الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لعلها لعنة .. وربما كانت

علاء الدين شاموق

2003 / 8 / 30
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


 

هل يذكر أحدكم أنه سمع قريباً أو بعيداً حس طيرٍ يغني في منافي الشتات المسماة زوراً أوطاناً ؟ هل لا زالت هناك طيور بتلك البلاد .. حقيقة حاولت البارحة - يعني أمس - أن أتذكر وجاهدت نفسي مجاهدة شديدة علني أظفر ببقايا صوت زرزور في الذاكرة، ورغم أن ذاكرتي صغيرة لا ترقى لمستوى الذواكر الديناصورية وعمري هزيل جداً في هذه الدنيا، إلا أنني عجزت وصاحت بي ذاكرتي (حرام كفاية) لأنني أنهكت قدراتها في البحث عن ذكرى خرافية وتجربة لم تمر بها، فقلت لها (فعلاً حرام كفاية).

 

ليست مزايدة على وطنٍ، لأن كل وطنٍ بطبعه زائد، ولا تحاملاً على حكومته الإسلامية المقدسة، فنحن نحب الإسلام، حتى لا يظن أحد أنني أتهمها – حكومته - بقتل الطيور حداً .. لأن الغناء حرام (رجسٌ من عمل الشيطان)، ولكنه مجرد تساؤل بريء، وطالما أنه مر بي مرور الأكرمين، فإنه قطعاً لن يكون وحياً سماوياً ولا هاتفاً من الله، بل هو طائف قد يطوف بأذهان الكثيرين، لذا أجدني أسأل، علني أظفر بجواب، لدرجة أنني سألت حَسين الهندي – جاري وصديقي الذي أدوبي له أحيانا ونغني سوياًَ، كلٌ بلغته، مساديراً في حب الأوطان حينما تتفجر براكين القهر في دواخلنا – سألته : هل رأيت، حَسين، طيراً بالسودان ؟ فنظر إلي وقال بلغته العربية التي تنتمي لـ (عربية مومباي) : "عَلاء .. مُخْ خربان".

 

خراب المخ الذي هو القلب أحياناً، هو آخر مراحل خراب الإنسان، قد تعطب العين وقد يعطب اللسان، وقد تعطب اليدين، ولا تتوقف الحياة، لكن عطباً يصيب القلب، هو حقاً عطبٌ يستدعي تدخل النطاس، ربما كان مساً من شيطان رجيم، يسكن في المزابل كلها، ويستدعي تدخلاً روحانياً من بعض أولياء الله الصالحين، سنحزن كثيراً ونخاف (نحن معطوبي القلوب)، ولا عزاء للموتى .. فدع الموتى يدفنون موتاهم وقم اتبعني يا سمعان إلى ملكوت الله.

 

تذكرت مسبحة الخشب، خشب قلب شجرة الزيتون، لا أدري لماذا نصنع المسابح في بلادنا من خشب الزيتون، والزيتون ثمرة محرمة علينا في بلاد يموت الشِعر فيها عطشاً وهو يبحث عن دواة حبر، هذه المسبحة التي أهدانيها شيخٌ قادري وقال لي : بني .. عليك بأورادك، عض عليها بالأسنان والنواجذ، فلثمت كفه تبركاً، وأخذت المسبحة الخشبية المصنوعة كما قلتُ من خشب قلب الزيتون، لأهملها في قعر درج تتراكم فيه الأتربة و(الأغبرة)، كما أهملت نفسي حين خرجت من رحمة الرحموت إلى ظلم الجبروت، وقهر المنافي للمستضعفين.

 

قلت يا الله، بجاه سيدي عبد القادر الجيلاني ساكن بغداد شمس الظهيرة الضاحية المنيرة، بجاه أبي وسيدي عبد الباقي المكاشفي ساكن (الشكينيبة)، بجاه الأولياء الصالحين أن تصلي وتسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم، بجاههم العظيم أعدني إلهي إلى نقطة الصفر.

 

حتى أنت يا عبد القادر عانيت مثلنا من هذه الدنيا، مالذي يجعلك تولد في كيلان وتدفن في بغداد غير هذه الدنيا اللعينة، ولكنك محظوظ انك لم تمت وفي النفس حسرات، لم تنفق حياتك لاهثاً وراء سراب يحسبه الظمآن ماء، لم تمت يا سيدي في مدينة ليس بها نساء. لا أتصور أن أدفن في غير ديارٍ أرضعتني التعاسة وحبها الأبدي، مهماً صرت بعيداً، ومهماً ترامتني المنافي وتمسكت بي لأموت قهراً بها، لا وألف لا أيتها البلاد الكئيبة يا مدن الملح الصفراء عديمة النكهة .. سحقاً.

 

أتذكُرُ يا عود الكبريت كيف أحرقت بك عامداً ذات يومٍ يائس (حزب السيف)، وكيف ضحكت بفرحٍ طفوليٍ عليك وأنت تذوي، يقال أنه (حزب السيف) في عالم اللاوعي أحدُّ من حدِّ السيف وأمضى من سنا برق السماء، رغماً عن صفحاته العشر، ربما أحرقته خوفاً من العسس والعيون والآذان المنتشرة في كل ركن من أركان هذا المنفى الكئيب، أتركونا – رجاءً - نعبد ما نشاء وأنتم أعبدوا ما تشاءون ألم يقل الله : لكم دينكم ولي دين ؟

 

آه يا مسبحة الزيتون لو تدرين أين وجدتك، مهملة منسية، وحاولت حث ذاكرتي مرةً أخرى، علها تسعفني بأورادي القادرية، لتعيد الروح إلى جسد الزيتون، تلك الأوراد التي قطعت الفيافي والبحار للحصول عليها من شيخٍ أكل الدهر عليه وشرب كما أكل هو على الدهر وعَطِشْ، عبثاً حاولت فقد مضى على آخر مرة رتلتها حيناً من الدهر لم أكن شيئاً مذكوراً.

 

ما أجمل الله بتلك البلاد (وجهاً يضوء في الأزقة كلها) .. ما أجمل الصلاة بها (بلاد الشمس)، يا نفس علاء، أيتها التعيسة، كل ما تريدين أعطيتك .. حتى أرضيتك، هل تضنين علي بساعة واحدة يتيمة، لا يجود الزمان بمثلها، مع الله ؟ أحكي له كيف أن خلفاءه خانوا الأمانة، وأن النساء صرن جميعاً (.......)، ما أتعسك .. لقد أستحوذ عليك الشيطان كما استحوذ علي، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذي تعلق صورته في جميع مكاتب الدولة ومواخيرها وخماراتها، ليتني أنتهي وليتك يا راعي النجوم تعود سريعاً .. ألم تقل لي يا كاذب إنها ساعاتٍ فقط وتعود .. لتقتل هذه الليلة المريرة من ليالي المرارة الشائهة .. برمحك الثلاثي الشُّعَبْ (Trident).

 

حَسين يا صديقي ليتك تعلم أننا هنا أقل قيمةً من دمعة تهرق علينا، ومن كفن يواري سوءاتنا، ومن ثمن جالون بنزين رخيص يوصلنا إلى المقبرة، هل أنت مصيب حينما قلت لي (This is bad place to live)، أصبت كبد الحقيقة، وأنا أقول لك – مصداقاً لقولك – (This is bad place to die)، كلانا في الهمّ (East)، وبلاد العرب عليها السلام، وعلى نبيهم ألف صلاة وسلام.

 

كلانا غريبان هاهنا .. وكل غريب للغريب نسيبٌ، تظنني يا حسين عربياً أسود اللون حين تسمعني أرطن العربية مع هؤلاء القوم، ولكنني يا حَسين عجمي الهوى، وأسود الحظ – حالك السواد – حين قيل لي كن فكنت، ليتني ولدت بدكَّا على عربة ريكشو أو ببيت خوصٍ في سومطرة لكنت معتزاً هذا اليوم بكينونتي وذاتي الأعجمية، ولكن سحقاً .. وليخسأ الخاسئون كما يقول المعلول حين يشتد به ألم الداء.

 

هل لا زالت صديقتي الجميلة دافئة كبيت النار كما تركتها، أم أن مرتزقة الدفاع المدني قد أطفأوا جذوة نارها إلى الأبد .. يا وقادة بعتمة الليالي السود، ليتك تعلمين أنك استحلت نجمة في أعلى قبة السماء، حتى ظن من حولي أن بي مساً من الجنون، وقال أكبرهم ألم أقل لكم دعوه وحيداً يعد النجوم .. نعم سأعدها وأعد فوتوناتها الضوئية حتى إن أمطرت السماء خمراً، أو العينين حزناً نسميه دمعاً، وأعود لقلبي حسيراً فمن تراه غيره يعرف ما بي نيران، وجدت قلبي مخموراً فأنشدت معه بردة البوصيري حتى وصلنا إلى قوله : فما لقلبي إن قلت استفق .. يَهِمِ .. فهام قلبي هياماً لا هوادة فيه، ونمت أنا.

 

أعود لطيري المغني .. (تارك الأوطان جنوبْ) .. أتركوه (حرامٌ عليكم) يغني ويشتعل بالغناء، ما ذنبه تحرم صغاره حتى من أكنتها، وتكمم أفواهها وهي (تلوك الصبر)، ليتني كنت فيهم جذعاً، لكنت ناصرها عليكم يا قساة القلوب. خذ يا طير الحانة مني مسبحة الزيتون، وأورادي القادرية، وسجادة قش كنت استعرتها من ياقوت العرش، عد بها فوراً إلى أقرب وطن تجده .. وإن صادفتك أمي في طريقك فقل لها : ابنك مُعتلُّ الفؤاد. خذ معك أيضاً حَسين وألقه في أقرب سلة محذوفات (Recycle Bin) تجدها، فهي يقيناً أفضل من هذه التي نحن بها، لقد أدمن – حَسين - كل المنافي إلا هذا يكاد يختنق فيه، وبالله عليك إن رأيت في طريق عودتك أيضاً ضريح عبد القادر ورأيت مدينة بغداد وجنود اليانكي الصعاليك يسرحون بها ويمرحون، أن تقول لهم (تُفّ عليكم وعلينا).

 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -