الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموسيقى ومجزرة حلبجه

فاضل سوداني

2007 / 5 / 2
الادب والفن


انجز الفنان العراقي الموسيقي المتميز بيشرو بابان عملين موسيقيين ذات طابع اوركسترالي، الاول تحت عنوان(حينما تغني البحيرة للمجزرة) عن مجزرة (حلبجه التي قصفتها طائرات النظام السابق بالسموم الكمياوية عام 1988 وراح ضحيتها حوالي خمسة آلاف مواطن كردي خنقا وألفين جريح) والثاني (اغنية لوادي الرافدين) وهي سلسة من قطع موسيقية ـ سيمفونية. وبالرغم من ان العمل الاول عن مجزرة النظام الصدامي بالذات لكن الفنان اعطاه بعدا شموليا للتعبير عن اية مجزرة اوحرب ضد البشرية جمعاء.
والميزة الاساسية في هذا العمل الموسيقي المتميز بتاليفه وتوزيعه الا وركسترالي تكمن في ان عناصر الطبيعة وكائناتها من المخلوقات ومضاهرها الطبيعية مثل بحيرة دربنديخان (القريبة من مكان المجزرة) هي التي تقوم بنقل بشاعة الجريمة ـ المجزرة الى الكائنات الاخرى، وفي ذات الوقت الى المستمع، من خلال الالات الوترية وخماسي الالات الهوائية،، أي ان هذه الكائينات التي كانت تعيش مع البحيرة (طيورها وكائناتها المائية)كانت شهودا على مجزرة صمت عليها العالم سنوات طويلة. ويمكننا ان نكتشف بان هنالك تأويلا اركستراليا مركبا ، أي ان التاويل الاول تقوم به وتتناقله كائنات ومخلوقات الطبيعة والبحيرة من بحيرة الى اخرى ومن طائر او مخلوق الى آخر . والتأويل الثاني هو ماتقوم به هذه الكائنات الطبيعية من التاثير بالمستمع من خلال الآلات الموسيقية ، فمشاعر وألاحاسيس الداخلية لهذه الكائنات نشعر بها كموسيقا تتجه الى الانسان المستمع .اذن أحاسيس هذه المخلوقات تمتزج مع احاسيس الانسان لتشكل وحدة طبيعية هارمونية تعبر على جحيم الغضب ضد هذه المقتلة .
وبما ان البحيرة شاهدت كل ماجرى بهذا العنف فانها فقدت إحدى ميزاتها الطبيعية ( وهذه خسارة اخرى ) ، فبدلا من ان تكون شاهدة على مرح العشاق قرب ساحلها باعتبارها مكان لمثل هذا الهمس بين الحبيب وحبيبته يضيئهما قمر فضي مبتهج كانت شاهدة على مجزرة قلما تتكرر تاريخيا وخاصة عندما يكون القتلة من ذات الوطن والشعب بإعتبارهم محترفون يمتلكون القوة التدميرية ضد شعب أعزل .
وكما هو معروف عن بيشرو بابان كمؤلف موسيقي مرهف الحس فانه اعتمد على استجلاء الصمت بدل من الصخب للتعبير عن العنف . فعادة تعودنا اغانينا وموسيقانا العربية خطئا ان نسمع الاصوات وعزف الالات الذي يصل حد الصراخ للتعبير عن العنف او الحروب وغيرها. إلا ان الفنان المؤلف وهو العارف والمتمكن من آلة الكمان ومن ادواته الموسيقية التأليفية يستخدم الكونترا ست للوصول الى هدفه في التأ ثير، لذلك فان مضمون العمل هذا ارتكز على جانبين:
احدهما له علاقة بالحلمية الشفافة،.
والآخر قسوة التراجيدي (أي مأساوية الحدث).
وللفنتازيا الحلمية اهمية كبرى هنا، لان المؤلف طمح من خلال هذين الجانبين ان يعبر عن المأساة بمويسقى لها علاقة بالفانتازيا والرومانسية مشوبة بتوجس وترقب وحذر يوحي بان الماساة ستقع، وكانه يريد من خلال هذا الكونتراست ان يتم الانتقال من الشاعرية والحلمية والرومانسية الى المأساة.
والميزة المهمة الاخرى في هذه الموسيقى هي ان البحيرة لم تشاهد المجزرة عن قرب ومباشرة، وانما من خلال انعكاس، مايتطاير من مكونات الغبار الكيمياوي الممزوج بدماء وارواح الضحايا، على سطح الماء، فما يتطاير عاليا الى السماء ينعكس على مرآة البحيرة المائية.فتبدأ البحيرة تفور من اعماقها لتعلن للعالم بشاعة المذبحة، وكان هذا واضحا من خلال الالآت المستخدمة وتوزيع الهارموني تناوب الجمل الموسيقية.لذلك فان الموسيقى تبدأ هادئة متضمنة جمل موسيقية على شكل (آريا) غنائي.
حيث يبدأ كل شئ بايقاع بطئ ماساوي وجنائزي يتخلله ضربات توحي بفوران اعماق البحيرة لينبثق الى السطح بنواح كحشرجات صوت مخنوق لحكيم عجوز، يحاول الحديث عن الماساة، وباستخدام الة الكونترباس والجلو. وبعد ان يتكرر هذا النواح الموسيقي مرات عدة لتاكيد جوهر الحدث، فان الآلات الوترية الاخرى ستساهم بشکل هارموني و اوركسترالي به. وهذا النواح المخنوق هو الاسلوب الذي يناسب البحيرة كمكان لاتتوفر فيه امكانية التعبير بامواج صاخبة كالبحر مثلا.
وعندما تتوضح مقدمة الموسيقى بهذه الوسيلة، تبدأ جمل موسيقية هادئة وانسيابية لكن يشوبها الحزن، لان البحيرة ستعلن للاخرين ماشاهدته منعكسا على سطحها، وهذا واضح من خلال الالات الموسيقية الاخرى التي توحي لنا بان طيور السماء، وبالرغم من قدرتها على مشاهدة المجزرة اكثر من الاخرين، إلا أنها فزعت وقلقت وحطت بجوار البحيرة للمواساة والاستماع. وقد عبر الفنان عن اصوات وغناء الطيور الحزينة بآلات اقرب للحزن كالفلوت وآلة (باسون) مترافقة مع الآلات الوترية الاخرى ليتم عزف هارموني يعمق الاحساس بالمأساة.
وعندما يتم نقل الميلودي من آلة الى اخرى يتعمق المعنى، وخاصة عندما نستمع الى ذلك التبادل الميلودي بين طبقتين مختلفتين احداهما تعبر عن البحيرة بآلة جلو منفرد، واخرى هي آلة (أوبو) للتعبير عن نواح النورس الذي جاء يواسي ايضا من آفاق بعيدة. ان هذا الميلودي الماساوي يثير جميع الآلات للمساهمة الجماعية الشاملة للتعبير باختلاف ايقاعي هارموني للتعبير عن جميع احاسيس البحيرة وكائناتها المائية.
وبعد جملة موسيقية بايقاع عنيف وكانه يعبر عن غضب هذه الكائنات من أؤلئك الذين صنعوا الماساة، تبدا جملة هادئة تتكرر من مساهمة جميع الالات حتى يهيمن الصمت بطيئا، وكأن الكابوس النهاري قد انزوى في الذاكرة القلقة، فيبدا الغروب برداءه الارجواني ليلف البحيرة وكائناتها. ولكن عندما حل الظلام تراءت نجوم السماء و تلألأت على سطح البحيرة كانها دموع المواسات.ومازالت الضربات الايقاعية والوترية الهادئة التي نسمعها تأت من البعيد، من جبال كردستان، ثم ليعم صمت.. صمت.. كأنه صمت الموتى.

أغنية لوادي الرافدين
وهو التأليف الآخر ويتكون من ثلاث قطع موسيقية ميلودية من اجل التعبير عن جزء من تارخ وادي الرافدين في ازمنته المختلفة فهي موسيقى مختلفة فاحيانا تثير الفرح والبهجة للتعبير عن ازمنة الفرح(وهي قليلة) في هذه المنطقة، وبعضها تعبر عن ازمنة الحزن (وهي كثيرة). وهذا ماترمي اليه الاغنية الاولى عندما تطمح للتعبير عن حزن الذين سكنوا هذه المنطقة، وكذلك التعبير الشامل عن تاريخية الحزن من خلال الآلات الموسيقية الحزينة. فبكائيات تموز البا بلي وبالتالي المآسي التي مر بها العراقيون قديما وحديثا وفرت الكثير من اسباب ووسائل الحزن.
لذلك فان هذه الاغنية تميزت باستخدام مايوحي موسيقيا باللطم على الصدور حزنا سواء كان ذلك من اجل تموز ام من اجل الامام الحسين(ع) او من اجل المجازرالانسانية. وقد تم التعبير عن اللطم من خلال استخدام الالات الوترية بضرياتها وايقاعها العنيف والمتكرر وباستخدام اوركسترا وترية مع الة منفردة هي آلة (أوبو).وعلى عكس الاغنية الاولى فان الثانية تعبر عن حالات الفرح التي عاشتها هذه المنطقة. اما الاغنية الثالثة فهي موسيقى ذات ايقاع راقص، وقد اطلق عليها المؤلف رقصة (موسوبوتامية) للتعبير عن الخير والخصب الذي تميز به وادي الرافدين، انها موسيقة هدفها التعبير عن جمال الطبيعة والجمال الشامل.
ان من يطلع على السيرة الذاتية للفنان بيشرو بابان يكتشف الكثير من المؤهلات والامكانيات في مجال العزف و تاليف وتوزيع الموسيقي. وضرورة الموسيقى لاتقتصر على شعب دون الآخر، بل انها مهمة للانسان في مختلف مراحل حياته ومن هذا المنطلق فان التحولات الديمقراطية في العراق الان تحتم على المؤسسات الفنية والثقافية الاهتمام بوضع منهج مختص لتعميم الموسيقى السمفونية الجيدة في حياة الانسان العراقي، وفي هذا المجال فان الكثير من الموسقيين العراقيين يمتلكون الامكانيات في تحقيق هذا المنهج.
وبالذات فان الفنان بيشرو بابان يمتلك هذه القدرات المعترف بها هنا في الدنمارك من الهيئات الفنية لدرجة انه ـ ولسنوات عديدة ـ يعزف آلة الکمان في الصفوف الامامية في الاوركسترا السمفوني في كوبنهاكن، وعلى هذا الاساس يكون من الضروري على وزارة الثقافة في بغداد وكذلك الثقافة في كوردستان الاخذ بنظر الاعتبار امكانيات الفنان بيشرو بابان الموسيقية کعازف و مؤلف، وموزيع موسيقي ، فبالتاكيد ان فنان مثله يمكنه ان يضع الاسس الحقيقية والصحيحة لتاسيس ثقافة موسيقية وتدريب كوادر فنية يمكنها ان تبني الحياة الموسيقية العراقية،( إذا لم تحرم بفتوة إرضاء للآخرين ) هذا ينطبق على الكثير من الفنانين العراقيين الموزعين في شتات الاغتراب .

شمال الكوكب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأهلي هياخد 4 ملايين دولار.. الناقد الرياضي محمد أبو علي: م


.. كلمة أخيرة -الناقد الرياضي محمد أبو علي:جمهور الأهلي فضل 9سا




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 34.5 مليون جنيه إيرادات


.. … • مونت كارلو الدولية / MCD جوائز مهرجان كان السينمائي 2024




.. … • مونت كارلو الدولية / MCD الفيلم السعودي -نورة- يفوز بتنو