الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا عين موليتي

ابراهيم الحريري

2007 / 4 / 26
سيرة ذاتية


- شوف... شوف: بابا، شوف... شوف ام عَصام (كان يحرص ان يتلفظ العين مفتوحة فلا نعرف؛ أعجمة طبيعية هي بسبب اختلاط اللغات التركية والفارسية والعربية باللهجتين العراقية واللبنانية عند لسانه، ام عجمة مصطنعة، ساخرة( "شوف! ردد مرة اخرى وهو ينظر مبهوراً الى بناية الحديد المعلقة الشاهقة التي نقترب منها. "في هيجي جسر ببيروت؟". كنا ننظر، نحن اولاد وبنات محمد اسماعيل من نوافذ سيارة البيبي فوردالصغيرة، مبهورين، مثله، الى عمارة الحديد المتشابكة الهائلة ونحن نعبرها. لم تعلق امي، ام عَصام، كما ظل يسميها حتى وهو يردد مختنقاً، لاهثاً انفاسه الاخيرة، ولم تفلح اعمدة الحديد المتصلة المتقاطعة في ان تزيح عن وجهها تقطيبة عدم رضا. ولعلها لو قدر لها ان ترد لكانت قالت وهي تعاين الى النهر من بين فتحات الحديد، مقارنة اياه ببحر بيروت اللانهائي الممتد: ابو عِصام (كانت تصر على كسر العين، فلا ندري أنوع من العناد المشاكس، ام حرصهً على سلامة اللغة، وهي سليلة العائلة التي تضم شعراء وقضاة) لعلها ارادت ان تقول "وهي تقارن نهر بغداد (دجلة الخير كما ستعرفه ايها الفتى الشقي في ترددك الخالد بين النهر والبحر) ليش هُوّي في بحر مثل بحر بيروت؟ لكنها لزمت، معاندة، الصمت، وآثرت في اول يوم لها في بغداد، السلامة. *** كان والدي قرر العودة الى بغداد اذ اضطربت اوضاعه المالية بعد هجرة الى بيروت دامت حوالي العشرين عاماً، لم يلق هذا القرار رضى من الام التي ظلت متعلقة بجذورها اللبنانية، محملة الوالد ما آل اليه الحال، لكن كان لابد مما ليس منه بد. وهكذا، استقلت عائلة محمد اسماعيل عربة نيرن (شركة بريطانية احتكرت النقل بين بغداد ودمشق وبيروت سنوات طويلة) محملين بما لا يحصى من سلال البيض والفلافل واقراص اللحم بعجين، فضلاً عن حقائب وامتعة لاعدّ لها، مخلفين، مخلفاً، بالاحرى، ورائي بضعة ابيات شعر كنت بدأت امارسه (من بين اشياء اخرى!) ومشروع حب لم يكتمل (لم يكن الاول!) وتشوق الى مغامرات جديدة في بلاد الرشيد والنخيل والقباب والمنائر، بلاد فهد الذي سمعت من هارب عراقي الى بيروت عام 1949 (رؤوف العكيلي)عن بسالة فهد وهو يرتقي المشنقة. كان عمو جلال (جلال الاوقاتي) مع اقارب آخرين ينتظرنا عند محطة نيرن عند كمرك بغداد (قرب مطار المثنى حالياً) انحشرنا، شطر من عائلة محمد اسماعيل، في سيارة الـ(بيبي فورد) الصغيرة، وكنا نعبر جسر الصرافية مخترقين صوب الكرخ الى "الاعظمية، فالصليخ، حيث منزل النسيب جلال، عبر جسر الصرافية (جسر الحديد). *** وانت تعبر الجسر، لاول مرة، هل كان في بالك انك ستجد في واحدة من تجويفاته المعدنية المستطيلة، ملاذاً لك ومأوى، من ضغط العائلة، خوفاً عليك، لمنعك من ممارسة النشاط السياسي الشيوعي "الخطر"! مبكراً، وانت تجتاز سنيّك الاربعة عشرة، او هرباً من مطاردات الشرطة؟ او انه سيكون طريقك الى اول لقاء حزبي بمنظمك ابراهيم صالح (نسيج او الاحمر كما كان يكنى ذلك الوقت، ما زال حياً متعه الله بالعمر الطويل) في بساتين العطيفية؟ او انه سيحملك، انت ودراجتك التي كنت تتسلق حاملاً اياها، سلم الجسر الحديدي هرباً من نقاط الشرطة عند رقبة الجسر جهة الصرافية، الى مواعيد حزبية في جامع براثا مع منظميك العديدين الآخرين (جاسم يحيى، اكرم حسين) وانه كانت تنتظرك، عند الجهة الاخرى من الجسر ورقة الترشيح التي سلمك اياها رشيد العزاوي عام 1953 فتتناولها كأنما تمارس طقس المناولة؟ وستعبره في طريقك الى سجن بعقوبة، لتلتقي من بين آخرين، آرا خاجادور، وهو واحد من بناة الجسر، فيحدثك-اذا لم تخنك الذاكرة- عن شركة ومبي (شركة بريطانية احتكرت بناء الطرق والجسور في العراق امداً طويلاً) وعن اول اضراب للعمال، بناة الجسر، قاده فهد مباشرة؟ وانه سيكون في طريقك الى جرداغ بيت القيسي في العطيفية العائلة الفضلاوية الطيبة الكريمة، الذي آواك في ليالي الصيف المقمرة الصافية، الطويلة؟ وانه سيشهد بوحك الاول، وخيبتك مع الحب، مرة اخرى؟ وانه سيرتبط في ذهنك، بصوت سعدي الحديثي، الممتد، القوي الشاهق كأنه جسر الحديد ذاته يغني: يا عين موليتي... يا عين موليه جسر الحديد انكَطع... من دوس رجليه *** يا عين موليتي! يا عين موليه! جسر الحديد انكَطع ليس بسبب خطوات عاشق لبغداد، ملهوف، بل بسبب الكراهية! فهل ستعبر هذا الصوب الى ذاك الصوب على صوت سعدي الحديثي، حتى يعاد بناء الجسر؟ وهل سيفلح الحب، أخيراً، في اعادة بناء ما هدمته الكراهية؟ *** يا عين موليتي! يا عين موليه... يأتون ويروحون! يعبرون جسرك غزاة ومحتلون جلادون، وظلاميون قساة، متوحشون وتظلين يا بهية! يا سيدة الكحل والنبيذ يا سيدتي! حتى وهم يقعطونك اوصالا ويسورونك اجزاء
يا سيدني!
تظلين جميلة! يا سيدة الجسر، سيدة كل الجسور، الذي قام منها والذي صلب، والذي سوف، بالمحبة، يقوم
ويظل جسرك. وعندما يتقطع تمدين لنا راحتيك نعبر عليها الى ضفاف الحلم يا عين موليتي وياعيني...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران