الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يوميات لاجئ سياسي أو منفي رغما ً عن أنفه

ربحان رمضان

2007 / 5 / 5
الادب والفن



في هذا الصباح الشمس تسطع نورا ً باردا كقلوب أهل هذه البلاد ، لادفئ فيها ولا حرارة ..
عاصم يمشي في شوارع خالية إلا من الشحاذين عازفي الموسيقى ينتظرون من المارّة رمي قطع نقود في قبعة التبرعات .
البارحة بلغت درجة الحرارة في مدينته التي يعيش فيها /24/ درجة تحت الصفر ... تحمم " بعد عشر ساعات من العمل المتواصل " لإزالة الرائحة الكريهة الناتجة عن تعامله مع المواد الكيميائية ، خرج من المعمل قاصدا ً البوابة الرئيسية للموقع في مدينة المعامل وكالعادة مشيا ً على الأقدام لأنه لايملك سيارة كالآخرين ، لكن ولحظه التعيس وجد أن البوابة مغلقة ، فقد اشتغل أكثر من الساعات المحددة لوقت عمله ، ولم تعد هناك مواصلات ولا أدوات إتصال ..
جاءه الشرطي (حارس البوابة ) بسيارته فتنفس الصعداء وبدلا ً من أن يفتح الشرطي له الباب (والذي كان قد أغلقه لتوه) أجبره على تحويل طريقه إلى الباب الرئيسي الآخر الذي يبعد خمسة أو ستة كيلو مترات ..
- من فضلك ، افتح الباب .. رجاه عاصم ، فالطــريق إلى موقف الباص من هذا الباب أقرب ، والوقت متأخر ..
- لا ، بل اذهب من هناك ، الطريق يتحمل دقيقتين لا أكثر ، ردّ عليه الشرطي أو حارس البوابة .
– دقيقتين ؟؟ !!
- دقيقتان بالسيارة ، هذا إذا كنت أملك سيارة ياأخو ..
- شتمه بلغته التي تعلمها من أمه .
ومشى ، وطول الطريق كان يحاول إيقاف أية سيارة عابرة دون جدوى .. لم تقف ولا واحدة .
شعر بقساوة البرد ، نَفسه يتجمد ويتحول إلى طبقة جليدية على شـاربيه اللذين رباهما منذ ثلاثين عام ..
يتابع شتمه للقانون ، وللشرطي ، وللشرطة وهو في طريقه إلى الباب الآخر ..

تذكر تلك المرأة – المقدامة – في ربيعها الثالث ، التي تـَركت أطفالها عند جارتها (الحاجة ليلى ) وسافرت معه إلى العاصمة اللبنانية بيروت لتقدم حبا ً للوطن وتجازف من أجله ..
حملت في بطنها تحت الثوب ألفي جريدة لآخر عدد من جريدة الحزب المركزية (اتحاد الشعب) و تظاهرت بأنها حبلى ، فلم تستوقفهما في ذلك اليوم أجهزة الأمن المنتشرة على الطريق إلا في نقطة الحدود (الأمن العام) حيث أتم ّ السائق معاملة السفر ..
وفي اليوم التالي تابعت الرفيقة مهمتها ، وسـَـلمت (الأمانة) للرفاق الذين قاموا بتوزيع العدد في الوقت المحدد ..
مرّت بخاطره صورا ً لرحلة اعتاد على القيام بها كل سنة مع رفاقه وجماهير حزبه بمناسبة العيد القومي للشعب الكردي (نوروز) .
تلك الرحلة المميزة التي كانت تشارك فيها قوى ، وأحزاب ، وفعاليات فنية مختلفة لعبت دورا ً كبيرا ً في إحياء التراث وإيقاظ الشعور القومي الذي أدّى فيما بعد إلى مسيرة جماهيرية أرهبت أجهزة أمن النظام الحاكم في الوطن .
ورحلات وندوات وتظاهرات بمناسبة عيد العمال ، وعيد الجلاء ، وذكرى مولد المعلم لينين ، وبمناسبة يوم الصحافة ، وأحيانا ً للتضامن مع حركات التحرر الوطني التي كانت تتصاعد في أرجاء آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية .. ومع شعوره بالأسف تذكر أنه لم تتضامن معه أومع شعبه ولا حركة من تلك الحركات الثورجية ..

تذكر ( وهو يقطع الأوتوستراد ) كيف تمكن من أن ينفذ بجلده لمّـا هرب من البسطار وظله المخيف ، منذ عشر سنوات (عمر منفاه) ، فيحمد الله على أن عمله السياسي جعله يتقن فن الهرب ، ويتعوذ من شر ذكريات تفاجئه كوابيسا ًفي النوم واليقظة ..
يتسائل عن سبب إحجام (الحركات الثورجية) عن التضامن مع قضيته رغم أنه قبل وبعد اعتقاله في أقبية المخابرات ناضل مع رفاق دربه من أجل تحقيق شعار التآخي الذي تخوزق بسببه سليمان الأول ** ، فتنغص عليه حياته ، ويتجسد الحلم حقيقة..
يتعوذ ولا يزال في طريقه إلى موقف الباص من الخوف .. الخوف من الموت جوعا ً أو كبتا ً – أو اكتئابا ًً بسبب السكوت عن الحق والتطرق إلى الظلم القومي الذي تمارسه فئة فرضت على الناس (والناس وكما نعرف أنها : لاحول ولا قوة) ..
الخوف من تاريخ الظلم ( والتاريخ وكما نعلم يكتبه المنتصرون) الذي استفحل مع استعمار الغرب لبلاد الشرق وتقسيم المنطقة اعتباطيا ً متجاوزا ً التقسيم الأثني وتعدد اللغات فيها ، وفرض أنظمة تابعة أو مسايرة ، اعتمدت في ممارستها للسلطة على القمع وفتح عشرات فروع القمع في كل المدن والقصبات .. كل ذلك باسم الوطنية ، وضرورة استرجاع ما خسرته الأمة العربية بعد خروجها من اشبيليا وقرطبة وغرناطة ، وبقية بلاد المسلمين .
بالظلم تثبت وجودها ، بنفيها لأبناء الوطن بكل تركيباته الدينية ، والأثنية وكأن ذلك هو الانتقام ..!!

في منفاه البعيد أيضا ً ومع قبول الغرب لهذه الجموع من المغتربين ، والمنفيين ، والباحثين عن لقمة العيش كيفما اتفق وبأي عمل ، كان يرى إن القادمون إلى هذه الديار معرضون للطرد التعسفي بأي وقت ، ولأي سبب كان ، بل أن قبول بعضهم للعمل يخضع لاعتبار أنهم شئ كلا شئ البتة ..!!

في هذا العالم الغريب تضيع المسافات والأصول ، والرؤى ، والديانات ، والأفكار التي تسمو بنا إلى الوطن ..
القادمون " معظمهم " يتحاشوا الالتقاء والاجتماع لأنهم يكذبوا منذ أن تطأ أقدامهم بلاد المنفى التي وصلوها نتيجة القهر السياسي في أوطانهم التي يحكمها الطامحون لتقليد الأميركان في سيادة العالم ..

عاصم تنتابه في منفاه فكرة الصراخ ملئ فمه ..
في بيته .. في حديقة .. في أية مقبرة مغلقة الأبواب على سكانها النائمين بسلام ..
في هذي الديار العويل ، والصراخ ، والموسيقى ممنوعة إلا عبر الأسلاك التي تصل الأذن بآلة تسجيل أو مذياع يكرر يوميا ً ما تريده هيئة الأمم بقيادة الأميركان الجاهزين دائما ً للتدخل السريع في أي بلد يخالف القانون ، لأن عصر القرن الواحد والعشرين هو عصر السرعة في سقوط الحضارات ..


في العام الماضي عمل عاصم كبائع متجول لصحيفة محلية ، ليس بائعا ً بالمعنى الحقيقي للكلمة ولكنه كان يجاوب من يسأله عن مهنته بأنه بائع صحف . كان يقف على الخط الفاصل بين ممري الذهاب والإياب في نقطة عبور (سان بولتن) في مدينة لينز النمساوية الواقعة على حدود التشيك بين الساعة الخامسة والسابعة والنصف صباحا ً .. يتصنع ابتسامته لسائقي السيارات التي تمر على طرفي الطريق كي يششتروا منه بضاعته المؤمن عليه .. كان يرجف من البرد رغم أنه يلبس ثلاثة جوارب مع بعضها البعض ، وسروالين ، وبلوفر فوق بلوفر ومعطف ، ويعتمر كوفية من الصوف اشتغلتها له أمه قبل سنوات منفاه ، في تلك الفترة (تذكر عاصم) أنه تزحلق مرتين في يوم واحد كانت الأرض فيه كالصابون لتجمّدها ..

وفي الشهر المنصرم وعند الباب الأول طلب منه حارس الباب لمنطقة المعامل بطاقة العمل في الفويست ألبينا (مدينة المعامل) .. قبل دقائق معدودة من البدء بالعمل ، فأشهر له تصريحا ً من الشركة التي يعمل بها تثبت أنه من عمال الفويست ، لم يرضى به الحارس ، وأرغمه على تغيير طريقه إلى الباب الثاني ..

صفاته توحي لأهل البلد وشرطتها بأنه من الشرق .. رغم ذلك لم يحلق شاربيه ..

قبل ستة أشهر ذهب إلى بلدية المدينة لكتابة وصيته " فيما لو مات في المنفى " :
أنا الموقع أدناه .... مواليد 00/0/0000 أتبرع بعيــوني " إذا بقيت هكذا فيكسونيرت " * لأي فنان من بلادي يرى الجمال فيخلقه من جديد على لوحة زيتية ، أويلحنه لحنا ً في موسيقى تطرب له حبيباتي ، وكل النسوة الجميلات ..
أو لغجري لا يشبع من رؤية جمال الوطن عبر ترحاله الدائم ..
أصرح بأني أريد أن يحرق جسدي بعد الموت وتجمع بقايا رماده في زجاجة عطر ، تعود إلى الوطن في جيب شخص عائد ، أو لاجئ زائر خلسة ، بدون جواز سفر (كما أتيت من هناك) لأني مازلت ممنوعا ً من تجاوز حدود بلادي منذ السادس والعشرين من آذار عام 1979 ..
ردّ عليه الموظف بجواب واف ٍ قائلا ً :
يجب عليك حجز صندوق في مقبرة المدينة .. يمكنك تسديد القسط الأول (ثلاثة آلاف شلنغ) لدى عاملة الصندوق ، وتعود إلي لأكمل لك المعاملة ونحفظ لك الرماد المتخلف عن حرق الجثة ..
خرج ليحضر المبلغ .. مرّ بشارع المدينة الرئيسي ، توقف عند حصالة النقود (آلة البنكومات) فتح حقيبته ليخرج بطاقة البنك ، رأى صورة أبيه الجليل الذي ُأستشهد في غارة اسرائيلية على موقع مدني يجتمع فيه بقايا المحاربين القدماء ..

َترحَمَ عليه .. قرأ الفاتحة ووهبها له ولأمه ولأخيه الذي مات في مقلع للحجارة ، ولعمته التي توفت بمرض خبيث ، ولكل المؤمنين بالله ، وباليوم الموعود ..

أعاد المحفظة .. ألغى الفكرة ..
قرر أن يدفن في الوطن .



* كاتب وناشط سياسي
** سليماننا االأول : هو سليمان الحلبي (سليمان محمد أمين) الذي اغتال كليبر قائد الحملة الفرنسية على مصر ، وهو كردي من قرية كوركان في جبل الأكراد شمال حلب . أما سليمان الثاني فهو الشاب الشهيد سليمان آدي الذي اغتالته قوات الحرس الجمهوري في مظاهرة نوروز السلمية عام 1986 بدمشق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لما تعزم الكراش على سينما الصبح ??


.. موسيقى وأجواء بهجة في أول أيام العام الدراسى بجامعة القاهرة




.. بتكلفة 22 مليون جنيه.. قصر ثقافة الزعيم جمال عبد الناصر يخلد


.. الكلب رامبو بقى نجم سينمائي بس عايز ينام ?? في استوديو #معكم




.. الحب بين أبطال فيلم السيد رامبو -الصحاب- ?