الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رثاء جوزف سماحة

بسمة الخطيب

2007 / 5 / 6
الادب والفن


فجر الأحد الخامس والعشرين من شباط 2007 كان العالم من البشاعة بحيث لم يعد قلب جوزف يحتمله، فقرّر ألا يفيق.
نحن الذين في ما يلي ذاك التاريخ البغيض سنكتب عن جوزف نودّعه ونرثيه ونغسل أيدينا من القدر ونبحث عن عزاء لقلوبنا وضمائرنا، الذين سنتبارز من سيكتب الرثاء الأجمل والأصدق، من سيثير إعجاب جوزف حتى في رقاده.. نحن الذين سنشفى بسرعات متفاوتة، وسنتابع الحياة بالإيقاع نفسه جرياً وراء الأوهام نفسها، نضالاً لأجل ما نريد أن نكون عليه، وإن بإيمان أقلّ بالغد وبالنفس، نحن أصدقاءه وزملاءه ومعارفه العابرين والمقيمين ماذا فعلنا لأجل جوزف؟ ماذا قدّمنا له في حياته؟ وهل ما عجزنا عن تقديمه له في حياته سننجح في تقديمه الآن! عندما صار غير محتاج إلينا! ماذا أعطيناه كي يصارع لأجل البقاء معنا؟ لأجل الاستمرار في دوره الرسولي "أن يكون عزاءنا ومعيننا بصمت"، أي من دون أن نعترف له أنه كذلك، ليقيننا أنه لا يكترث لهذا الاعتراف ولأننا كنّا نراهن أنّ الأيام ربما ستثبته!
حسناً إنها لن تثبته. وهذا نهائي. وكل الحرارة التي سنكتب بها لن تذيب تلك القطرة الحمراء التي تجمّدت في قلب جوزف وأسكتته.
*
جنية ووسادة
أعرف كثيرين صارعوا "السكتة" أو النوبة القلبية وصرعوها، وأسمع عن جولات انتصروا فيها، أولئك نجوا لأنهم ملكوا ما أرادوا النجاة لأجله. النوبة التي أتت جوزف على شكل جنية ونهشت قلبه الجميل، تقول نجوم لندن البعيدة إن وجنتيها تورّدتا بعد إتمام مهمّتها، وإنها خطت خطوة كبيرة نحو الخلود، كما طمعت. الوسادة التي أودعت عقله النيّر والمنير المتوازن والمتّزن لوسادة أخرى من نور بنفسجي جعلت لسماء لندن لوناً آخر ووجهاً آخر ورائحة تشبه عطر شهرزاد وحزنها لمصائر أبطالها وهي تستسلم لنعاس الفجر ... الفجر نفسه الذي استسلم له جوزف وبقي راقداً فيه.
*
صورة
جوزف لا يحبّ أن تلتقط له صور، لا يحبّ المقابلات التلفزيونية، لا تغريه الكاميرا. الأضواء التي تأخذ عقول الجميع لا تحرّك فيه ساكناً.. لكني سرقت له صورة عبر هاتفي وهو يكتب، بعد ظهيرة أحد أيام ربيع 2005، سألني "ماذا تنفعكِ؟"، قلت "ذكرى"، ولكني لم أقل الحقيقة وهي أني أردت أن أؤرّخ تلك اللحظة التي تبهرني، لحظة يجود قلم جوزف بمقال، لحظة ولادة نبوءة... مقالة جوزف عمليات حسابية مرسومة بالريشة، فنّ ورياضيات وفلسفة وبصيرة، وهذا ما كنت مبهورة به بل ما كان يشعرني بالرهبة. في هاتفي وإلى اليوم موجودة صورة جوزف، لم أفكر مرة وأنا أعيد، خلال سنوات، ترتيب أرشيف الهاتف أن أمحي صورة جوزف وهو يكتب، في مكتبه في الطابق الرابع في مبنى "السفير". صورته بقيت مع عشرات صور الأطفال، فأنا مهووسة بالتقاط صور لهم، جوزف كان بينهم لكنه لم يكن طفلاً، بل أنا التي كانت تعود طفلة في حضوره، رغم محاولاتي لإثبات العكس، ومنها إصراري على أن يتذوق جوزف طبخي، كنت أريد أن أقول له: "أنظر أنا ناضجة! أنا طباخة ماهرة!" ولسبب آخر هو اشفاقي عليه وحلمي موسى من دليفري المطاعم، لكن محاولات إخفاء "طفوليتي" كانت تفشل وغالباً ما كان جوزف يبتسم وأنا أوقع الطعام على ملابسي ويقدّم لي الكلينكس كأقصى حلّ يملكه.
*
لندن!
أي إغواء بالموت تملكين؟ ماذا فعل هواؤك بصدر جوزف؟ ماذا فعلت كآبتك بقلبه؟ وقلب مي؟ ماذا قطّرت له في كأس الماء الآتي من جوفك؟ أيّ سمّ قدّمت لهذا الرجل الجميل المسالم؟ هل استغليت تعبه وحزنه على صديقته الراحلة وصديقه المنكوب؟ خوفه على لبنان الذي كان يرى مستقبله القريب قاتماً؟ ضيقه من تكدّس غيوم الشرّ المحدق بالعالم؟

*
وعد
الجمعة 23 شباط 2007 اتصلت بي، قلت إنك في لندن إلى جانب حازم، أذكر كلماتك القليلة حرفاً حرفاً لأنها لا تبارحني، ولأنك وعدتني أن تتّصل مجدّداً "بعد يومين". طلبتُ استشارة فوعدتني بجواب "بعد يومين"، لم تقل إنه كان لديك موعد أهمّ! سألتك عن مي، كيف؟ "شغلة غريبة.. قلب.. فجأة.. ألم معدة": أجبت.
وأنت؟ من سيخبرنا عبر الهاتف أو غيره عن آخر آلامك؟ هل آلمتك معدتك ذاك الفجر؟ إنّ تخيّل الأمر يجعل الألم ينفجر كمفرقعة نارية في دماغي وينتشر إلى كلّ عصب من أعصابي.. يصعقني، هذه كلمة تختصر ما أريد قوله، وما تفضّله أنت، الاختصار والتكثيف. لم تدعنا حتى نشعر بألمك الأخير، لم ترد إقلاقنا. كم أنت وديع! جو.
*
أنظر حولي فأرى قلوباً سوداء مليئة بالخبث والحقد، تحقد على كل ما حولها، أرى قلوباً قذرة لا تستحقّ إلا أن تدهس كالبندورة المهترئة، وأسأل القدر لماذا اختار قلبك أنت؟ حسناً إنه محقّ، فماذا تفيده القلوب العفنة؟ وحدها القلوب الحرّة المحلّقة تليق بلعبة الموت.
*
أسرّ إليّ حسين بن حمزة باعتراف ذات يوم: "بحسّ بالثقة بالحياة لأن جوزف موجود فيها"... ليس لأجل صدقها وشاعريتها حفظتها بل لأني كنت، من دون أن أعترف لنفسي أو لأحد، أتبناها.
كيف أعزّي حسين؟ حاولت كثيراً أن أكتب له إيميلاً وفشلت، كيف أواجه صوت حلمي على الهاتف؟ وبيار الذي كنت أنت محور صداقتنا ونجم أحاديثنا، كلانا مبهور بك، نحكي عنك ونردّد ما تقوله كي نشعر أننا نقول شيئاً له معنى!
*
تتضاعف فجيعتي لأنني بعيدة، لست بين أصحابك وأحبائك، لست في بيروتك، لن أمشي في جنازتك ولن أرمي وردة ولن أضيء شمعة فوق مكتبك، لن يواسيني أحد من زملائك، أحد ممن كانوا يرونك كل يوم...
*
جوزف .. لقد كنت عزاءنا. لقد كنت عزائي. كنت أعود إلى بيروت مرتاحة لأنني سأجدك هناك، في الطابق السادس من مبنى الكونكورد، وأشمّ رائحة بيروت في دخان سجائرك الهستيرية وفي الكولونيا العالقة فوق خدين يحمران خجلاً طفولياً، وأرى ما ستكون عليه المدينة من خلال كلامك عنها.. وفي مكالمة الجمعة طلبت مني أن أنزل إلى بيروت، ألا ترى كم أنك صعّبت الأمر عليّ؟
*
الآن لا تصمّ أذنيك وتتجاهلني فأنا سأبقى في انتظار مكالمتك الهاتفية، ألم تقل "بعد يومين"؟ ومن يدري متى يأتي اليومان اللذان قصدتهما، فربما بعد يومين من هذا العام أو الذي يليه، وربما بعد يومين من الحزن أو السعادة أو الانتظار اليائس، بعد يومين من انهمار الزهور فوق ألمك الأخير المكتوم؟...
*
ملاحظة لمن يقرأ: لا تعدّوا إشارات الاستفهام الكثيرة في كلامي، في السابق كنت ألجأ إلى جوزف ليعطيني الإجابات الشافية، اكتفوا بتقديم العزاء لأسئلتي فقد صارت منذ غادر جوزف يتيمة، ولم يعد قلبي يثق بخفقه ولا عاد يستبعد دخوله في نوبة جنون ما دامت قد تجرأت ذات فجر بارد على قلب كقلب جوزف سماحة.

بسمة الخطيب
الدوحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا