الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصراعات الايدولوجية والتوجه الامريكي من اجل السيطرة على العالم

خالد سليمان القرعان

2007 / 4 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


ما تحتاجه المجتمعات اليوم، كما بالأمس، وإن كان في إطار ظروف بنيوية مختلفة (بسبب الثورة في الاتصالات، وعلوم الحياة، والتحولات في أشكال العمل، والعلاقات الاجتماعية التي ترتبت عليها)، هو مشروعات مجتمعية (وطنية و/أو إقليمية)، مترابطة في إطار هياكل عولمة مقننة، ومنفق عليها (بما يضمن تكاملاً نسبياً فيما بينها)، تحقق تقدماً متزامناً، ومتوازياً في اتجاهات ثلاث:
أ‌. التقدم الاجتماعي: وهذا يقتضي أن تقدم الاقتصاد (التجديدات التقنية، وارتفاع الإنتاجية، والتوسع المرتقب للأسواق)، يواكبه بالضرورة تقدم اجتماعي يخدم الجميع (بضمان الحق في العمل، والاندماج الاجتماعي، والتقليل من التفاوت، الخ.).
ب‌. مقرطة المجتمع بجميع أبعاده، بوصفها عملية دائمة، وليس مجرد "وصفة" (أو "مخطط" جاهز) ثابتة لا تتغير (بحيث تجمد التطور على نسق الأشكال الثابتة "للديمقراطية" كما تمارس في البلدان الغربية المعاصرة). والديمقراطية تتطلب التوسع في مجالات تطبيقها لتشمل الإدارة الاقتصادية والاجتماعية، وألا تتوقف عند مجال الإدارة السياسية للمجتمع.
ج‌. التأكيد على الطبيعة المتمركزة على الذات للمشروعات المجتمعية للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، وبالتالي، بناء أشكال من العولمة تسمح بهذا. ومن المفهوم أن الطابع المتمركز على الذات للتنمية لا يستبعد لا الانفتاح (بشرط بقائه تحت السيطرة)، ولا المشاركة في "العولمة" (أو "الاعتماد المتبادل"). ولكنه يفهم هذه المشاركة في إطار يؤدي إلى التقليل من التفاوت في الثروة والسلطة بين الأمم والأقاليم، لا زيادتها.

"والبديل" الذي نُعرِّفه بالتقدم في الاتجاهات الثلاثة، يقتضي السير بالتوازي، فتجارب التاريخ الحديث التي بنيت على أساس إعطاء أولوية مطلقة "للاستقلال الوطني" (والتي خصص التحديث لخدمتها بالكامل)، سواء أكانت مصحوبة بتقدم اجتماعي، أو حتى مع التضحية بهذا التقدم، ولكن دائماً دون ديمقراطية، قد ثبت فشلها في تخطي الحدود التاريخية القريبة. وفي المقابل، فالمشروعات الديمقراطية المعاصرة التي ارتضت التضحية بالتقدم الاجتماعي، والاستقلال في إطار الاعتماد المتبادل المعولم، لم تنجح في تعزيز القدرة التحريرية للديمقراطية، وإنما في إفسادها، بل في تحطيم مصداقيتها، وفي النهاية نزع الشرعية عنها. وإذا كان، طبقاً لما يدعيه الخطاب النيو لبرالي السائد، لا بديل للخضوع "للسوق"، وأنه فضلاً عن ذلك، فإن هذا الخضوع ذاته، سيحقق التقدم الاجتماعي (وهو غير صحيح، ولكن الخطاب الاقتصادوي التقليدي يحاول إثباته بعملية المزايدة الثقافية)، فما "جدوى التصويت" إذن؟ فهنا تصبح البرلمانات المنتخبة، والحكومات المسئولة، مجرد عناصر تجميلية لا فائدة منها. ويحل "تداول السلطة" (أي تتالي أشخاص مختلفين للقيام بنفس الشيء)، محل الاختيارات البديلة طبقاً لتعريف الديمقراطية. وإعادة تأكيد السياسة والثقافة المرتبطة بالمواطنة، هي التي تخلق إمكانية ظهور بديل لتدهور الديمقراطية.

ولذلك فمن الضروري التقدم على المستويات الثلاثة للبديل، دون الفصل بين أي منها عن الآخر. ولعله من الأنسب وضع استراتيجيات مرحلية تسمح بتعزيز التقدم، مهما كان صغيراً، وفي أي موقع، وفي التو، ثم التقدم خطوة أخرى للتقليل من مخاطر الفشل، أو الانزلاق، أو التراجع مرة أخرى.

ووضع استراتيجيات ملموسة للمراحل يقتضي بلا شك، الأخذ في الاعتبار بما حققه العلم والتكنولوجيا في الوقت الحالي من الإسراع بدورات التقدم، في جميع أبعادها (الثروات الجديدة، وقوى التدمير المحتملة لهذه الثورات، والتحولات في تنظيمات العمل، والهياكل الاجتماعية، والعلاقات مع تركيز رؤوس أموال القلة المحتكرة، وإدارتها بالأساليب المالية). ولكن لتحقيق ذلك، لا يمكن الركون للأمل (الخادع) بأن تلك الثورات لديها القدرة (السحرية) على حل تحديات التقدم الاجتماعي، والديمقراطية من تلقاء ذاتها. بل بالعكس، فإنه بإدماج "الجديد" في الدينامية الاجتماعية المسيطر عليها، يمكن الاستفادة من الإمكانيات المحررة لهذا الجديد.

وإذا كنا نعتبر الخطوط التي رسمناها أعلاه للمشروعات الاجتماعية، "بدائل"، فذلك بالضبط لأن السياسات التي تنفذها القوى المسيطرة على النظام اليوم، تسير في الاتجاه المضاد لهذه المقتضيات.

يقوم المشروع المجتمعي المسمى، زوراً، "اللبرالي" (وكذلك الصورة الأكثر تطرفاً، "النيو لبرالية)، على أساس التضحية بالتقدم الاجتماعي في سبيل الربحية المالية (وحتى في المدى القريب وحسب) للقطاعات المسيطرة من رأس المال (رأسمال 500، أو 5000، شركة كبرى متعدية الجنسية). ويحقق هذا الخضوع وحيد الجانب للعمال، أي للبشر، والأمم، للمنطق الوحيد "للسوق" المزعوم، "الجنة الدائمة" لرأس المال (والذي يقضي بخضوع جميع جوانب الحياة الاجتماعية لمقتضبات "الربحية"). وهي جنة ضيقة الأفق بالكثير من المقاييس، فلا أسس علمية أو أخلاقية لها، وفي الواقع، يصبح التقدم الاجتماعي، والديمقراطية، في ظل هذا الخضوع بلا أي مضمون.

وعلى مستوى العالم، لا يؤدي هذا الخضوع إلا إلى إعادة إنتاج، وتعميق التفاوت بين الأمم والأقاليم، متخذاً أشكالاً، وهياكل مسايرة لمتطلبات رأس المال الذي بلغ مرحلة جديدة كيفياً من تطوره. بمعنى أن "الاحتكارات" (التي يطلق عليها أحياناً "المزايا النسبية") التي تتمتع بها القلة المحتكرة في المراكز المسيطرة (الثالوث)، لا تقتصر على الصناعة، كما كان الحال في ماضٍ انتهى، وإنما في أشكال جديدة من السيطرة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية (السيطرة على التكنولوجيا بوساطة التشريعات المتعلقة بالملكية الصناعية والفكرية، وحرية الاستحواذ على الموارد الطبيعية لكل الكوكب، والقدرة على التأثير في الرأي العام، بل تعديله، بالسيطرة على وسائط الاتصال والإعلام، والتركيز المفرط لوسائل التدخل المالي، والانفراد بملكية أسلحة الدمار الشامل، الخ.).

لا يمكن التفريق اليوم، ولا في ما مضى، بين الاقتصاد والسياسة، أو بين "السوق" وسلطة الدولة، بما فيها العسكرية، وذلك بالرغم من الخطاب الأيديولوجي السائد، الذي يحاول إنكار ذلك. فكيف يمكن إذن، في مواجهة هذه الوحدة بين استراتيجيات القلة المحتكرة، متعدية الجنسية، والسلطات السياسية التي تخدمها، إقامة استراتيجية مضادة لخدمة الشعوب، يمكنها بالإضافة "للمقاومة"، أن تدفع للأمام البديل الذي وصفناه هنا؟ هذا هو التحدي الحقيقي.



2. الجمع بين الحركات الاجتماعية، وإعادة بناء سياسة المواطنة

لا يوجد مجتمع متجمد في حالة سكون كالأموات، على الأقل في عصرنا الحاضر. وبهذا الفهم فليس جديداً وجود "حركات اجتماعية"، ظاهرة أو أقل ظهوراً، منظمة بشكل علني أو تعمل تحت الأرض، متبلورة حول برامج وأهداف مصاغة بتعبيرات أيديولوجية وسياسية، أو تعبر عن مجرد عدم الثقة في "الخطاب الفخيم"، أو حتى في "السياسيين المحترفين"، متجمعة بشكل منظم أو مفتتة لأقصى حد.

إنما "الجديد" فعلاً، والمميز للمرحلة الراهنة، هو أن "الحركات الاجتماعية" (أو "المجتمع المدني"، باستخدام التعبيرات "الموضة")، مفتتة، ولا تشعر بالثقة في السياسة، أو في الصياغة الأيديولوجية. وهذا هو، في الوقت ذاته، السبب وقبل ذلك النتيجة، لتآكل أشكال الصراع الاجتماعي والسياسي للمرحلة السابقة، والتي انتهت، من التاريخ المعاصر (مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية)، وما تلاه من انهيارها وفقدان فاعليتها، وبالتالي فقدان مصداقيتها وشرعيتها. وأدى هذا التآكل إلى فقدان جوهري للتوازن، الأمر الذي سمح لرأس المال المسيطر باحتلال واجهة المسرح، وفرض المنطق المنفرد لشروطه على الشعوب والمجتمعات. ومكنه كذلك، أن يعلن أبدية "سيطرته"، بل والادعاء بعقلانيتها وحتى تحقيقها للخير (نظرية "نهاية التاريخ" وما إليها)، مما يعني العودة (مؤقتاً") لجنة الرأسمالية الأبدية. ويجري التعبير عن هذه الأوضاع بشعارات غير منطقية من نوع "لا يوجد بديل"، أو في تخيل "حركة اجتماعية" يمكنها تغيير العالم دون التعبير عن مشروعها المجتمعي.

و"الحركات الاجتماعية" (في صيغة الجمع)، موجودة ويتقوى وجودها وتحركها في كل مكان من عالمنا المعاصر، ولا يحتاج الأمر لإعطاء أدلة. ويجري التعبير عنها بواسطة الطبقات والصراع بينها، وحركات النضال من أجل الديمقراطية، ومن أجل حقوق المرأة، وحقوق الفلاحين، ومن أجل احترام البيئة، الخ. والانضمام بنشاط لهذه الحركات، يعمل على بلورة البديل الذي سيغير العالم، ولكن هذا التغير يقتضي أن تتعلم هذه الحركات أن ترتفع تدريجياً من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، ومن حالة التفتت إلى التجمع في إطار التعددية، وأن تصبح الفاعل الحاسم في مشروعات مجتمعية خلاقة وفاعلة، من أجل بناء استراتيجيات سياسية لصالح المواطنين.

والاعتراف بأوجه الضعف في الحركات في حالتها الراهنة، لا يعني إنكار ضرورتها المطلقة، ولا التحسر على ماضٍ ذهب، وإنما التحرك لدعم إمكانياتها الخلاقة والمحررة.
والشعوب لها عدو واضح، هو رأسمال القلة الاحتكارية المعولم والإمبريالي المسيطر، وإلى جانبه مجموع القوى السياسية التي تقف في خدمته اليوم. وهذا يعني حكومات الثالوث (طالما أن اليمين واليسار في القوى الانتخابية تتبنى "اللبرالية")، وخاصة حكومة الولايات المتحدة (حيث تتقاسم الهيئة الحاكمة بجناحيها الجمهوري والديمقراطي ذات الرؤية لدورها المسيطر)، وحكومات الطبقات الحاكمة الكومبرادورية والتابعة في بلدان الجنوب. ويتحرك هذا العدو في إطار استراتيجية اقتصادية، سياسية، أيديولوجية، عسكرية مشتركة، ولديه مجموعة من الهيئات المجندة لخدمته ـ المنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وحلف شمال الأطلنطي، الخ. ـ ولديه مراكز "الفكر"، وأماكن الالتقاء (خاصة دافوس، و"النوادي" اللبرالية على طريقة فون هايك، والجامعات وخاصة أقسام الاقتصاد التقليدي). وهو يخترع "الموضات"، ويطرح الشعارات البراقة في الخطاب الذي يفرضه، مثل: "الديمقراطية"، أو "حقوق الإنسان" (بمدلولاتها التي يجري التلاعب بها)، و"محاربة الفقر"، و"تواري الأمم" وفي الوقت ذاته إبراز "الجماعات"، والحرب ضد "الإرهاب"، الخ. ويجب أن ننوه انه حتى الآن، فإن الغالبية العظمى من "الحركات"، والمناضلين الذين ينشطون بها، يتخذون موقفاً ذيلياً، ويستجيبون بقدر من التأخير، وبكفاءة أكثر أو أقل، لهذه الأجزاء من الاستراتيجية أو الخطاب. وعلينا أن نتخلص من أوضاع رد الفعل الدفاعية هذه، وأن نرد بالتقدم بخطابنا الخاص، واستراتيجيتنا الخاصة، وأهدافنا، ولغتنا، ولكننا ما زلنا بعيدين عن ذلك.

ولكننا لن نتقدم في هذا الاتجاه إلا إذا استطعنا تحليل استراتيجيات العدو بشكل منظم، سواء في أبعادها العالمية، أو في تعبيراتها المحلية والجزئية. مع ملاحظة أن هذه الاستراتيجيات أبعد ما تكون عن أن تكون كتلة واحدة مترابطة، فتناقضاتها الخاصة تخترقها من كل جانب، وعلينا أن ندرس هذه التناقضات، ونحللها جيداً، وأن نحددها بدقة. علينا أن نضع استراتيجيتنا المضادة التي تعرف كيف تستفيد من هذه التناقضات.

وفي مواجهة هذه الواجبات الملحة والعاجلة، تبدو الحركة، أو الحركات، حالياً ضعيفة جداً. فدون إعطاء هذه الفكرة ما تستحقه من اهتمام واستنتاج ما يجب عمله، تبقى الحركة مفتتة، وفي موقف الدفاع، وضعيفة في خطابها وخططها (وهو ما يعرف العدو كيف يستفيد منه). علينا إذن، أن نرتفع إلى المستوى الذي يسمح ببلورة استراتيجيات القوى الشعبية، سواء على مستوى إدراك عالمية الاعتماد المتبادل بينها، أو على مستوى التعبير الجزئي والمحلي. وهنا فقط يمكن للمبادئ العامة التي تحدد شكل البديل أن تتجسد في شكل برامج وتحركات تكتسب قوتها من تنوعها، وفي الوقت ذاته تجمع آثارها على المجتمعات الحقيقية. وهنا فقط، تصبح "الحركة" القوة المحركة للتاريخ.

والعدو يعمل دائماً على زيادة صعوبة تقدمنا، لا فقط بالتدخلات العنيفة عند الضرورة (العنف البوليسي، والتراجع في الحريات الديمقراطية، وتدعيم التيارات "الفاشية" الجديدة، والحروب)، وإنما كذلك بتوجهاته لكسب ود "الحركة" بهدف بقائها في الحدود التي يريدها، أي "لا-سياسية" و"لينة"، أو ذيلية. وتساعد الأيديولوجية "الحركية" على ذلك، بالضبط برفض ما نقترحه، وهو التجمع في ظل التعدد عن طريق إعادة بناء السياسة المواطنية. وفي هذه الظروف، يجب أن ننظر بعين فاحصة وناقدة "للحركات" والأشكال التنظيمية المصاحبة لها (وبصفة خاصة المنظمات غير الحكومية التي تضعها الموضة كالشكل الوحيد للتعبير عن المجتمع المدني). فهل تدخل في إطار بناء البدائل مستقبلاً؟ أو هل هي أحد وسائل النظام لإدارة الأمور في اتجاهاته العامة، أو بعبارة أخرى، هي أداة "ضد-البدائل"؟

وإعادة بناء سياسة مواطنية هو وحده السبيل لإعطاء "الحركة" الحجم والفاعلية اللازمين لإعادة التوازن مع رأس المال. وإعادة البناء هذه، فقط، هي التي ستسمح بظهور توازنات اجتماعية جديدة تفرض على رأس المال، أن يتكيف هو، مع مقتضيات ليست نابعة من منطقه الخاص. وهنا، وهنا فقط، يمكن أن يحل مكان الاتجاه السائد حالياً، وهو تكيف الشعوب مع متطلبات رأس المال، الاتجاه المضاد، وهو تكيف رأس المال مع متطلبات الشعوب.

ونوجه نداءنا للجميع ـ بمن فيهم أنفسنا ـ أي لجميع من يتحركون هنا أو هناك، ويلتقون في تحركاتهم داخل، أو مع المنتدى الاجتماعي العالمي (بورتو أليجري)، أو المنتديات الوطنية أو الإقليمية. والمنتدى العالمي للبدائل سيحاول من جهته أن يلعب دور العامل الحافز، مثله مثل آخرين، لعملية التأمل للمساهمة في تشكيل الاستراتيجية المضادة، الشعبية، والفعالة، وذات المصداقية.

ونتقدم في الجزء التالي بمجرد اقتراحات، قد يعتبرها البعض خاطئة، وقد يعتبرها آخرون متطرفة أو استفزازية، ولكنها تستحق، في رأيي، المناقشة.





3. الإمبريالية الجماعية للثالوث، وحملة الولايات المتحدة لفرض السيطرة، وعسكرة العولمة

الفرضية الأولى

إن النظام العالمي لا ينتمي "لما بعد الإمبريالية"، بل هو نظام إمبريالي. وهو في ذلك يحتفظ ببعض الصفات الأساسية والدائمة مع النظم الإمبريالية من مراحل التوسع الرأسمالي السابقة، فهو لا يقدم لشعوب التخوم (الجنوب بالتعبير السائد، أي ثلاثة أرباع الإنسانية)، أية فرصة "للحاق"، أو الاستفادة من "مزايا" الاستهلاك المرتفع، المقصور على أغلبية شعوب المركز. إنه لا ينتج، ويعيد إنتاج، إلا تعميق الهوة بين الشمال والجنوب.

ومع ذلك، فالإمبريالية دخلت مرحلة من مراحل توسعها جديدة من عدة نواحٍ، فهي جديدة بالطبع من ناحية ارتباطها الوثيق بالتغيرات التي حدثت لرأس المال والرأسمالية، وهي: الثورة التكنولوجية، والتغير في أسلوب العمل، وتقسيمه على نطاق عالمي، وسيادة المالية المعولمة، الخ. وهذه العلاقات محل للكثير من البحوث الجادة، وتثير الكثير من الجدل الحار، وإن كان أغلب هذا الجدل يخضع للهوس الاقتصادي للبعض، والتساهل السياسي للبعض الآخر. ويصل الأمر، في كثير من الأحيان، إلى إظهار النظام كما لو كان يقدم "الفرص" لكل من يستطيع اقتناصها. وهذه الصور "الخيّرة" دليل على ضعف "الحركة"، وفي الوقت ذاته، على كفاءة الخطاب السائد الذي يخترقها.

وأؤكد من جانبي على بعد آخر للإمبريالية الجديدة. فقد كانت الإمبريالية في الماضي تتميز بالتعددية، بحيث كان الصراع الدائم والعنيف بين مراكزها المختلفة، هو الغالب على الصورة طوال التاريخ القريب، ولكنها اليوم اتخذت الطابع الفردي، وأصبحت الإمبريالية الجماعية "للثالوث" (الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان).

وتظهر الوقائع بوضوح هذه الطبيعة الجماعية للمرحلة الجديدة من الإمبريالية، ففي داخل مؤسسات إدارة الاقتصاد العالمي، لا تنفرد أوروبا، أو اليابان أبداً بأية مواقف تختلف عن تلك التي تتخذها الولايات المتحدة. وينطبق هذا على جميع المؤسسات مثل البنك الدولي، أو صندوق النقد الدولي، أو منظمة التجارة العالمية (ونذكر جميعاً، في اجتماع منظمة التجارة العالمية في الدوحة عام 2001، كيف كانت الاشتراطات التي طلبها المفوض الأوروبي باسكال لامي من بلدان العالم الثالث، أشد قسوة حتى من تلك التي طلبتها واشنطن!)


فما الذي يقف وراء هذه الرؤية الموحدة للثالوث؟ ولأية درجة يمكن للتضامن الذي يبدونه حتى اليوم، أن يعبر عن مرحلة مستقرة للعولمة الإمبريالية؟ وأين تكمن إذن، التناقضات المقبلة في داخل الثالوث؟

كان من المعتاد في السابق إرجاع هذا التضامن لأسباب سياسية، وهي الخوف المشترك من الاتحاد السوفييتي، والشيوعية. ولكن اختفاء هذا التهديد لم يضع نهاية للجبهة المشتركة للشمال مع أن أوروبا واليابان لم تعودا في حالة تبعية اقتصادية، ومالية للولايات المتحدة، كما كان الحال في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والآن، وقد أصبحوا منافسين أقوياء، كان من المنتظر أن تؤدي الصراعات فيما بينهم إلى انفجار الثالوث، ولكنهم بانخراطهم جميعاً في نفس المشروع النيو لبرالي المعولم، قد ساروا في الطريق العكسي. وبناءً عليه، هنالك إغراء كبير لاعتبار التفسير لهذا الاختيار هو الضرورات الجديدة لأشكال التراكم الرأسمالي للقلة المحتكرة المسيطرة، وهذه القلة، قد بلغت درجة من الضخامة لم تبلغها سابقاتها من قبل. وتتطلب هذه الضخامة بدورها أن جميع مكونات هذه القلة المحتكرة (وهي جميع الشركات الكبرى متعدية الجنسية، التي ترتكز إلى بلدان الثالوث) تستفيد من سيطرتها على سوق عالمي مفتوح. ويرى البعض أن هذا الواقع، يعلن عن قيام رأسمال حقيقي متعدي الجنسية، وبرجوازية متعدية الجنسية (كلاهما تحت التكوين)، وهو أمر يستحق بالتأكيد بحثاً أكثر تدقيقاً. ويرى آخرون (وأنا منهم)، أنه حتى وإن كانت الأمور لم تصل لهذا الحد، فإن المصالح المشتركة في إدارة السوق العالمي، هي التي تفسر تضامن رأس المال متعدي الجنسية الذي لمسناه.

إذن فالتناقضات التي قد تضعف القوة الجماعية للثالوث، إن لم تستطع تفجيره، لا توجد على أرضية مصالح الأجزاء المسيطرة من رأس المال، وإنما علينا أن نبحث عن جذورها في مكان آخر. لأنه إن كان رأس المال والدول حقائق ورؤى لا يمكن الفصل بينها، إلا أن الثالوث، وبالذات جزأه الأوروبي، يظل مكوناً من دول سياسية فردية. والدولة لا يمكن حصرها في وظائفها كخادم لرأس المال المسيطر، ولكنها في ارتباطها بكل التناقضات التي تميز المجتمع ـ صراع الطبقات، والتعبيرات المختلفة للثقافة السياسية للشعوب المعنية، وتعدد المصالح الوطنية "الجماعية"، والتعبيرات الجيو سياسية دفاعاً عنها ـ هي لاعب متميز عن رأس المال. وفي داخل هذه الدينامية المعقدة، من الذي سينتصر؟ المصالح العاجلة والمقصورة على رأس المال المسيطر؟ أم مجموعة أخرى من المصالح تربط بين المتطلبات الضرورية لإعادة تكوين رأس المال، ومتطلبات أخرى تعبر عن مجالات أخرى؟

ففي حالة الفرض الأول، ولغياب مؤسسة سياسية مشتركة وموحدة لدول الثالوث، سيكون على الولايات المتحدة، بصفتها القائد، أن تلعب دور هذه الدولة "العالمية" اللازمة "لحسن الإدارة" لرأس المال المعولم، وعلى شركائها في الثالوث تقبل النتائج. ولكنني أصل، في هذه الحالة، إلى استنتاج أن "المشروع الأوروبي" سيفقد أي معنى، ويتحول، في أفضل الأحوال، إلى الجناح الأوروبي للإمبريالية الجماعية، وفي أسوأها، للجناح الأوروبي لمشروع سيطرة الولايات المتحدة. وفي الوقت الحالي، فإن القليل من التشققات التي نلحظها، تظهر فقط على المستوى السياسي، أو العسكري، لا على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي. وبعبارة أخرى، تعبر بعض السلطات الأوروبية عن الرغبة في أن تكون القيادة السياسية للنظام العالمي، أكثر "جماعية"، في حين تقبل سلطات أخرى السير وراء القيادة الأمريكية بلا تحفظ.

أما في حالة الفرض الثاني، أي إذا نجحت الشعوب الأوروبية في أن تفرض على رأس المال المسيطر، شروط حل وسط تاريخي جديد، يحدد طبيعة الدول الأوروبية، والاتحاد الأوروبي، فسيمكن حينئذ لأوروبا أن تتطلع للعب دور مستقل. وبعبارة أخرى، فإن الخيار (والصراع) من أجل "أوروبا اجتماعية" (أي التي لا تكون مهمة سلطاتها محصورة في خدمة المصالح الضيقة لرأس المال المسيطر)، لا ينفصل عن الخيار من أجل أوروبا "غير أمريكية". وهذه الأخيرة، لن تكون كذلك إلا إذا تباعدت بعض الشيء عن إدارة الإمبريالية الجماعية التي تعبر عن مصالح رأس المال المسيطر. وباختصار، فأوروبا إما أن تكون "يسارية" (بمفهوم أن هذا يعني أخذ المصالح الاجتماعية للشعوب الأوروبية في الاعتبار، وفي الوقت ذاته، تجديد علاقات الشمال/الجنوب بما يبدأ تطوراً حقيقياً لما بعد الإمبريالية)، أو لا تكون على الإطلاق.

الفرضية الثانية

تتمحور استراتيجية السيطرة للولايات المتحدة حول الطبيعة الجماعية للإمبريالية الجديدة، وتستغل نقط القصور والضعف في الحركات الاجتماعية والسياسية "ضد- النيو لبرالية".

وهذه الاستراتيجية، التي لم يعترف بها المدافعون عنها من أصدقاء أمريكا، إلا مؤخراً، تظهر في الخطاب السائد على شكل فرضين "طيبين" غير حقيقيين، ولكن ممكنين من وجهة نظر العدو. ويدعي الأول أن هذه السيطرة تعود بالأكثر إلى قيادة "طيبة" ولذلك يطلق عليها "السيطرة الخيرة" للقطاع الديمقراطي من الطبقة الحاكمة الأمريكية. ويدعي هذا الخطاب بمزيج من السذاجة المفتعلة، والنفاق الصريح، أن الولايات المتحدة إنما تعمل من أجل المصلحة المشتركة لشعوب الثالوث، حيث تحركها نفس الدوافع "الديمقراطية"، بل إنها تعمل من أجل مصلحة بقية شعوب العالم التي تقدم لها العولمة فرصة "للتنمية" لا تحلم بها، بالإضافة لمنافع الديمقراطية التي تعمل سلطات الولايات المتحدة على تعزيزها في كل مكان، كما يعلم الجميع. أما الفرض الثاني فينادي بأن هذه السيطرة هي النتيجة الطبيعية لتقدم الولايات المتحدة في جميع المجالات، بدءاً من الكفاءة الاقتصادية والعلمية، وحتى المشروع السياسي والثقافي، مروراً بالتفوق العسكري. وفي الواقع، فالسيطرة الأمريكية تتبع منطقاً، وتستخدم من الأساليب ما لا علاقة له بالخطاب الذي تختبئ بداخله.

وقد جرى التعبير عن أهداف هذه السيطرة، والاعتراف بها في كثير من كتابات قادة هذه البلدان (ومع الأسف قليلاً ما قرأها ضحاياهم). فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي (المنافس العسكري المحتمل الوحيد)، اعتبرت الدوائر الحاكمة الأمريكية أن أمامها فرصة مدتها عشرين عاماً لتثبت سيطرتها على العالم، وتلغي أية فرصة لظهور "منافسين" محتملين، وليس بالضرورة أن يكونوا مؤهلين لملء دور سيطرة بديل، ولكن مجرد أن يكونوا قادرين على تأكيد استقلاليتهم في نظام عالمي، سيصبح عندئذ "بدون سيطرة"، أو نظام متعدد المراكز، كما أدعوه. وهؤلاء "المنافسون" هم أوروبا بالطبع (ولم يعد أحد يتحدث حتى عن اليابان!)، وروسيا، ولكن على وجه أخص الصين، وهي التي تعتبرها الولايات المتحدة العدو الرئيسي الذي عليها أن تدمره (عسكرياً) في يوم ما، إن هي أصرت على السير في طريق "التنمية"، والتمسك بالاستقلال. وهناك أعداء آخرون يشار إليهم، وهم في الواقع، جميع بلدان الجنوب التي يمكن أن تبدي مقاومة لمتطلبات العولمة النيو-لبرالية، مثل الهند، أو البرازيل، وإيران، أو جنوب أفريقيا.

فالأهداف إذن، هي تحويل حلفاء الثالوث إلى أتباع، وحرمانهم من القدرة على أية مبادرة عالمية فاعلة، وتدمير البلدان "الكبيرة"، التي تعتبر أكبر من اللازم (فالولايات المتحدة هي وحدها المسموح لها بهذا الوصف). ويجري هذا بتفكيك روسيا بعد الاتحاد السوفييتي، وتفكيك الصين، والهند، بل حتى البرازيل؛ واستخدام أوجه ضعف السلطات في هذه البلدان لهذا الغرض، عن طريق التلاعب بالدول التي نتجت عن انفجار الاتحاد السوفييتي، وتشجيع القوى الطاردة في روسيا، والمسلمين في شينجيانج، والرهبان في التبت، وتشجيع القوميات في الهند، وتغذية الصراعات مع مسلمي شبه القارة الهندية، والتلاعب بأمازونيا (خطة كولومبيا)، الخ.

وفي إطار هذه الاستراتيجية، اختارت الولايات المتحدة توجيه الضربة الأولى في المنطقة الممتدة من البلقان وحتى آسيا الوسطى، مروراً بالشرق الأوسط والخليج. فلماذا هذا الاختيار لأول الحروب الأمريكية للقرن الواحد والعشرون؟ ليس بسبب احتمال وجود أعداء أقوياء، وإنما بالعكس لأن المنطقة تمثل البطن اللين للنظام العالمي، الذي يضم مجتمعات لا تستطيع، لأسباب مختلفة، مقاومة العدوان بالحد الأدنى من المقدرة. والأسلوب هو ضرب الطرف الأضعف لبدء سلسلة طويلة من الحروب، وهو اختيار عسكري استراتيجي مفهوم ومبتذل. وهذا يذكرنا بما فعله هتلر، عندما بدأ بضرب تشيكوسلوفاكيا، مع أنه ينظر لأبعد من ذلك: بريطانيا، وفرنسا، والاتحاد السوفييتي.

والاستيلاء على المنطقة يحقق منافع أخرى، فالمنطقة غنية بالبترول والغاز، وتحكم الولايات المتحدة فيها بمفردها يضع أوروبا في حالة تبعية خطيرة، ويضعف بذلك قدرتها على المناورة مستقبلاً. وفضلاً عن ذلك، فإن إقامة قواعد أمريكية في قلب أوراسيا يسهل القيام بالحروب المقبلة: ضد الصين، وروسيا، وغيرهما. ويأتي التأييد المطلق للتوسع الإسرائيلي بشكل طبيعي في هذا الإطار، حيث تقوم إسرائيل في الواقع، بدور القاعدة العسكرية الدائمة لخدمة الولايات المتحدة.

واختيار الأسلوب العسكري لإدارة النظام العالمي، لا يرجع فقط لإدارة الرئيس بوش الابن، بل هو الاختيار الذي تبنته الطبقة الحاكمة، في مجموعها، في الولايات المتحدة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فالديمقراطيون والجمهوريون لا يختلفون في هذا إلا فيما يتعلق باللغة. وعلى العكس مما يحاولون إقناع الرأي العام الساذج به، فإن الهدف من هذا الاختيار هو سد أوجه الضعف في الاقتصاد الأمريكي الذي تعجز جميع مكوناته الإنتاجية عن المنافسة، كما يشهد بذلك العجز التجاري المستمر الذي يميزه. وبدلاً من أن تفرض الولايات المتحدة نفسها "كالقائد الطبيعي" بفضل تقدمها الاقتصادي، فإنها تتصرف كدكتاتور عسكري يفرض على "حلفائه" الأتباع (أوروبا واليابان)، وكذلك بقية بلدان العالم، أن تسدد العجز في حسابه. لقد تحولت الولايات المتحدة إلى مجتمع طفيلي لا يستطيع المحافظة على مستوى استهلاكه، وتبديده للموارد إلا بإفقار بقة العالم.

الفرضية الثالثة

وتتميز اللحظة الراهنة بخطورة شديدة، بما يجعل المقارنة مع أوضاع الثلاثينيات أمراً وارداً. وكما فعل هتلر، قرر رؤساء الولايات المتحدة إحلال القوة الغاشمة مكان القانون، وألغوا بذلك، جميع المكاسب التي سمح بها انتصار الديمقراطية على الفاشية، وفرضوا على الأمم المتحدة نفس المصير المؤسف الذي لحق بعصبة الأمم.

والمقارنة تستمر، مع الأسف، مثل اختيار الأعداء الصغار، أو اختراعهم، لتمهيد الأرض للمواجهات الكبرى، والكذب بشكل منتظم. ومن جهتهم، يتصرف "الحلفاء" التابعون كما كان يفعل تشمبرلين، ودالادييه، في مواجهة هتلر، فهم يتنازلون، بل كثيراً ما يساهمون في إكساب الحروب الأمريكية الشرعية في نظر الرأي العام في بلدانهم بطريق الغش.

ويجب أ ن تفهم "الحركة"، أنه في مواجهة هذه الاستراتيجية الإجرامية الثابتة، لا تكتسب أية استراتيجية مضادة الفعالية إلا إذا اتخذت من المعارك ضد الحروب الأمريكية المحور الرئيسي لتحركها. فما قيمة أي خطاب عن "الفقر"، أو "حقوق الإنسان" اليوم، إذا كان الموجود على جدول الأعمال يرتب للشعوب مستقبلاً أسوأ، مفروضاً بالقوة العسكرية؟ وهذه الحروب "الصغيرة" (رغم التدمير البشري والمادي الفظيع الذي تحدثه لدى ضحاياها)، لا تمثل مجرد "مشكلة من ضمن المشاكل"، بل هي تكشف الاستراتيجية الحقيقية للعدو.

4. عناصر لاستراتيجية شعبية مضادة

لا ينتج من التأملات السابقة، إذا كان لها من مغزى، إلا نتيجة واحدة، وهي أن المحور الأساسي للتحرك في اللحظة الراهنة، لا يمكن إلا أن يكون النضال ضد "الحروب الأمريكية"، وبناء أكبر جبهة من جميع القوى التي يمكن أن تقف ضدها. وأتقدم، في هذا الإطار بثلاث اقتراحات:

الاقتراح الأول: إعطاء الأولوية في أوروبا لإعادة بناء سياسة مواطنية، فهي الوحيدة القادرة على تجميع مطالب الحركات المفتتة حتى الآن بشكل خطير.

إن بناء هذه القوة السياسية، وتجميع الموضوعات التي يمكن أن تكوّنها، هي الشرط لنجاح حركات المطالب، والاحتجاج الاجتماعية، أي القدرة على تجميع يسار حقيقي، يفرض على المشروع الأوروبي تبني مطالبه، وبذلك يكتسب هذا المشروع "بعداً اجتماعياً". وهذا هو الشرط كذلك، لكي ينفصل اليسار عن اليمين المؤيد للإمبريالية، سواء أكان هذا اليمين ينتظم وراء الاستراتيجيات الخاصة بإمبريالية الولايات المتحدة، أو كان يعبر ـ بطريقة مترددة أكثر منها ثابتة ـ عن الأمل في "إدارة سياسية جماعية" للإمبريالية الجماعية بدورها. وبعبارة أخرى، لا يمكن أن توجد "أوروبا اجتماعية" إلا إذا تمسكت بالسير في طريق "سياسة مختلفة" بالنسبة لبقية العالم، وبذلك تبدأ تحولاً حقيقياً نحو عالم بعد-إمبريالي.

تستطيع الشعوب الأوروبية، ومن واجبها، أن تُشعِر الولايات المتحدة بمدى هشاشة وضعها في النظام الاقتصادي الرأسمالي المعولم. فإذا استطاعت أن توقف فائض رؤوس الأموال التي تدفعها اليوم لدعم التبديد الأمريكي، وتحولها لمشروعات التنمية الاجتماعية الأوروبية، فإنها ستفرض بذلك، على الولايات المتحدة أن تتخلى عن مشروعاتها الخارجة عن المعقول. وهذا الهدف الاستراتيجي البعيد، لا يستبعد بالطبع، التأييد الفوري للرجال والنساء الشجعان الذين يقفون في قلب النظام ليقولوا "لا للحرب". وإن كنت أشك في فعالية المعارضة الداخلية في الولايات المتحدة طالما أن الامتيازات التي يتمتع بها هذا المجتمع الطفيلي بقيت مضمونة. فقد نجحت الطبقة الحاكمة الأمريكية في خلق رأي عام سائد، على درجة من السذاجة لا تعطي الفرصة لاحتجاجات الأقلية الواعية لإفشال استراتيجية السيطرة للولايات المتحدة.

الاقتراح الثاني: تشجيع التقارب بين الشركاء الكبار في العالم الأورو-آسيوي، وهم أوروبا، وروسيا، والصين، والهند، بصفة أساسية.

وروسيا بصفتها من أكبر منتجي البترول والغاز، يمكنها أن تقدم لأوروبا السبيل الوحيد للنجاة من الشروط الأمريكية في حالة نجاح واشنطن في مشروعها لفرض السيطرة المطلقة على الشرق الأوسط. وحيث إنه فضلاً عن ذلك، فإن أغلب المبادلات الخارجية لروسيا، ورؤوس الأموال الأجنبية التي تجتذبها تقربها من أوروبا أكثر من الولايات المتحدة، فإن هناك أرضية مناسبة للتقارب بين أوروبا وروسيا على الرغم من الصعوبات (الناتجة من الإدارة "الكومبرادورية" للاقتصاد الروسي، التي تنخرط فيها أجزاء كبيرة من الطبقة الحاكمة الجديدة لهذه البلاد)، ومن تلاعب الإمبريالية الأمريكية التي تدعم القوى الطاردة التي تعمل في داخل روسيا، وبقية دول الاتحاد السوفييتي السابق. وهنا كذلك، كما في أوروبا، فإن التطور في اتجاه الطبقات العاملة يعني سياسة خارجية مختلفة، تبتعد عن التبعية لواشنطن.

أما التقارب بين روسيا، والصين، والهند، فيجد أرضية ممهدة في الخطر الذي تتعرض له هذه البلدان الكبيرة الثلاث، إذا ما نجح تغلغل الولايات المتحدة في آسيا الوسطى. ولكن الولايات المتحدة تضع أكثر ما تستطيعه من عراقيل في طريق هذا التقارب، باستخدام التناقضات بين الرؤى السياسية للبلدان الثلاث، وبتأييد الأجزاء الكومبرادورية من طبقاتها الحاكمة. فبالإضافة إلى الصراعات الجيو سياسية بشأن الحدود بين الصين والهند، والمشاكل المتعلقة بالتبت، وشينجيانج، تتلاعب واشنطن التي "تؤيد" الهند ضد الصين في مشاكل الحدود، وفي الوقت نفسه، تهيج الباكستان، ونثير الصراع بين المسلمين والهندوس. وفي مواجهة ذلك، على القوى الشعبية، أن ترسم استراتيجيتها ـ التي تتحدد في هذه المرحلة بالذات، بضرورات بناء الجبهة ضد-الكومبرادور ـ بحيث تأخذ في الاعتبار مرة أخرى، وكما في أماكن أخرى، العلاقات الوثبقة التي تربط بين الإدارة الكومبرادورية (القائمة فعلاً في روسيا والهند، والمحتملة في الصين)، وبين ما تفرضه السياسات العالمية الأمريكية.

الاقتراح الثالث: إعادة الحياة لتضامن الشعوب الآفرو-آسيوية (روح باندونج)، أي إعادة الروح لتضامن القارات الثلاث.

واليوم، يمر تضامن شعوب الجنوب هذا، عبر صراعها ضد السلطات الكومبرادورية، وهي الناتج للعولمة النيو-لبرالية، وسندها في الوقت ذاته. وهنا تلعب الموضوعات التي أثرناها أعلاه، أي التقدم الاجتماعي، والديمقراطية، والاستقلال الوطني، دورها الكامل.

ولا شك أن شرعية هذه السلطات الكومبرادورية تتعرض للطعن في الكثير من بلدان الجنوب. ولكن استجابة الشعوب للتحديات المترتبة على انخراط الجنوب في النظام الإمبريالي الجديد لا تؤدي دائماً إلى ظهور بدائل ذات طبيعة ديمقراطية، وتعبر عن التقدم الاجتماعي، وبناء اعتماد متبادل عادل، ومتفق عليه، على النطاق العالمي. وبناءً على أسباب كثيرة من بينها تآكل شعارات الوطنية الشعبوية التي ميزت المرحلة السابقة التي تلت مرحلة فورة التحرير الوطني، وكذلك الممارسات الأتوقراطية في الإدارة السياسية (رغم الطنطنة "الديمقراطية") التي ما زالت سائدة في الكثير من البلدان، تلجأ الطبقات الشعبية المرتبكة، إلى أوهام "الأصولية" الإثنية أو الدينية. في حين تتلاعب السلطات الحاكمة الكومبرادورية المحلية، بهذه الحركات الأصولية، يساعدها في ذلك إمبريالية الولايات المتحدة بالذات. وهذا يعني خطوات واضحة للوراء، يجب محاربتها بشجاعة، وبعد نظر، حيث إنها تمثل عقبة رئيسية في طريق إعادة بناء تضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية (عندما تثير الصراعات الإجرامية، في كثير من الأحيان، بين المسلمين والهندوس هنا، والهوتو والتوتسي هناك). وتصل الأزمة المترتبة على هذه التراجعات بين الجماعات المختلفة إلى قمتها عندما تتحول شخصيات مريبة مثل طالبان، وبن لادن، وصدام حسين، كانت تحصل على الدعم السخي من السي آي إيه، إلى "أكبر أعداء" الولايات المتحدة، ويصل الأمر إلى تصديق جماهير شعبية كثيرة لهذه الأكذوبة.

وفي المقابل، تظهر هنا وهناك، عودة لتحالفات وطنية شعبية ديمقراطية، مثل تلك التي نجحت في هزيمة بعض الدكتاتوريات (كما في مالي مثلاً)، أو التي أنهت نظام الأبارتهيد في جنوب أفريقيا، أو ضمنت فوز "لولا" في انتخابات البرازيل. وهذه النجاحات ـ مهما بدت صغيرة في الظروف الحالية حيث العدوان الإمبريالي هو المسيطر ـ هي المبشرة بإعادة إحياء جبهة شعوب الجنوب بعد حين.

وفي الختام : لا يمكن الفصل بين النضال من أجل العدالة الاجتماعية، والديمقراطية، ونظام دولي متعدد المراكز، والسلطة الحاكمة في الولايات المتحدة تعرف ذلك. وهي لهذا السبب، تحاول أن تفرض نظامها الدولي المسيطر بإحلال القوة العسكرية محل القانون. وهي تعرف أن هذا هو السبيل الوحيد لفرض النظام الاجتماعي "النيو لبرالي" الجائر، وبالتالي تقضي على الديمقراطية حيثما وجدت، وتمنعها من الظهور في أي مكان آخر. وعلى حركات المقاومة، ونضالات الشعوب، أن تفهم ذلك هي الأخرى.... أن تفهم أن مشروعاتها للتقدم الاجتماعي، والديمقراطية، لن يكون لها مستقبل إلا بعد دحر مشروع السيطرة العسكرية للولايات المتحدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. النموذج الأولي لأودي -إي ترون جي تي- تحت المجهر | عالم السرع


.. صانعة المحتوى إيمان صبحي: أنا استخدم قناتي للتوعية الاجتماعي




.. #متداول ..للحظة فقدان سائقة السيطرة على شاحنة بعد نشر لقطات


.. مراسل الجزيرة: قوات الاحتلال الإسرائيلي تكثف غاراتها على مخي




.. -راحوا الغوالي يما-.. أم مصابة تودع نجليها الشهيدين في قطاع