الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوة الاميريكية ووهم السيطرة على العالم

محمد بن سعيد الفطيسي

2007 / 5 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


إن قراءة متأنية في مجريات التاريخ , لتأكد لنا بان القوة لا يمكن لها أن تكون بحد ذاتها وسيلة ناجحة للتفوق على الآخرين , او أن تصبح العصا السحرية التي يمكن لها أن تحافظ على ذلك التفوق لفترة زمنية لا متناهية , حيث يفترض أن ترافق تلك القوة الصلبة عدد من المحسنات الطرية والناعمة , وذلك بهدف خلق توازن ما بين القوة العسكرية والايدولوجيا السياسية , وبالفعل فقد أثبتت التجارب فشل جميع محاولات القوى العظمى السابقة للتفرد دون مشاركة الآخرين في تشكيل وبناء الإطار الجيوبوليتيكي و الجيواستراتيجي للعالم من ذلك المنظور , وواحد من تلك الأمثلة الحاضرة على ذلك , هي الولايات المتحدة الاميريكة , حيث بات من المؤكد أن هذه الأخيرة غير قادرة على مواصلة هيمنتها على العالم دون أستاذان من الآخرين , وليس ذلك لكون الولايات المتحدة الاميريكة باتت اضعف من أن تواصل تفردها الأحادي على ساحة الصراع الدولية , وإنما بسبب وجود عدد من القضايا والمشاكل العالمية التي يستحيل على هذه الأخيرة العمل عليها لوحدها , او من دون مشاركة الآخرين في حلها , كمشكلة الإرهاب والسعي للتسلح النووي على سبيل المثال لا الحصر 0
وقد كانت تلك العوامل السابقة هي نفسها المؤثرات التي أدت إلى انهيار احد ابرز الإمبراطوريات التي شكلت الإطار التاريخي للقرن العشرون - أي - الاتحاد السوفيتي , والذي كانت فيه فلسفة القوة الصلبة والتقوقع الأيديولوجي الطابع الغالب على بناءه الايديوبوليتيكي العالمي , بحيث أصبح فيما بعد , هو بحد ذاته واحد من أهم العوامل الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكة التاريخية , التي سببت انهيار إطار التوازن الاستراتيجي للقوى العظمى في العالم اليوم , مما ساهم وبشكل ملحوظ في بروز الإمبراطورية الاميريكية كلاعب رئيسي ومتفرد على رقعة الشطرنج الدولية , وبالتالي فقد شكل ذلك الانهيار الزمني و التحول التاريخي أهم لبنات الإطار الجديد للخارطة الدولية الجيواستراتيجية والجيوبوليتيكة المعاصرة للعالم , والتي سنطلق عليها تسمية " العجينة الاميريكة " , وقد تبع ذلك التحول فيما بعد , عدد من التوابع الزلزالية التي سببت تحطم جل القيم والمفاهيم السياسية المتعارف عليها قبل ذلك الشرخ الزمني , - أي - أن ذلك الانهيار لم يكن على مستوى التراجع التاريخي لبعض القوى والإمبراطوريات على حساب الأخرى , بل كان انهيار تاريخيا كاملا للايدولوجيا السياسية والمفاهيم الجيواستراتيجية المعاصرة , وبمعنى آخر , فقد ولدت مع ظهور هذه الإمبراطورية عدد من الأيديولوجيات السياسية والعسكرية , وانتهى كذلك عدد آخر منها بانهيار الاتحاد السوفيتي 0
وعليه فقد شاهد العالم بأسره , ولادة عصر التفرد الاميريكي على كرتنا الأرضية , منذ اللحظة الأولى التي ودعت فيها قباب الكرملين المطرقة والمنجل , وذلك بإنزال العلم الشيوعي الأحمر من سماءها , بحيث بات بعد ذلك الهرب من الأيقونات الاميريكة بمختلف أنواعها وأشكالها , أشبه بمحاولة الواحد منا الهرب من ظله تحت وهج الشمس في العراء , وهكذا استمرت تلك الإمبراطورية كفرس جامح لا منافس له على حلبة الصراع العالمي , وباختصار فقد شكل قناع الاستعمار الاميريكي للعالم , نظام أحادي من الفلسفات والمفاهيم والمصطلحات الأيديولوجية السياسية الحديثة , التي أقنعت جل سكان الأرض بان العالم قد بات يدور في فلكها , وان ذلك الفلك سيظل في التوسع والامتداد إلى مالا نهاية 0
ولكن ما لم يكن متوقعا للكثيرين , هو سرعة تقلص ذلك الفلك وانزواءه بعد اكتمال دورته بعقد من الزمن لا أكثر , - أي - أن القرن الحادي والعشرون , قد حمل معه تأكيد عدد من التنبؤات والتحليلات التي توقعت بداية انهيار النظام الامبريالي الاستعماري الاميريكي بسرعة فاقت سرعة ظهوره , وان أيام القطب الأوحد قد باتت أشبه بمحاولة الولايات المتحدة الاميريكة , المحافظة على مكعب من الثلج في عز الصيف , وهذه هي إحدى الحقائق التاريخية الأبدية التي لا يمكن الانسلاخ منها , وهي انه لا شي يدوم إلى الأبد في عالم السياسة , فقبل سنوات مضت كانت العولمة الاقتصادية قد وصلت إلى مرحلة مشابهة في بعض جوانبها لما هي عليه اليوم , من حيث قوة التمويل العالمي الذي يركز على مقياس الذهب كمصدر من مصادر البقاء والقوة , وكانت الهجرة على مستويات لم يسبق لها مثيل , والتجارة آخذة في التزايد , وكانت شمس الإمبراطورية البريطانية لا يتوقع أن تغيب عن سماءها مطلقا 0
وكما قال المؤلف وليام بفاف فان ( الباحثين السياسيين والاقتصاديين المسؤولين في سنة 1900م , كانوا سيصفون آفاق القرن العشرون بلا شك على أنها ستشهد استمرار المنافسات الاستعمارية ضمن عالم تسيطر عليه أوربا , مع استمرار الأوربيين في استعبادهم الأبوي لمستعمراتهم الأسيوية والإفريقية , واستمرار الحكم الدستوري الصلب في أوربا الغربية , والازدهار المتنامي باطراد , وازدياد المعرفة العلمية المستخدمة لفائدة الإنسانية ) , وقد كان مجمل التوصيف السابق لإطار القرن العشرون غير صحيح , فقد تلا سنة 1900م حربين عالميتين , وعشرات الحروب الأخرى التي لم تنتهي حتى بعد أن أوشك ذلك القرن على توديع آخر أيامه , كما انتشرت الأيديولوجيات السياسية والاقتصادية بشكل نستطيع أن نطلق عليه بأنه وباء القرن الجديد , كالأنظمة الشمولية والفاشية وغيرها الكثير , وانتهت بنهايته الإمبراطوريات الأوربية التي توقع لها الاستمرار , كما انتهى الدور الأوربي نفسه كقوة جيواستراتيجية دولية موازية للقوى العالمية , كما انقلب اتجاه العولمة الاقتصادية بشكل لم يتصوره احد أبدا , ( فلم يصل إلى مستوياته التي كان عليها في سنة 1914 م , إلا في سبعينات القرن العشرون , ولذا فان من المتصور أن ذلك يمكن أن يحدث مرة أخرى ) 0
ومن هذا المنظور الحتمي التاريخي , فان بقاء الولايات المتحدة الاميريكة , خلال هذا القرن كقوة أحادية لا منافس لها صعب للغاية , وهذا ما يؤكده الواقع التاريخي الراهن , وذلك بالرغم من أن الظاهر بان الإمبراطورية الاميريكة لا زالت تمتلك من مقومات القوة والاستمرارية ما يمنحها بعض الوقت , فان أقصى ما نتوقع لها فيه أن تبقى كقطب واحد هو العام 2020 م , وهو تاريخ توقع له الكثير من المحللين والمراقبين الدوليين أن يتلوه او يواكبه ظهور عدد من المنافسين الدوليين على سيادة هذا العالم , ونحن هنا لا ننظر لانهيار الولايات المتحدة الاميريكة كقوة عالمية عسكرية او اقتصادية , ولكن كنهاية لتفرد أحادي دام أكثر من 15 سنة على العالم دون منافس , وذلك بسبب انزواءها وراء هيمنة صلبة قاسية , أبعدتها عن الآخرين , وجعلتهم يشعرون تجاهها بمشاعر الخوف والحقد والكراهية , ويسعون إلى احتواء هيمنها تلك , بل ويتعاونون على تشكيل تحالفات وتكتلات دولية اقتصادية وسياسية للحد من سطوتها وغطرستها على العالم 0
وكما أهدت الإمبراطورية الاميركية للعملاق الأحمر فيتنامه الخاصة على حد تشبيه بريجنسكي في ذلك الوقت , عندما تم اقتياده للجحيم الأفغاني , والذي كان احد أهم أسباب سقوطه المباشرة , فعندما سئل بريجينيسكي عما إذا كان نادما على فعلته أجاب : - اندم على ماذا؟ على فكرة رائعة كفلت استجلاب الدب الروسي إلى المستنقع الأفغاني , وتريدني إن اندم ؟! ففي اليوم الذي اجتاح فيه الجيش السوفيتي الحدود الأفغانية أبرقت إلى الرئيس كارتر قائلا : - ألان لدينا فرصة إهداء الاتحاد السوفيتي فيتنامه الخاصة , وبالفعل فقد تكبدت موسكو طوال عشر سنوات عناء حرب لا طاقة لها على احتمالها , فتداعيت معنويات جيشها في البدء , ثم انهارت الإمبـــراطورية السـوفيتية بـرمتها ).
فقد تكفلت الغطرسة الاميريكة ونهمها المتزايد للسيطرة على الرقعة الجيواستراتيجية للعالم وتهميشها للآخرين , بجعلها آلهة عمياء لا تشعر بوعورة الطريق الذي تسير فيه لوحدها , كما أن استخدام الولايات المتحدة الاميريكة للقوة كوسيلة من وسائل تحقيق السيادة على العالم , كان سببا من أسباب تراجع سياستها الطرية الناعمة وجاذبيتها الثقافية وقوتها الاقتصادية , وبالتالي فقد اقتادها ذلك الشغف إلى الهيمنة والسيادة إلى مستنقع زلق , بل إلى فيتنام ثانية دون أن تشعر بذلك , - ونقصد - بفيتنام ثانية هنا العراق , الذي لا زالت الولايات المتحدة الاميريكة تتكبد خسائر لا حدود لها فيه , بل ربما تتجاوز الخسائر الاميريكة المادية منها والبشرية ما تكبدته في حربها ضد الفيتناميين , هذا بالإضافة إلى صناعتها للفوضى الدولية الراهنة التي تصورت يوما بأنها ستكون الورقة الرابحة لها , في حين تحولت تلك الورقة إلى سديم مظلم لا نهاية له بالنسبة لها , بل ادخلها هي في حد ذاتها إلى ذلك العالم الفوضوي , - أي - أنها صنعت الرصاصة التي توقعت أن تصيب بها أعداءها , فإذا بها ترتد عليها 0
وها هي اليوم ومن جديد تحاول الاستمرار في نفس سياق اللعبة السابقة , والتي لا هدف لها سوى احتواء العالم بين ذراعيها , وذلك باستخدام القوة كوسيلة للسياسة , دون الاستفادة من مجريات التاريخ ودون أن تتعلم من تجارب الآخرين , فبعد العراق هاهي تتجه بكل ثقلها تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية , وذلك على خلفية سعي هذه الأخيرة لامتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية , وبما أن هذه النزعة قد أصبحت سمة من سمات التمدد الاميريكي في العالم , فمن المتوقع كذلك أن تكون سببا آخر لتسريع انهيارها وتراجع فلكها وسيادتها تلك 0

كاتب وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
سلطنة عمان








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مظاهرة أمام وزارة الدفاع اليابانية رفضا لشراء طائرات مسيرة م


.. عادل شديد: مسألة رون أراد تثير حساسية مفرطة لدى المجتمع الإس




.. دول غربية تسمح لأوكرانيا باستخدام أسلحتها لضرب أهداف داخل رو


.. ما دلالات رفض نصف ضباط الجيش الإسرائيلي الاستمرار بالخدمة بع




.. أهالي جباليا يحاولون استصلاح ما يمكن من المباني ليسكنوها