الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمويه المعنى

صبحي حديدي

2007 / 5 / 2
الادب والفن


ليس غريباً عن مألوف مواقف الروائي المكسيكي كارلوس فوينتوس أن يوجّه إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش نقداً شديداً على كلّ جبهة متاحة، لكنّ هذه المرّة ذهب إلى جانب خاصّ في شخصية بوش، غير منتظَر في العادة ولكنه بالغ السوء في نظر فوينتيس: استخدام اللغة الإسبانية، على سبيل النفاق السياسي ودغدغة مشاعر 45 مليون أمريكي ناطق بالإسبانية. خذوا هذه الفقرة اللاذعة من تصريح حديث العهد أدلى به فوينتيس خلال مؤتمر دولي يحتفي باللغة الإسبانية، نظّمه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في كارتاخينا: "حين يلقي بوش خطاباً بالإسبانية، فإنني لا أفهم كلمة واحدة ممّا يقول، تماماً كما تكون حالي حين يتحدّث بالإنكليزية"!
وليس الأمر أنّ بوش يتكلّم بإسبانية رديئة إلى حدّ أنّ فوينتيس، ابن اللغة، يعجز عن فهمها. القصد الضمني هو التذكير بتلك الفكرة العتيقة عن لغة تضمر من المعنى غير ما تحمله المفردات، أو تفيد نقيض ذلك المعنى في أمثلة عديدة. وفي برهة مفصلية من رواية فوينتيس القصيرة «الشاطئان»، التي تعيد إنتاج تاريخ المكسيك في قالب حكائي، يتولّى جيرونيمو أغويلار مهمّة الترجمة بين القائد الإسباني هرنان كورتيس (الغازي والمنتصر)، والإمبراطور المكسيكي كواتيموك (ابن الأمّة المنكسرة). وثمّة هنا لعبة بديعة، وبارعة، يديرها فوينتيس على تلك الحوافّ الخافية بين الواقع والخيال، وبين السجلّ التاريخي والنصّ السردي.
ففي حوليات الغزو الفعلية كما شهدها ودوّنها المؤرّخ الإسباني برنال دياز ديل كاستيلو، ينتحب الإمبراطور المكسيكي جرّاء شعوره بالعار لأنه فشل في الحيلولة دون هزيمة شعبه أمام كورتيس، فيقدّم خنجره الشخصيّ طالباً أن يذبحه القائد الإسباني. ويسجّل دياز أنّ كورتيس بادر إلى مواساة كواتيموك، وخاطبه برقّة، وقال إنه معجب به كثيراً، وإنّ قيادته لشعبه مسألة مشرّفة حتى إذا كانت قد انتهت إلى الهزيمة، وإنه سيعفو عنه، بل وسيبقيه إمبراطوراً على المكسيك. وأمّا في رواية فوينتيس للمشهد ذاته، فإنّ المترجم أغويلار يتعمّد تحريف أقوال كورتيس لكي تدلّ على المعنى المعاكس تماماً: «أنت أسيري، وسأذيقك العذاب الأمرّ. سوف أحرق قدميك وأقدام أنصارك الأسرى حتى تعترف بمخابىء كنوز عمّك مونتيزوما. ولسوف أُقْعِدك إلى الأبد، ولكني سأصطحبك كسيحاً باكياً في جميع غزواتي، لكي تكون رمزاً لسطوتي وعبرة لمن يتحدّى سلطاني».
ورغم أنّ أغويلار مارس الكذب المتعمّد في ترجمة أقوال كورتيس، فإنه في الآن ذاته كان قد صدَقَ حول ما سيجري بعدئذ على الأرض. وبالفعل: لقد عُذّب كواتيموك، وأُحرقت قدماه بالزيت المغلي لكي يعترف بمكان كنوز مونتيزوما، وأُجبر على مرافقة كورتيس في غزو الهوندوراس، ثمّ شُنق بتهمة التحريض على العصيان. وهكذا، يقول فوينتيس على لسان المترجم: «لقد ترجمتُ على هواي. أضفتُ واخترعتُ من عندي وسخرتُ من كورتيس. ترجمتُ، وخُنتُ، واخترعتُ. ولكن ما دام ذلك كلّه حدث، وأصبحت كلماتي حقيقة فعلية، أَلم أكن على حقّ في ترجمة القائد [كورتيس] بمفعول معاكس لكي أقول الحقيقة لشعوب الأزتيك، مستخدماً أكاذيبي»؟
«المترجمون خَوَنة» حسب المَثل الإيطالي الشائع، ولكن استناداً إلى طبيعة الترجمة ذاتها أيضاً. ويحدث مراراً أن يعفّ كبار المترجمين عن هذه «الخيانة»، ليس لأنهم يكرهون فكرة الخيانة بحدّ ذاتها، بل لأنهم في واقع الأمر لا يفلحون في بلوغ المستوى الرفيع المطلوب الذي يجازف المرء بعده، فيخون وهو مطمئنّ! غير أنّ مثال أغويلار يعرض نمطاً فريداً للغاية من هذه الخيانة، لأنّه إذا كان قد خان اللغة والمفردات والمعنى عن سابق عمد وتصميم، وأضاف بذلك خيانات قصدية إلى تلك الخيانات غير القصدية التي تعتري كلّ ترجمة، فإنّه في الواقع انحاز إلى الحقيقة الوحيدة اللائقة بمنطق انتصار القائد العسكري الغازي، ومآل انهزام الإمبراطور ابن البلد. بمعنى آخر، كان أغويلار سوف يرتكب الخيانة الحقّة العظمى لو أنه ترجم أقوال كورتيس كما نطق بها حرفياً، لا لشيء إلاّ لكي تثبت الوقائع اللاحقة أنّ تلك الأقوال كانت كاذبة تماماً، وأنّ اللغة كانت مصيدة، وأنّ المعنى ليس ذاك الذي يقع في باطن المفردات وحدها، بل هو أيضاً ذلك المعنى «المُسبق الصُنع»، الناجم عن منطق انتظام علاقات القوّة بين المنتصر والمنهزم، القويّ والضعيف، الغازي وابن البلد.
وفي حوليات اجتياح الإسبان لـ"العالم الجديد" يظلّ مثال كورتيس فريداً لأنه كان أوّل قائد إسباني يعي دوره الثقافي والتاريخي والسياسي قبل دوره العسكري. لقد درس طبائع وثقافات وأساطير الشعوب التي ينوي غزوها، واختار توقيتاً «ثقافياً» لاجتياح المكسيك: العام 1519 كان العام المتوقّع لظهور «كويتزالكوتل» الإله الأفعى المجنّح الذي سيجيء من الشرق، فكان أن جاء كورتيس من الشرق، وقدّم نفسه في صورة ذلك الإله. بوش ليس كورتيس، لا ريب، ولكن في سياق قراءة فوينتيس لتلك اللغة الإسبانية التي يستخدمها بوش، كيف يمكن ترجمة تصريحات الرئيس الأمريكي حول غزو العراق، ابتداء من فكرة الحملة الصليبة، مروراً بحروب الخير المطلق ضدّ الشرّ المطلق، وانتهاء بالوحي الرباني الذي حثّه على الغزو؟ وكيف يمكن تصحيح المعاني التي تمّ تمويهها طيّ تلك التصريحات، دون ارتكاب خيانة عظمى على غرار ما يفعل أغويلار؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب