الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التبّانة ُ ودرب الماعز

صباح محسن جاسم

2007 / 5 / 2
الادب والفن


قصة قصيرة

يبدو لي سوف لن تنتهي تساؤلاتي الغريبة وإلحاحي المقرِف في إقناع جاري من عدم جدوى زراعته لشتلات الأزهار عندما وجدته مقتبل شهر مايس منهمكا في ترتيب مساطب التراب والسواقي عند المساحة الضيقة خارج داره المطلة على الشارع الإسفلتي الذي نأى كأفعى ناكصة خارج نطاق حيّنا السكني ليصب في الشارع العام المؤدي إلى مدينتنا الوديعة.
على الرغم من تخصصه في مجال الطب وما تقتضيه مثل تلك المهنة من محاذير التعامل مع الأتربة والأطيان مباشرة ، تمسك كفه حفنة تراب يسد بها منافذ تسرب الماء من داخل لوح طويل هيّأه من جديد بعد ما خربته أظلاف قطيع الماعز الذي بدأ يظهر في حيّنا أثر التغيير وإسقاط تمثال الدكتاتور، فتملأ شوارعنا بكرات بعرورها الأسود اللامع كأنه نثار خرز منفرطة تتطامن بين أقدام المارة ساخرة من محاولات تفاديها.
ينهض رافعا ساعديه في وضع يذكر بمن يهدد بطبنجتين ليدفع بأكمام ثوبه محافظا على وضعه منعا لسائل الغرين الكثيف من الهرولة إلى داخل ألأكمام فيتغضن وجهه بحمرة تكاد تصبغ له كل وجهه عبورا إلى رقبته. يزفر ما في صدره من تعب اقعائه الطويل فيما يداري نبتاته الجديدة. يتابع الحديث وعيونه تتفقد المساحة الباقية التي غزاها تيار الماء المندفع من خرطوم المياه.
كانت الأزهار الملونة تحف بشوارع حيّنا ، لم تكن هناك مثل هذه الجدران الأسمنتية العالية الأسوار. كان الألمان العاملون في الشركة يكتفون بسور خشبي يحيط البيوت لا يتجاوز ارتفاعه المتر يمتد أمام الدار تعترشه نباتات متسلقة بزهور بنفسجية تشبه الأبواق. مقابل كل دار شجرة يوكالبتوس. أفصح لي رئيس اللحامين اليوغسلاف من إن أشجار اليوكالبتوس تبعد عن نفسها الذباب المنزلي فلا يكاد يحط على أوراقها حتى ينفر مبتعدا.
ولما وجدني جاري أجيد الإصغاء ، استمر منبها : " هل علمت ما حل بمسبح الحي ؟ " أومأت مؤكدا ما آل إليه مسبحنا حين أحتله مختار منطقتنا الجديد غير المنتخب ليسكن فيه وكيف " اغتصبت" دور الدولة ومراكزها الترفيهية لتتحول إلى منافذ ومراكز لمجموعات ما انزل الله بها من سلطان. تذكرت يوم كان صديقنا البولوني يصطحب زوجته إلى المسبح داخل الحي قرب منتجع " الكانتين". كنت أراقب سيقان تلك الفتاة البرونزية وجسمها اللدن المكشوف مبررا تجاوز نظراتي الشبقة من كونها امرأة أجنبية ! سرعان ما تشتتت تلك الصورة من خيالي الخصب ما أن فاجئني صديقنا البولوني عند مدخل المسبح يمشي ألهوينا حاملا زوجته على ظهره وساقاها يطوقان خاصرتيه وذراعاها يعانقان رقبته ، يمران إلى جانبي ، يقهقهان كأنهما طفلان!
قطع حديثنا عواء كلاب متسكعة تتجول بحثا عن طعام من بين أزبال طفحت من حاوياتها. فوجدتني أسائل نفسي : وهل تذكر يوم أعدموا " روكي" الصغير ، كلب الدكتور حمدان مدير عام الشركة ؟ أي ذاكرة لعينة تلك التي لا تفارقها مشاهد ما يطبعه الجهل من جرائم فيعكر هدوء حياتنا الراحلة؟
بدا مشهد الشنق يتوضح شيئا فشيئا ويتجسد بشجرة اليوكالبتوس وغصنها الباكي المشنوق بأنشوطة من نفس حزام العنق لذلك الذي يعوي كمواء قطة. كيف أقعى المدير العام وزوجته الروسية يبكيان كلبهما وهما يضربان بقبضات أياديهما على جذع الشجرة الهرمة.
انتبهت إلى أني لا أعي إلى كل ّ ما يقوله جاري فمضيت أجاريه بإيماءة من رأسي موافقا على كل ما حدثني وحدث نفسه به. تفحصت عيناي بقايا جذع أكبر شجرة يوكالبتوس في الحي. كنت أعرف الماضي البعيد للحي ودوره السكنية التي بناها الألمان لعمالهم وخبرائهم في المصنع الذي أنشأوه زمن ستينات القرن الماضي وتخليهم عنها عائدين إلى ديارهم. وكل ما رافق ذلك من خدمات حتى السيارة الحوضية التي كانوا يدعونها بفراشة المستنقعات بخلاف واقع حالنا الآن عندما بدأت تُفتح الأرصفة المواجهة للدور المؤجرة حديثا لعمل مستودعات مخلفات بالوعاتهم من قاذورات وأوساخ .
مرت ثلاثة أيام حتى بدأت شتلات الأزهار تستعيد نظارة أوراقها وسط جو بارح من نسيم الصباح. كدت أحسد جاري لما سيجنيه من أزهار وورود لولا أني عدت ظهيرة يومي لأجده يدفع بيديه العاريتين داخل لوح حقله النموذجي الصغير وغبرة من تراب تلتف من فوقه وحوله. قلت وأنا اقترب منه : هل فعلها ثانية جرادنا الأسود ؟ التفت دون أن ينهض وابتسامة مطبوعة على وجهه :
هل تعلم كم يخسر أحد المصارف البريطانية سنويا من قيمة أرباحه ؟ لم ينتظر إجابتي بل واصل باعتداد : ستمائة ألف باونا إسترلينيا. لسبب بسيط مفاده الثقة التي يوليها المصرف في زبائنه. بعض من أولئك الزبائن لسبب أو آخر يستنفد كل ما لديه من رصيد، فيستدين مبلغا ليسد به وضعا اضطراريا يتفهمه المصرف. أخيرا أجتمع مسئول المصرف بالمعنيين من موظفيه والطلب منهم بتقديم مطالعة بالأمر ومقترحات ينصحون بها. أجمعت الآراء إلى أن هناك من بين الغالبية من الزبائن من هو أهلٌ للثقة والحال تقضي بمواصلة تقديم تلك الخدمة دون التفريط بأولئك الزبائن.. لم يندهشوا لقرار المدير وهو يؤكد:
"علينا المحافظة على مصداقيتنا لدى زبائننا. الحال سيتغير "
قلت مناكدا : ما الذي ترجوه بعد إن ُأكلت نباتات زهورك التي لم تُخلق بعد ؟
تأملني فيما أصابع يديه تقرص جلد الطين من بين بقايا جذور الشتلات الموجوعة. ابتسامة لم تفارق محياه وضحكة سبقت كلماته المكابرة :
سأضع حاجزا خشبيا بسيطا . ستدفع بقايا الجذور براعمها الجديدة. سيتعلم هؤلاء وغيرهم إن للماعز أماكنه الخاصة.
" أليس هو جاري نفسه من كان يتسلى العام الماضي وهو يصوّب بندقيته الهوائية إلى أعناق ذلك النوع من شتلات الأزهار ؟" مجرد تساؤل قفز إلى الذهن . ما أبلغ فرحته وهو يصيب أهدافه المفتعلة قاطعا سيقان النباتات واحدا تلو الآخر ! على أن البقية ممن كتب لها البقاء والعطاء أزهرت أجمل الأزهار الملونة ما جعل جاري بعد حين يتألم نادما وهو يشاهد فضاء الخضرة تتوّجه أزهار ذات رونق أخّاذ ، حتى عزم على تكثيرها.
تأملت وجهي في المرآة. كان وجه جاري يجاورني تماما. تطلعنا إلى بعضنا هنيهة. عَلَت الابتسامة ُ وجهينا لسر ٍ كنا نجهله سوية حتى اكتشفناه.
اليوم تمر أربعينية جاري الشهيد. ازدحمت المقبرة برائحة زيت الشموع الدمّاعة . لم ألحق لقاء أحد من عائلته أو أقربائه وحتى أصدقائه.. لكني وجدت حشدا من باقة للأزهار أسفل شاخص القبر ، عينها التي شغف بزراعتها الدكتور ، تغمز بابتسامة ألفـْتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل