى شخص ومن دار الى دار حتى عرف الجميع دون أن يعرف الجميع أن الجميع عرفوا.. لم نتحدث بهذا الأمر فى تجمعاتنا بل كان الخبر يتناقل سريًا من صديق الى صديق, وآثر الجميع أن يبقوه سرًا جاثمًا فوق رؤوسهم لا يعرف أحد منا ماذا يفعل إزائه أو كيف نتعامل معه, حتى كتبت أنت مقالك ونشرته.. فقرأته أنا عند آخر زياراتى لنيويورك, فتحمست أنا وبعثت لك بالرسالة ثم كلمتك عندما إستجبت لرسالتى.."

صوبت عينى نحوه هذه المرَّة محاولا ً أن أستشف ما إذا كان ما يقوله هو الحقيقة, أم يحاول أن يهدئ من حدة تساؤلاتى المتلاحقة, ولكنى أعترف بأن نظراتى لم تنجح فى الوصول الى أعماقه, فسألته:
ـ "وماذا جعلك ترغب فى ترك المنيا لتهاجر فى أول الأمر؟"..
رفع الكأس ودفع بجرعة كبيرة نحو حلقه تبعها بزيتونة , ومضى يلوكها بلسانه وبأسنانه وفقد تواجده بجانبى ثانية, وغاب فى غياهب ذلك الماضى السحيق وهو يقص حكايته لنفسه أولا, ثم لى دون أن يعى إذا ما كنت فعلا ً هنا أمامه أم لا..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??