الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما تصحرت .. يا - جريح الحال والذكرى -

محمد فهيم

2007 / 5 / 15
الادب والفن


ديوان"كأني أحلتني حدود بلادي للشاعر المغربي المقيم بفرنسا جمال خيري:

" شهادة الليل عليه :جميل مثل غريب يدخل البيت فيضيئه"
ما تصحرت .. يا " جريح الحال والذكرى "
هي ذي نصوص تتقاذف من فوهة ذاكرة تنبعث من وحل و ضباب ، يدحرجها الشاعر جمال خيري في عوالم " انهياراتها " اللامتناهية ..يدحرجها في زمنه الشعري الباذخ و في جغرافية الخطى والتيه والرؤيا ، قلقا وجوديا مضاءا بالعلامات والإشارات الداخلية للشاعر، ذاكرة يدحرجها بين كيمياء الوطن السادية وبين الصقيع الباريسي حتى يمخر في سراديب الوجود على إيقاعات وأصوات RER حيث اللاوطن، حيث الغياب الفادح والفاجع لفراش وخطاف الوطن وما تبقى من " أولاد الفاسية " لكن يا صاحبي " ما يبقى يؤسسه الشعراء " كما لو أنك ترتق العصب وأكواخ ومستنقعات درب السلطان وزنقة شاطودو/جوسق الماء بحبل سري تدخله إلى مختبرك بعناية فائقة ومركزة خشية أن يطارده التعفن والانطفاء ذات خذلان ماحق.وكأنك تزرع أعضاءك الشعرية المروضة وباريس والوطن في كبد واحد أوفي كبد واحدة.هو ذا الشاعر يسافر في الأزمنة والعناصر الوجودية ممتطيا دمه، كي يشق مياه المتوسط، هذا المارد اللعين، والضفة الأخرى للموت.إلى أن يبوح الشاعر بكل هذا "التعب" المذهل وجسده أعزل إلا من الشعر والزغب والمثخن بالعشق"للحبيبة والوطن"وسريا باسكال وأنساغها في "حنو أزلي " ، يترصد القصيدة ذاك " العشق المتحقق لرغبة ظلت رغبة " كما يزعم الفظيع روني شار .يتأبط الشاعر استعاراته اليومية ،موغلا في أدغال لغة بلا قرار، صحبة هذا الهباء والبهاء المدهش حقا ، تسكنه القصيدة –اللقاء بالتعبير الهايدغري الباذخ، فيخلصها من داء فقدان المعنى المتفشي في جسد القصيدة المعاصرة ، بعد أن اقتفى مجاهلها الخالبة اللانهائية ،حتى إذا ما أعلن " القحط" سطوته السرطانية على الوجود، حرث جمال خيري العدم شعرا، بعد ما انبت لجسده الشعري "حوضا" حتى يباغته "الحيض" فيلقح "شجر يتمر النساء" ضد الاحمرار "بالقمح والفرح".أو كما اشتهى أدونيس ذات كتاب:
(( لا وقت في الأرض ،
إلا لكي نجعل الأرض شعرا ))
إذ ذاك ، يتسلل النص الشعري من الأصابع الضوئية ، يستعيد حواسه، يفتض عذريته ، ويغادر نعوش وأكفان الوطن متضرجا في صدأ المرافئ ، لربما الشاعر يعتق النص من سطوته وقتله له كل لحظة وحين أو لربما يستأصله كورم لا يشتهي في هذا الزمن ذو الرعونة الأشد سوى أكباد القصيدة والتشكيل .
هكذا خيل إلي، في المجموعة الأولى من ديوان " وكأني أحلتني حدود بلادي.." للشاعر جمال خيري المقيم في جينات القصيدة ،والمشمس من القارة العجوز، أن العتبات أجمل استفزازا ، حد أنك تخطو فوق صفيحة ساخنة أو على أرض هشة ، يشتهيك قعرها ، وبينك وبين الانفلات اللامساحة واللاحد.
هكذا ينتصب هيغل و فوكو و غوته ،كعتبات أشد توهجا تحتفي بالنداءات العميقة للفكر ،حيث العلاقة التوأمية بين الفكر والشعر. فيما الشاعر يحاور القيد والحدود والوطن في سبيكة واحدة، لكن يا صاحبي، الحد لا يرديك قتيلا بل يرديك " لسانا للحكمة " لسانا للحال ، مأهولا بضوء الأفق، مسكونا ببلاغة " الكلمات والأشياء " موسوما بأبجدية الألفية الثالثة ، محركا أطناب القصيدة في طي وللي وشد وضم . لكن ياصاحبي من أين أتيت بالشعر إلى العالم ؟ وتركته يندلع فينا ويبهج حواسنا المنكمشة و المنهكة. ثم كيف تسللت إلى سجايانا حين لدعتها نار الوطن ؟ ثم كيف انطلقت في استخفاء إلى ثنايا الروح؟ عسى أن تخلصنا من هذه الجلبة الوجودية الهوجاء .ثم كيف استحال موتك شكلا آخر للفنيق ، أو كما يقول نيتشه (( يجب أن تتقبل الاحتراق بلهيبك، إذ كيف تريد أن تتجدد دون أن تتحول إلى رماد )) ثم كيف يصير موتك " طفولة ثانية للمادة" ؟ و أنت القائل :
((وإني...إن مت يستحيل الرميم
نخلة..
يحتج لشموخها ،
وجه القمر،))-1-
ها أنت بالشعر تشق عصى الموت والوطن. وحدها باريس لفتك في صدرها بعد أن لفظتك الحدود ذات تهجير بصيغة الجمع. وديوانك انتهاك لا تقديس حينما افتضح أمر الوطن وتفاصيل فظاعاته ببلاغة القلب وفصاحة الدم حيث الوطن خريطة من دم ودمع وأهوال و آلة جهنمية مدججة بالجلادين وعوالم من سجون ووحل و "أيام العدس" ودهاليز من غربة ومقاصل وجغرافية للمشانق والمقابر. هكذا يعلن الشاعر بلسان الجرح عن الموت الصاعق للوطن متساوقا مع الموت المبكر و الكارثي للأب ، موت اقترفه "حلفاء الحيف ":
((قد يبدو الوطن ميتا
مات أبي أمسا
والوطن أمسى قبرا
للوطن المجهول)) -2-
ها قد أفصح الديوان عن جينولوجيا للفواجع وللفوادح عن الكثافة الرمزية للتيمة الحربائية للوطن، ككتلة ملتبسة أو لربما كمشيمة تتعفن وتتلاشى غير أنها تتجدد ما لانهاية .بيد أن الشاعر يسحب القصيدة من وطنها المحض ، متدفقا بصحبتها في الكوني ومفككا للأسطورة ومعيدا بناء الحلم المخترق لكل حصارات الزمن المليء بالاغتراب والرعونة . وقد بدا أن قصائد الديوان تمتاح من النمط السيزيفي، بحيث أن دحرجة الكائنات و"الأشياء" لاتفارق أنفاس وإيقاعات الديوان، كالأرض والوطن و"الحجر" و"الحنق" و"صحاب الحي" ، وكأن الشاعر يحرس الأرض من العدم ويرويها بدمه كما لو أنه يشارك في الإيقاعات الكونية :
(( أن الأرض صخرتي
أدحرجها ...
وأذبح الجرح لأروي مجراها ))-3-
يبدو لي أن ثمة ضوء جمالي خلاق ينبعث من البؤرة الشكلية للقصيدة، حيث الشاعر يخرج النص من عزلته الشكلية من انحصاره إلى امتداداته، من نمطيته إلى تعدديته، من مركزيته إلى هوامشه، يقاوم النص ذاته حتى لا يسقط صريع التدجين والترويض . تميل الجملة الشعرية وتنحدر متدرجة بين السيلان والانكسار و الانطفاء، والجسد اللفظي يمزق أطرافه ويخلخل كيانه ومعماريته ويكشف عن شروخه الغائرة ، وعن هدم لنمطية الشكل الأوحد للكتابة ،فيما يخصب الشاعر القصيدة مقيما داخل هذا الكم الهائل من الدلالات والعلاقات الداخلية والتضاد والتنافر والقلق المزمن و " حرقة الأسئلة " والإيقاعات " المتموجة " حيث التمدد والتشتت والانقباض .
هي ذي عوالم الشاعر جمال خيري المليء بالشمس يلتهب عشقا في المجرة الشعرية، مسقط رأسه، والرأس يسقط مرتين بعد أن لفظتك "حدود بلادي". فلا شلت يدك يا صاحبي...
محمد فهيم
مارس 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??